مجلة الرسالة/العدد 334/التاريخ في سير أبطاله
→ استطلاع صحفي | مجلة الرسالة - العدد 334 التاريخ في سير أبطاله [[مؤلف:|]] |
أنت. . . ← |
بتاريخ: 27 - 11 - 1939 |
مازيني
(رسول الحرية إلى قومه، المجاهد الذي أبلى في جهاده مثل
بلاء الأنبياء)
للأستاذ محمود الخفيف
- 4 -
على أن اليأس لم يعرف سبيلاً إلى قلبه الفتى حتى في مثل تلك المحنة؛ فراح بعد العدة لثورة جديدة يشعل نارها في بيدمنت، ثورة تأتي هذه المرة من الشعب وكان مازيني مختبئ في بيت أحد أصدقائه في مرسيليا إذ راحت الحكومة تطارده هو وأصحابه، فكان لا يخرج إلا تحت ستر الظلام متنكراً حتى لا يقع في يد الشرطة؛ ولما ضاق بسجنه هذا رحل إلى جنيف وأخذ يجمع المال في سويسرا لثورته الجديدة ولقد لاقى في سبيل ذلك من العناء ما لم يخففه على نفسه إلا شرف الغاية التي كان يسعى إلى بلوغها
وأعد في سويسرا من الرجال ألفاً وثمانمائة ليعبروا جبال الألب إلى بيدمنت، وكان يمني نفسه أن ينضم الناس في تلك الولاية إلى هؤلاء المغيرين فتشيع الثورة فيها وتتعداها إلى بقية الولايات، فيبرهن بذلك لشارل ألبرت أن جنده لم يهنوا من بطش أو يستكينوا إلى ما ضرب عليهم من ذلة، واختار لقيادة هؤلاء المجاهدين ضابطاً يدعى رامورينو حارب من قبل تحت راية بونابرت؛ ولكن رامورينو هذا قضى على الحركة بدل أن يسير بها إلى النجاح فلقد تلكأ في الحضور من باريس حيث راح يبدد المال الذي جمعه مازيني درهما إلى درهم؛ ولما حضر سار بجنده وإنه ليخفى في نفسه غير ما يبديه، وكان هؤلاء قد فترت الحماسة في قلوبهم لطول انتظارهم قائدهم، فما لبثوا أن ذهبت ريحهم وباءوا بفشل عظيم. . .
وأحس الغريب اللاغب بالهم والنصب يخترمان جسمه النحيل فسقط من الإعياء قوامه السمهري، وتمدد على فراشه أياماً كاد فيها المرض أن يودي بروحه فيطفئ ذلك السراج الوهاج ولما يؤد رسالته على تمام وتداركه لطف ربه فبرئ مما ألم به؛ وكانت تخفف عنه آلامه وتسري عن فؤاده سيدة أحبها فكانت له في شدته ملاك الرحمة وذلك من فضل الله عليه
ولم يكد يستعيد قوته حتى ألفى الحكومة تطارد أنصاره فتخرجهم من سويسرا بأمر من الدول المسيطرة يومئذ؛ وعز عليه أن يبرح تلك البلاد فيبعد عن إيطاليا وإنه ليحس أن قربه منها يشد عضده ويربط على قلبه، وهو لا يعرف له مستقراً إلا أن يكون ذلك في إنجلترا أو أمريكا ولكنه لا يطمئن إلى أولاهما لا يطبق البعد في الأخرى
لذلك لاذ المجاهد المكدود بالهرب فقضى سنوات ثلاثا مختبئ في منازل بعض محبيه؛ كأنما قدر عليه أن يحيا حياة السجناء وما هو بمجرم ولا مجنون؛ وتوالت عليه المحن وانتابته النوازل، فتمشى السقم في بدنه وتراءت الصفرة في محياه، ولاحت اللوعة في عينيه؛ ونفد ماله حتى لجأ إلى طلب العون من أصحابه وكانت أمه ترسل إليه ما تستطيع أن ترسله كلما كتب إليها يسألها المعونة ورثت ملابسه وأعوزته الكتب التي كانت عزاءه في غربته وسلوته في وحدته؛ وحيل بينه وبين أنصاره فبرم بالوحدة واستوحش الغربة، وألح عليه مرض أسنانه فكان يتناوب هو والهم جسده المضني
وأحزنه ما ترامى إليه من الأنباء عن تخاذل الناس وفتورهم في إيطاليا، كما آلمه أن يجد بعض المنفيين يعودون باللائمة عليه فيما أصاب حركتهم من فشل؛ ولقد أدى ذلك إلى أن يضيق بالناس فما يصطحب إلا قطة أحبها!
