الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 333/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 333/رسالة العلم

بتاريخ: 20 - 11 - 1939


لحظات الإلهام

في تاريخ العلم

بقلم مريون فلورنس لانسنغ

من الألياف إلى الثياب

لأحد الشعراء الإنكليز أبيات يقول فيها إن آدم كان فلاحاً يحرث الأرض وإن حواء كانت عاملة تنسج الغزل. ويتساءل هذا الشاعر أين كان أهل الكياسة والظرف في ذلك العهد؟

وإذا لم تكن حواء هي أو غازلة أو ناسجة فإن إحدى بناتها أو حفيداتها أو بنات الحفيدات كانت أول من فعل ذلك لأن فن النسج كان مما بدأت به الإنسانية في طفولتها، فقبل أن يصنع الرجل من الشماليين في العصور الأولى لنفسه ثوباً من فرو الحيوانات التي يصيدها كانت المرأة الجنوبية قد جدلت من النبات الطويل أو من ورق الأشجار المفتول أو من البوص سلالاً تحمل فيها من حاجاتها أكثر مما تتسع لحمله كفاها، وضفرت كذلك من هذه الأنواع حصيراً تغطي بها الأرض المرطوبة أو الصلبة في كهفها أو كوخها، وصنعت كذلك نوعاً من الثياب تستر به جسمها.

في العهد الذي أصبح فيه جوبال أخو توبال كين راعياً وأباً لكل الرعاة كانت أمه (آده) وزوجته وابنته إخصائيات في ضفر النبات والألياف لصنع الأغطية والحصر التي تصنع منها الخيام، وربما كانوا يفتلون الألياف لتصنع منها جدائل غير متقنة الصنع ويمرون هذه الجدائل بين ثقوب في قوائم الخيمة لربطها.

في هذه الأيام الأولى بدأت المرأة تهتم باللباس لها ولأسرتها كما تهتم بالطعام، وبدأت تزاول، بما كان بين يديها من الآلات الحقيرة، تلك الفنون الجميلة التي صارت فيما بعد من دواعي مجدها، لأنه لاشك في أن الغزل والنسج والصباغة من الفنون النسوية.

كانت المرأة أول من استخرج الألياف من نبات الكتان وصنع منه خيوطاً، وكانت زوجة أحد الرعاة الذين يقضون نهارهم البارد فوق الجبال. كانت تلك الزوجة أول من أخذ جانباً من صوف الغنم. ومنه صنعت ثوباً تدفئ به ابنها الطفل. وخطر ببال امرأة أخرى وهي تغزل خيطاً طويلاً متيناً من ألياف الكتان أن تضع جانباً من هذه الخيوط على عصاً وأن تلف بعضها على بعض حتى يتكون منها خيط متين، فكان اختراعها هذا أول نوع من المغزل. وكان يدار باليد ثم صار يدار كعجلة الغزل. وكانت محبة الجمال هي السبب الذي جعل المرأة تمل من اللون الساذج البسيط للأصواف، فوضعت المرأة المادة التي تصنع منها خيوطها في أثناء العمل في عصارات بعض النبات لتغير من لونها.

كان هؤلاء النسوة اللاتي نتحدث عنهن من نسوة القبائل الرحالة. وفي ابتداء العهد الزراعي وعهد إنشاء المساكن أتيحت الفرصة للمرأة لتوطد هذه الصناعة. ولم تعد أمامها ضرورة تقضي بالاقتناع بالمواد الخشنة التي تجدها في الحقول بل أصبح في وسعها زراعة الكتان والقطن لتكون ثيابها أرق وأخف وزناً مما يصنع من الصوف. وأصبح عمل الراعي أهم لما صارت الحاجة إلى صوف غنمه مثل الحاجة إلى لحومها في السوق.

وفي الكتاب المقدس أقصوصة تدل على أن ميشا ملك مؤاب قد دفع لمولاه ملك إسرائيل الجزية صوفاً لمائة ألف جمل ومائة ألف سخل. وقد كان حذق النساء صناعة المنسوجات الصوفية مما جعل لها قيمة تجارية.

