مجلة الرسالة/العدد 333/في وزارة الشؤون الاجتماعية أيضا
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 333 في وزارة الشؤون الاجتماعية أيضا [[مؤلف:|]] |
الشيوخ والسياسة ← |
بتاريخ: 20 - 11 - 1939 |
ً
هذا هو المنهاج
فكيف يكون المسير؟
حاولنا فيما سبق من القول أن نرسم لوزارة الشؤون الاجتماعية معالم المنهج الذي تسلكه مخافة أن ينتشر عليها الأمر وتلتبس الوجهة؛ ثم تركنا لرجالها المختصين توضيح الرسوم وتحديد التخوم وتعيين المراحل. ولكن رسم المنهاج لا يكلفنا ولا يكلف الوزارة غير ساعات من النظر والفكر والكتابة؛ وإنما عماد الأمر ومِلاكه أن تُنهج السبيل وتُنفذ الخطة وتُبلغ النهاية. ويلوح لي أننا نكلف الوزارة شططاً إذا أردناها على إصلاح الفاسد وإقامة المعوج وهي على حالها الحاضرة ووضعها القائم
ماذا عسى أن تعمل وزارة موظفوها خمسة عشر موظفاً وليس لها وكيل ولا نظام ولا سلطة ولا خزانة؟
لقد صدق الأستاذ الذي قال: إن وزارة الشؤون الاجتماعية مشروع وزارة لا وزارة. فإن خمسة عشر موظفاً من مختلف الوزارات (كشليلة) خيط من غير رأس، أو كشركة إنتاج من غير مال، لا يستطيعون أن يفكروا إلا في لجنة تعقد أو قرية تزار أو مقالة تذاع أو مجلة تحرر؛ أما تنفيذ الرأي وتكوين النتيجة وتوفير الثمرة فذلك شيء فوق الطاقة لمن لا يملك إليه الوسيلة
ولقد كان في وزارة الصحة عبرة لوزارة الشؤون الاجتماعية لو أنها التمست هداها على ضوء الدرس المنظم والتجربة الحاصلة والخبرة المختصة؛ فإن وزارة الصحة قد فكرت منذ عامين في كفاح المرض فهيأت له الأسباب وأرصدت الأُهَب، فجعلت لكل جماعة من الناس طبيباً، وسيَّرت إلى كل جهة من جهات القطر مستشفى، ولكنها لم تجد المال الكافي لشراء الأدوية وتجهيز العلاج فظل أطباؤها من غير عمل، وباتت سياراتها من غير حركة.
إن وزارة الشؤون الاجتماعية فكرة موفقة ما في ذلك ريب؛ وإن الرجل الذي أوحاها خليق بأن يكون صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا، فإن العهد برفعته أنه رجل عَمول يريد ما يقول ويفعل ما يريد. وقد دلَّت الدلائل في وزارته الأولى على أن في رأسه خطة مدبَّ للإصلاح لابد من إنفاذها وإن عوَّق القدر وطال الأمد. ولولا ذلك ما هششنا لهذه الوزارة الوليدة ولما أسرفنا في الرجاء منها والحديث عنها. لهذا نعتقد أنه سيفرغ لها بعد حين قد يطول وقد يقصر، فيدبر لها المال ويمهد لرجالها سبيل العمل. وليس من الغلو فيما أظن أن تكون ميزانيتها وسطاً بين ميزانيتي الصحة والمعارف، فقد علمنا أن اختصاصها يكاد ينبسط على كل شيء في هذا البلد. على أن المال الذي يُفرض لهذه الوزارة في ميزانية الدولة هو وحده النصيب الحق لهذا الشعب المسكين من ثروته العامة؛ فإن أكثر ما يجبى من موارد الوطن المشتركة إنما يذهب للحكومة لا للأمة، وللأغنياء لا للفقراء، وللمدائن لا للقرى. وجمهور الشعب هو صلب المجتمع وأداة إنتاجه وعدة دفاعه، فينبغي أن يكون همُّ الخاصة وولاة الأمر مصروفاً لسد عوزه وتثقيف عقله وتأمين سلامته، لا يضنون عليه في سبيل ذلك بمال ولا جهد
إن رئيس الوزارة الذي يتذرع لتقوية الدفاع الوطني بكل الذرائع، لا يمكنه أن ينسى مادة ذلك الدفاع ولا هيكله من العمال والصناع والزراع ومن يقمن على رعايتهم وخدمتهم من أم وزوجة.
فلعله يقرع بصوته العالي أسماع أولئك الأمراء والأغنياء فينزلوا عن بعض ترفهم وسرفهم للجيش أسوة بمن يضحون بأرواحهم وأموالهم في سبيل وطنهم من أمراء إنجلترا وأغنياء فرنسا؛ فإنهم إن فعلوا ذلك - وبعيدٌ أن يفعلوه طائعين - تسنى له أن يجد المال الضروري للشؤون الاجتماعية، ومن ثَم يتسنى لوزارة هذه الشؤون أن تنهض بما ألقى عليها من عبء، وتحقق ما نيط بها من أمل
نعم، هذا هو المنهاج فكيف يكون المسير؟ هيهات أن تسير وزارة الشؤون الاجتماعية إلا على قدمين من عزم ومال. فمتى تيسر لها المال وتوفر لها العزم كان عليها يومئذ أن تعيد النظر في تنظيمها وتقسيمها على أساس مكين من الحاجة والكفاية والاختصاص، فإن الإسراف في قلة الموظفين كالإسراف في كثرتهم سواء بسواء؛ والعدول عن الكفء إلى غيره جناية على العدل وإنكار لفائدة العمل؛ ووضع الأمر في غير أهله أقصر الطرق للفوضى المربكة والفشل المحقق. وإذا كانت الوزارات الأُخر تجري على سَنَن من التقاليد الموروثة والأنظمة الآلية والأعمال الرتيبة، فإن هذه الوزارة الجديدة في وضعها وموضوعها حرية بأن تكون مثلاً يحتذى في اختيار الموظف، وابتكار الطريقة، وتبسيط الإجراء، ودقة المراقبة، وحسن التوفيق بين قدرة العامل وطبيعة العمل، وفرض المسؤولية على كل موظف بمنح الاستقلال الذاتي لكل وظيفة. وتجربة النظم الحديثة في الجديد المنشأ أسهل منها في القديم المجدِّد. وتحويل الوزارة القديمة بمصطلحاتها وطفيلياتها ومحاباتها وفوضاها إلى وزارة جديدة بطريق التنظيم، أدخل في باب المحال من تحويل المدينة العتيقة بمنعرجاتها ومنعطفاتها ومضايقها إلى عمارة حديثة بطريق الترميم.
ومِلاك الأمر في الإصلاح الدرس والروية والمشورة والعزيمة والنفاذ، على أن يكون كل عمل في وقته، وكل رأي في وجهه، وكل أمر في أهله. ومدار النجاح في العمل العظيم على الرزانة والجد. فإذا قضى الله أن يعاجلك الفشل دون التمام، فخير لك أن تفشل بالصمت لا بالكلام!
أحمد حسن الزيات