وهكذا يجتاز الزعيم الطريد فترة من أشد فترات حياته المريرة فترة البلاء التي ما خلت من مثلها فيما نعلم حياة زعيم؛ وخيم عليه ذلك الظلام الذي يسبق في حياة القادة النور الوهاج الذي يبدد بقوته كل ظلام
وإنما يكون هذا البلاء في حياة الزعماء وحيالهم يشعرهم بسمو الغاية التي يجاهدون من أجلها، فيزيدهم هذا الشعور تعلقاً بمبادئهم وحرصاً على بلوغ غاياتهم حتى ليصبح الألم محبباً إلى أنفسهم أن كان مبعث اليقين والصبر، وتلك ناحية تمتاز بها كبار النفوس من سائر النفوس
ولن يكون عظيماً من تتعاظمه الشدائد فتلويه عن وجهته، وإنما العظيم من يسير على القتاد مغالباً كل ما يعترضه، وعلى قدر ما يجتاز من الصعاب تكون عظمته ويكون الأثر الذي تتركه في الناس حركاته، ومن هنا أيضاً كان ترحيب العظماء بملاقاة المكاره، ثم من هنا جاءت قيمة التضحية والفداء وولدت الزعامة
والألم فوق ذلك يمحص المجاهدين فيستخفون كل مرة بما يأتي بعدها من ضروبه حتى ليصير مألوفاً لديهم؛ وذلك ضرب من الغلب يأتيهم من بطلان سبب من أكبر أسباب الهزيمة
لذلك صبر مازيني، ومثله خليق أن يصبر وهو الذي جعل من مبادئ جمعيته التضحية والفداء والصبر على الآلام، بل والسعي إليها ومجابهتها، فلما كتبت إليه أمه تسأله أن يرجع عما هو بسبيله كتب إليها يقول: إنه كان يفعل ما تأمر لو أنه استطاع ذلك! فانظر إليه كيف لا يستطيع أن يبتعد عن المحن والآلام وخذ من رده هذا معنى من أبلغ معاني البطولة. . .
وكان له في وحشته نور من مبادئه ترى قبساً منه في قوله: (لقد جعلنا قضية الناس قضيتنا، ولقد حملنا على عانقنا باختيارنا آلام جيل بأجمعه؛ وقبسنا من الله الباقي شعلة، ووضعنا أنفسنا بينه وبين الناس؛ واضطلعنا بدور المحرر، وتقبلنا على ذلك الله)
وعلمه ما سبق من الفشل أن يصبغ مبادئه صبغة تجعل لها مثل قوة الدين، فتكون بذلك أسرع نفاذاً إلى القلوب، فإذا مستها علقت بها حتى ما تنتزع منها؛ لذلك جعل من تعاليمه الحث على المبادئ السامية التي بها تكمل الإنسانية؛ كأداة الواجب لذاته، ومحبة الناس جميعاً، والعمل لخير الإنسانية عملاً لا يبتغي المرء من ورائه جزاءً ولا شكوراً، والبذل والفداء في غير مَن، والصبر على المكاره في سبيل النصر
وراح يوحي ذلك إلى الناس بخيال شاعر ويقين نبي حتى أحيطت دعوته بروح مثل روح الدين، وأصبحت الكلمات التي لا تكون على لسان غيره أكثر من كلمات، قوة لها سحرها وفتونها على لسانه هو؛ وأصبح شخصه بين حوارييه وكأنما رفعته قوة خفية إلى مرتبة فوق مرتبة البشر وإن كانت دون مرتبة الأنبياء
وأصبحت وطنية الذين اتبعوه أكثر من أن تكون وطنية؛ فلقد ملأت قلوبهم الآمال واشرأبت نفوسهم إلى المثل العليا، وفي ذلك تتجلى رسالته الحق إلى الجيل، إذ قد جعل الناس يؤمنون أن في هذه الحياة غير الدين ما يستحق تضحية النفس في سبيله، ومن ذلك الوطن والحرية والكرامة الإنسانية