وفي سفر الأمثال من الكتاب المقدس صورة جميلة لامرأة متخيلة في عهد كان قبل سبعمائة عام من التاريخ المسيحي، وكان كل ما منزلها بحاجة إليه من الفنون خاضعاً لسلطانها. وهذا الوصف جاء على لسان ملك ليمويل الذي علمته أمه ما ينبغي أن تكون عليه المرأة التي تصلح زوجة له. وهذا وصفها: (هي التي تبحث عن الصوف والكتان وتعمل بيدها راغبة في ذلك وهي التي تصنع بالمغزل وتمسك بيديها النسيج وتمد يدها بالبر إلى الفقير والى المضطر وهي لا تخاف على منزلها من البرد لأن منزلها مفروش بالبساط القرمزي وهي التي تصنع أغطية من الدانتللا وترتدي ثياباً من الحرير والقماش الأحمر).

الأميرة الصينية وثوبها الحريري

إذا كنت فتاة صينية معهوداً إليها بتربية دود القز لأمك فإنك ستملين سريعاً من جمع ما لا يحصى من ورق التوت لإطعام هذا الدود الجائع. ولكنك إذا شكوت إليها فإنها ستقول لك: (إن كانت الإمبراطورة (هسي لنج شي) العظيمة المقدسة تتعهد بيدها دود القز، وهي فتاة، فلأي سبب لا تفعل ذلك فتاة عادية مثلك؟).

عند ذلك تطأطأ الرأس في خجل وتقول: (كلا يا أمي لن أمتنع عن هذا العمل بل سأؤديه في سرور).

ولكن عندما تنتهي الفتاة من عملها هذا فقد تطلب إلى أمها أن تعيد عليها قصة الإمبراطورة ودود القز. وهذه هي القصة التي ترددها الأم:

(منذ أجيال طويلة عندما كان كل سكان العالم همجاً كان الشعب الصيني وحده شعباً حكيماً، وقد حذق عدة أمور. وهذا هو عصرنا الذهبي الذي نزل فيه الإمبراطور الأصفر هوانج تي بين الخالدين وتولى بنفسه الحكم في هذه الأرض.

وكان هوانج حكيماً رحيماً في حكمه، واصطنع من أجل شعبه أموراً كثيرة فوضع للتجار قواعد الموازين والمكاييل والمقاييس لكي يعلم الفقير من الصينيين عندما يشتري الشاي أو الأرز مقدار الذي اشتراه فلا ينخدع عن الثمن. وعلم سكان الشواطئ النهرية كيف ينشئون السفن وبذلك أصبحت الصين متصلة بواسطة السفن التي تجري في الأنهار غادية رائحة.

وفي أثناء عهده الطويل استكشفت المعادن وصنعت الأطباق من الخزف لأول مرة، وأثرى الشعب الصيني كله في عهد هذا الإمبراطور الأصفر سليل الخالدين الذي عاش مائة عام على الأرض وباركها بحكمته.

ولكن مع أن هوانج كان أعظم العواهل فإنه بكل ما أوتي من حكمة وبكل ما بذله من جهد لم يفعل من أجل مستقبل البلاد ورخائها مثل الذي فعلته زوجته الجميلة الصغيرة هسي لنج شي التي استقرت بحديقة منزلها وأخذت تراقب دودة قبيحة الشكل في تلك الحديقة.

كانت حديقتها حافلة بأشجار التوت وهذا هو السبب في كثرة دود القز بها، لأن ذلك الدود يحب أوراق التوت كما تعلمين ذلك يا بنيتي.

وكانت تلك الإمبراطورة الصغيرة لا تزاول أي عمل فأتت لتستظل بأشجار الحديقة من حرارة الشمس.

وفي أحد الأيام وقفت في ظل شجرة وأصغت، لأنه كان يصدر عن تلك الشجرة صوت كأنه صوت تساقط ماء المطر. ذلك على أن الشمس مرتفعة في السماء. أصغت الإمبراطورة وراقبت ثم رأت أن الديدان الصغيرة التي كانت تراها من قبل متسلقة الأغصان والتي كانت تكرهها لأنها تأكل الاوراق، رأت تلك الديدان وقد كفت عن تناول طعامها وأخذت تصنع لنفسها لوزات، وأخبرتها تابعتان أن هذه الديدان تستمر في صنعها اللوزات ثلاث ليال وثلاثة أيام وأنها تسجن نفسها في داخل هذه اللوزات وقاية من الهواء ومن الشمس وتنام شهراً كاملاً ثم تثقب في نهاية هذه المدة طرفاً من اللوزة وتطير، لأنه ينبت لها في مدة سجنها أجنحة وتتحول إلى فراشة جميلة.

