مجلة الرسالة/العدد 333/بين المد والجزر
→ الأسمار والأحاديث | مجلة الرسالة - العدد 333 بين المد والجزر [[مؤلف:|]] |
رسالة الفن ← |
بتاريخ: 20 - 11 - 1939 |
للأستاذ إيليا أبو ماضي
سيّرت في فجر الحياة سفينتي ... واخترت قلبي أن يكون إمامي
فجرَت على الأمواج قصراً من رؤى ... ملء الفضا، ملء المدى المترامي
وأقل منها البحر حين أقلَّها ... دنيا من الأضواء والأنغام
ومشى الخيال على الحياة بسحرهِ ... فإذا الهوى في الماءِ والأنسام
وإذا الرمال أزاهرٌ فواحةٌ ... والشط هيكل شاعرٍ رسام
وإذا العباب مَلاعب ومراقصٌ ... وإذا أنا من صبوة لغرام
أتلقّف اللذات غير محاذرٍ ... وأعب في الزلات والآثام
لا أكتفي وأخاف أني أكتفي ... فكأنما في الاكتفاء حمامي
وكأن هديي أن تطول ضلالتي ... وكأن رِيي أن يدوم أُوامي
مرَّت بي الأعوام تتلو بعضها ... وأنا كأني لست في الأعوام
كالموج ضحكي، كالضياء ترنحي ... كالفجر زهوي، كالخَضم عرامي
حتى إذا هتف المشيب بلمتي ... ودنت يد الماحي إلى أحلامي
صرخ الحجى بي ساخطاً متهكماً: ... هذا الغنى شرٌّ من الإعدام
حتى متى تمشي بغير نظام؟ ... حتى متى تمشي لغير مرام؟
أسلمتني (للقلب) وهو مضللٌ ... فأضرَّني وأضرَّك استسلامي
يا صاح نجَّ النفس من سجن الرؤى
أنا تائهٌ!
أنا جائعٌ!
أنا ظام!
وأراد عقلي أن يقود سفينتي ... للشط في بحر الحياة الطامي
فطويتُ أعلام الهوى وهجرتها ... ونسيت حتى أنها أعلامي
وحسبت آلامي انتهت لما انتهى ... فإذا النهاية أعظم الآلام
وإذا الطريق وساوس ومخاوف ... وإذا أنا من هبوةٍ لقت أبغي الثراء ولم يكن من مطلبي ... وأرى الجمال بناظرٍ متعام
وأشيد مثل الناس مجداً زائفاً ... وأشد حول الروح ثوب رغام
فإذا أنا - والأرض ملكي والسما - ... قد صرت عبد الناس، عبد حطامي
فتضايق القلب السجين وقال لي: ... يا أيها الجاني قتلت هيامي!
القفر بالأحلام روض ضاحكٌ ... فإذا تلاشت فالرياض موامي
أين العيون تذيبني حركاتها ... وتموت في سكناتها آلامي
وأطل من أهدابها السكرى على ... ظلٍ وأنداءٍ وزهرٍ نام
لما عصاني أن أشب ضرامها ... أعيا عليها أن تشب ضرامي
الخمر ملء الجام لكن قد مضى ... شوقي إلى الخمر التي في الجام
أسلمتني للعقل فهو مضللٌ ... فأضرَّني وأضرَّك استسلامي
أنظر ألست تراك في أوهامهِ ... أشقى وأتعس منك في أوهامي
المال؟ من ذا يشتريه كله ... منى بليل صبابة وغرام
يا صاح نجِّ النفس سجن النهى
أنا تائهٌ!
أنا جائعٌ!
أنا ظامي!
لا تسألوني اليوم عن قيثارتي ... قيثارتي خشبٌ بلا أنغام!
إيليا أبو ماضي