وكان يشتد به الحنين إلى وطنه وهو في سويسرا حتى ليفعل به الحنين ما يفعل المرض؛ وإنه ليعلق خياله بتلك السحب التي تجتاز الجبال لأنها تسير إلى إيطاليا؛ وإنه ليمد بصره إلى أقصى ما يستطيع نحو وطنه وكأنه يستأنس بهذه النظرات فهو يطيلها أحياناً كما لو بات في غيبوبة
على أن الأنباء التي كانت تصل إلى مسمعيه عن أهل هذا الوطن كانت تزيده غماً على غم، فهذه الرجعية العتيدة التي تؤيدها النمسا تزعم خاطره وتؤلم نفسه، وهذا الخور الذي حل بالرجال يغيظه ويحزنه، حتى ليصل به الأمر أحياناً إلى أن يتدبر أهو على صواب فيما هو فيه من جهاد يجر عليه عذاباً كذلك العذاب الأليم؟
ولكن نفسه كانت تحدثه أبداً أنه مهما قل أنصاره، ومهما مسه من الضر أو أصابه من الهم، فلابد أن تكون العاقبة بحيث تستحق ما يلاقيه؛ وكان قلبه يوحي إليه دائماً أن مبادئه محققة في غد لا محالة على يده أو على يد غيره؛ وكثيراً ما أعانه هذا الأمل على التغلب على كثير من الصعاب؛ ولقد يشتد هذا الأمل عنده حتى فكأنه يرى المستقبل فهو يبشر أبداً بالفوز كأنما كان يوحي إليه به من وراء حجاب. فهل كان مرد ذلك إلى شدة يقينه وقوة حماسته أم إلى جموح خياله وقلة تجربته؟ ألحق أن خياله كان ذا سلطان كبير عليه، ولكن جانب اليقين في نفسه لم يكن أقل من جانب الخيال، بل لقد نستطيع أن نقول إن قوة خياله كان مبعثها قوة يقينه فلولا ما أيقنه واعتزمه ما طمع في شيء ثم ما تخيل شيئاً
وجمع مازيني في سويسرا حوله نفراً من أهلها وأوحى إليهم أن يعملوا للحرية وأغراهم أن ينشئوا جمعية على غرار إيطاليا الفتاة فتألفت بذلك سويسرا الفتاة، وأصدر أعضاؤها صحيفة تعبر عن مبادئهم وعاونها مازيني بقلمه، ولقد كان مازيني يبغي من وراء ذلك أن تنتشر الحرية في كل مكان في أوربا لتتألف منها قوة عظيمة تجرف أمامها الرجعية، وتقذف بها إلى غير رجعة؛ وانتشار الحرية في سويسرا من شأنه أن يؤدي إلى تسربها إلى جارتها، هكذا حدثته نفسه الوثابة وخيلت له روحه المتوقدة
ولكن الحكومة السويسرية تقرر نفيه من بلادها مخافة أن يبذر فيها بذور الثورة، وتجد في البحث عنه وتقضي في غير إبطاء على حركته هذه، وهي في مهدها، فيجد نفسه مضطراً إلى الرحيل فيختار إنجلترا ويسعى إليها عام 1837 وهو في الثانية والثلاثين من عمره
وفي لندن يحيا حياة طليقة حرة فيظهر بشخصه في المجتمعات ولا يلجأ إلى الاختفاء ولكنه يضيق أول الأمر بجو لندن وحياتها الصاخبة وضبابها المقبض، ويذكر ما خلف وراءه من شمس منيرة وسماء ضاحية وفضاء رحيب منضور الجوانب مسكي النفحات، وهو بطبعه شاعر يهفو لجمال الطبيعة قلبه، فلا عجب أن تقبض صدره عيشة لندن التي أحس منذ وطأتها أقدامه أن المادية فيها هي أساس كل شيء، وأن الروحية فيها غريبة شريدة مثلما كان هو غريباً شريداً