وكانت هسي لنج شي لم تر إلى ذلك العهد فراشة تخرج من اللوزة فراقبت الدود ثلاثة أيام كان في أثنائها مكباً على عمله، فلما انتهت هذه المدة امتنعت الأصوات التي كان يحدثها بعمله وعادت الهداة إلى الحديقة وأخذت الإمبراطورة تعد الأيام التي يخرج الفراش في نهايتها من اللوزات.

ولما عاد البدر إلى الاكتمال مرة أخرى خرج من اللوزات مئات من المخلوقات الطائرة الرقيقة الأجنحة، ولكن الإمبراطورة لم تكن مهتمة بهذا الفراش بقدر اهتمامها بالنسيج الذي تنسجه الدودة حول نفسها، وكان على أرض الحديقة عشرات من هذه اللوزات الذهبية المصفرة، فالتقطتها وعكفت على دراستها وسحبت خيطاً رقيقاً هو الذي تصنع منه هذه اللوزات.

قالت في نفسها: (هذا الخيط البديع أرق من الخيوط التي نسجت منها ثيابي فليتنا نستطيع غزل خيوط بهذه الرقة

وأخذت هسي لنج شي تعبث متبلدة بهذه اللوزات مجربة الخيوط وقد لاحظت مبلغ قوتها ومبلغ رقتها، ثم خطر ببالها خاطر فجائي فسألت نفسها: لماذا تتمنى صنع خيط مشابه لهذا؟ ولماذا لا تأخذ نفس هذه الخيوط التي تصنعها الديدان وتنسج منها ثوباً لنفسها؟

ولما جاء الموعد التالي لظهور دودة القز ذهبت الإمبراطورة الصغيرة إلى الحديقة، ولكن عملها في هذه المرة لم يقتصر على المراقبة، بل كانت تأخذ اللوزة وتحاول حل الخيط على عكس النظام التي كانت تلفها به الدودة وذلك قبل أن تثقب الدودة جانباً منها لتخرج منه.

في البداية انقطع الخيط في يدها ولكنها سرعان ما علمت أنها إذا غمست اللوزة في ماء حار فإنها تقتل الدودة ويسهل حل اللوزة.

وكان مقدار الحرير الذي يستخرج من اللوزة قليلاً جداً ولكنها كلفت أتباعها جمع اللوزات حتى أصبح لديها أكداس فوق أكداس منها. ولما وضعتها في الماء الحار جلست لتلف الخيوط على عصا لفةً فوق لفة حتى اجتمع لديها قدر كبير من هذه المادة الناعمة. ثم حملت هذه الخيوط إلى منسجها الذي كانت تنسج عليه التيل والصوف ونسجت قطعة صغيرة من هذا الحرير الذهبي اللامع.

من أجل ذلك نذهب كل عام يا بنيتي إلى المعبد في الوقت الذي تظهر فيه أوراق التوت ونصلي أنا وأنت وجدتك وأبوك وعمك - للإمبراطورة هسي لنج شي فهي إلهة الحرير لأنها بفطنتها وبعملها اليدوي قد استكشفت سر نسج الحرير ولقنت شعبها هذا السر.

وربما سألت الفتاة أمها هذا السؤال: (هل احتفظ كل إنسان بعد ذلك بدودة القز؟)

فيكون جواب الأم: (نعم لما سمعت سيدات القصر أن الإمبراطورة تحتفظ بهذا الدود رغبن جميعاً في محاكاتها، وقد اعتادت الإمبراطورة أن تخرج إلى الحديقة ومعها أدوات ذهبية لتقطع أوراق التوت وطبق من الذهب لتضعها فيه، وسمحت لهؤلاء السيدات بأن يخرجن إلى الحديقة بآلات وأطباق من الفضة لجمع هذه الأوراق، وقد رغب الشعب كله في أداء مثل الذي يؤديه أهل البلاط، فلم يمض عهد طويل حتى حذق الشعب تربية دود القز، ونسج حريره على المناسج ولبس كل الأغنياء ثياباً من الحرير. وكذلك صنعوا منها أحزمتهم وأغطية أثاثاتهم والحفتهم.

وقد تسأل الفتاة الصينية الصغيرة: (ولكن أليس كل إنسان في العالم يحتفظ بدود القز؟)

فتخبرها الأم بقصة الاحتفاظ بسر دودة القز وبسر نسج الحرير الذي تخرجه مدة ثلاثة آلاف عام في الصين.

السر المصون ثلاثة آلاف عام

هل تظن أن في وسع شعب كامل أن يحتفظ بسر ما مدة مائة عام أو مائتين؟

هل تظن أن نساء ورجالاً وأطفالاً يعرفون كلهم ذلك السر وأن الأجانب الراغبين في معرفة السر والآتين من بلاد بعيدة يمشون في الأسواق ويطوفون بالمدن متجسسين على هذا السر ولكن أحداً منهم لا يستطيع أن يكشفه؟

هذا هو الذي فعله الشعب الصيني بسر الحرير ثلاثين قرناً ثلاثة آلاف عام.

كان الصينيون في العهد الأول من إنتاج الحرير شديدي الزهو بالصناعة الجديدة التي ابتكروها فكانوا من أجل ذلك شديدي العناية برعاية هذا السر. وأصدر الحكام قوانين تحرم على أي إنسان إخراج الحرير من بلادهم. ولتجار الأجانب أن يشتروا ما يريدون من الخزف والشاسي والأرز ومن المحاريث ومن المعادن المطروقة ومن كل ما تنتجه الصين من صناعة. ولكن ليس لهم من النسيج اللامع الحريري إلا أن ينظروا إليه بأعين طامعة فإن هذا الحرير لم يكن يباع.

وكانت قوانين التجارة لا تكفي لمنع التجار عن تهريب الأقمشة الحريرية من حدود الصين فخرج الحرير من الصين حتى في العهد الذي كانت فيه القوانين صارمة وزاد مقدار المهربات زيادة مطردة في القرن الأخير بازدياد الاتصال بالشعوب الأخرى.

وكان بين الصين وبين إيران طريق منقطع بين الجبال ويقول بعض الناس إنه أقدم طرق العالم، وقد بدأ ضيقاً بحيث لا يتسع إلا لمرور رجل واحد فمن أجل ذلك كانوا يمشون فيه صفاً، وعلى التدريج كانوا ينظفونه من الصخور والأحجار التي تعوق المسير فيه حتى أصبح أعظم طريق للقوافل في الدنيا القديمة، وهو الطريق ما بين الشرق الأدنى والشرق الأقصى، وهو الطريق الذي يسلكه أهل البلاد المجاورة للبحر الأبيض المتوسط للحصول على المصنوعات الجميلة من الصين ومن الهند.

ومن هذا الطريق كان التجار يهربون الحرير من الصين إلى الأغنياء في مصر وفي أشور وفي بابل وفي فينيقيا، ومع كثرة ما كان المهربون يهربونه من كميات الحرير التي تؤخذ سراً. أو تشترى علناً فإن تجار الفرس لم يعرفوا سر دودة القز.

وجاء الاسكندر الأكبر، وكادت فتوحاته تشمل العالم كله، وفي أثناء قيادته جيوشه في مناطق الشرق في القرن الرابع قبل المسيح رأى نبات القطن في الهند فنقله إلى اليونان، ورأى الثياب الحريرية يرتديها نبلاء الصين فأتى بشيء منها إلى بلاده وذهب إلى الأماكن التي يصنع فيها الحرير فلم يكتف بنقل كميات من المنسوج بل نقل كذلك أثقالاً من مادته الخام قبل نسجها، ولكنه مع ذلك لم يستطع أن يعرف من أين تأتي هذه المادة الخام.

هذا هو سر الصين الذي كتمته طول عمرها والذي لم يستطع معرفته حتى قاهر العالم الاسكندر.