ولئن منح حرية التجول والعيش السافر، فلقد وجد أمامه من دوافع العزلة والقبوع في داره ما لا يقل إيلاماً عن نوازع الرجعية والاستبداد وذلك هو الفقر؛ الفقر الذي تركه رث الثياب حتى ليتواري من الخزي عن الأعين، الفقر الذي جعله يرهن ما حمل معه من ضئيل المتاع ليقتات والذي اشتد به زمناً حتى لقد راح ذات يوم يرهن ملابسه من أجل بعض دراهم، وذهب مرة أخرى يرهن حذاءً له ليشتري به طعاماً لغده
وأخذ يبحث عن عمل يمسك من ورائه رمقه، فلم يجد إلا أن يكتب بعض المقالات في بعض الصحف، على أن أجره على ذلك كان ضئيلاً وكان المترجم الذي ينقل كلامه إلى الإنجليزية يحصل على نصيب من هذا الأجر
ومن غريب أمر هذا الطريد النازح أنه كان لا يبخل في غربته على غريب غيره بماله على قلته، فكلما اكتسب شيئاً منه أو أرسلت أمه شيئاً وجاءه أحد معارفه يسأله العون مدّ يده إليه بما تملك وهو في أشد الحاجة إلى من يعينه، حتى الملابس لقد كان يجود بما ترسله إليه أمه منها على الغرباء من بني وطنه لتقيهم غائلة البرد في لندن، وحسبه هو دفء قلبه وابتهاج نفسه بما تقدم يداه
وكان يستدين على ما كان في الدين من مذلة، ثم يحاول أن يسد دينه بقلمه فيفلح حيناً ويفشل أحياناً فأضاف ذلك إلى آلامه وأشجانه ما نعجب كيف أطاق احتماله!
على أن أعظم ما نال من نفسه بعده عن بلاده وقصر ذات يده عن مواصلة جهاده في سبيل تحريرها، ومخافته في هذا البلد النازح من أن تموت مبادئ جمعيته فتنحل وينساها أعضاؤها، وفي ذلك الطامة الكبرى والبلاء الذي لا يجدي معه صبر ولا تنفع فيه حياة ومما قاله في هذا الصدد: (لن يستطيع رجل أن يعيش وحده، وهاأنذا لا أجد حولي من يدري ما أفكر فيه وما أبتغيه) ووصف ذلك العصر بقوله: (إنه عصر انحلال خلقي، عصر إنكار، عصر كذلك الذي مات فيه المسيح)
وكأنه كان بينه وبين الدهر ثأر فهو لا يأبى إلا يتيه بالمحن بعضها في إثر بعض، فلقد جاءه وهو في غربته نبأ وفاة أخته العذراء، وقد كان يحبها أشد الحب إذ كانت تكبر مبادئه وتعجب به من أجلها، وكان إعجابها هذا به يزيده حماسة وأملاً. وكيف نستطيع أن نصف مبلغ حزنه على أخته التي ذهبت فلن يراها أبداً وهو ذلك الشاعر الرؤوف العطوف الذي يهب حبه الناس جميعاً؟
وكان الأسى يرمض فؤاده كلما مر ذكر ما عسى أن يكون عليه حال أمه المحزونة، ويتضاعف حزنه إذا حدثته نفسه أنه كان سبب كثير من شقائها بما جره على نفسه من العذاب والغربة، ولكن شيئاً واحداً كان يخفف عنه بعض ما به، وذلك شعوره أنه يلقى ذلك كله من أجل وطنه ومبادئه.
(يتبع)
الخفيف