وكان الرومانيون في بداية العهد المسيحي يختالون بقصورهم في ثياب حريرية اشتروها من تجار الفرس، وقد بلغ بهم الأمر أن حلوا النسيج الصيني واستخرجوا خيوط الحرير وأعادوا نسجها على أنوالهم ولكن هذا العمل كان كبير النفقات إلى أقصى حد. وكانت القوانين في الإمبراطورية الرومانية تحرم لبس الحرير على غير النبلاء وقد رفض الإمبراطور أورليان (712 - 275 قبل المسيح) أن يلبس الحرير أو أن يسمح لزوجته بلبسه لأنه غال جداً، وكان يدعوه باسم (الهواء المنسوج) وذلك بالقياس إلى المواد السميكة الأخرى التي كان الرومانيون يصنعون منها ثيابهم وأخيراً أفشت سر الحرير أميرة صينية مخترقة بذلك حرمة القوانين: كانت مخطوبة لملك هندي حوالي سنة 120 قبل المسيح، وهذا الملك هو خوتان. وكان يعلم أن أميرات الصين اعتدن لبس الثياب الحريرية دون غيرها فبعث إليها بأن الهند وإن كانت قد اشتهرت بقطنها فإنها لا تستطيع أن تزودها بشيء من الحرير فخاطرت مخاطرة جسيمة عند سفرها إلى منزل زوجها فخبأت في زينة شعرها بذور شجر التوت وبيض دود القز وغادرت الحدود دون أن يشتبه في ارتكابها للجريمة التي عقوبتها الإعدام.

ولما وصلت إلى البلاد التي اختارتها وطناً ثانياً بدأت زراعة التوت وتربية دود القز.

ولكن سفراء الصين لدى بلاط زوجها رأوا ما فعلته ولم يكن في وسعهم أن يعاقبوها لأنها أصبحت ملكة على بلاد أخرى وكانوا لا يزالون يريدون الاحتفاظ بالسر، فأخبروا زوجها الملك بأنها تربي الثعابين السامة فأمر الملك بإحراق المكان الذي يربى فيه دود القز معتقداً أنه ثعابين.

لكن السر تسرب إلى الهند في بداية العهد المسيحي؛ ففي سنة 289 بعد المسيح ذهب أربع فتيات صينيات إلى اليابان لتعليم اليابانيين تربية الدود. لكن إلى سنة 500 بعد المسيح كان صنع الحرير لا يزال مجهولاً في القسطنطينية وهي إذ ذاك عاصمة العالم الغربي، وكان الإمبراطور جوستنيان الذي يتولى شؤون الإمبراطورية في القسطنطينية رجلاً ذا مشاريع كبيرة حاذقاً في تغذية التجارة، وكان كالاسكندر الكبير دائم البحث عن شيء جديد مما يصنع في البلاد الأخرى. وعاد اثنان من الرهبان الفارسيين ومن أصحاب العهد النسطوري المسيحي إلى القسطنطينية بعد أن عاشا في الصين سنوات كثيرة. وعلما لطول مدة الإقامة ما لابد أن يعلمه من طالت مدة إقامتهم هناك من سر هاتين الصناعتين: إنماء شجر التوت وتربية الدود.

سمع الإمبراطور قصتهما فاشتد اهتياجه وحملهما على الوعد بأن يحاولا عند عودتهما إلى القسطنطينية في المرة التالية نقل شيء إليه من بيض دود القز. وفي سنة 555 عاد الرهبان وقد خبأه في تجويفي عصوين من الغاب. وقد اشتدت العناية في القسطنطينية بهذا البيض تحت إشراف الراهبين. وصنع الدود لوزاته وأخرج فراشه كما لو كان لم ينقل إلى مسافة تقرب من نصف طول العالم. وهكذا بدأ صنع الحرير بداية حسنة في عهد ذلك الإمبراطور.

وكانت كل هذه الإجراءات تعمل في داخل القصر وتحت إشراف الإمبراطور شخصياً بما في ذلك إقامة أنوال تشتغل عليها النساء في نسج الثياب بين جدران القصر وبملاحظة الإمبراطور.

لكنه لم يكن في الإمكان الاحتفاظ بسر في القرن السادس في الأستانة حتى ولو كان ذلك السر في البلاط الإمبراطوري كما كان ذلك يفعل منذ قرون في الصين. وعلى الرغم من أن جوستنيان قد احتكر صناعة الحرير ولم يكن يسمح لأحد بصنعه فسرعان ما تسربت هذه الصناعة إلى العالم الغربي. ومن البيض الذي كان في تلك العصا نشأت هذه الصناعة وازدهرت في جنوب أوربا وبخاصة بالقرب من البندقية مدة الألف والمائتي العام التالية. وانتهت أخيراً مدة السر المكتوم التي دامت ثلاثة آلاف عام.

(يتبع)

ع. أ