مجلة الرسالة/العدد 332/التاريخ في سير أبطاله
→ في الأدب الإنجليزي الحديث | مجلة الرسالة - العدد 332 التاريخ في سير أبطاله [[مؤلف:|]] |
الحب الطاهر ← |
بتاريخ: 13 - 11 - 1939 |
مازيني
(رسول الحرية إلى قومه، المجاهد الذي أبلى في جهاده مثل
بلاء الأنبياء)
للأستاذ محمود الخفيف
- 3 -
ولكن حلاوة الجهاد ما لبثت أن أنسته مرارة الغربة، وإن النفوس الكبيرة لتتعزى بنبل غاياتها فيهما يصيبها في سبيل تلك الغايات، فتستعزب الألم وهو مر، ويحلو لها في سبيل النصر الجلاد؛ ويراد بها أن تذل فما يكسبها الإذلال إلا إباء الأبطال وحفاظ أولى القوة من الرجال؛ وما يزيدها العذاب والنكال إلا إصراراً على النضال وإمعاناً في الاستبسال، ولن تحول بينها وبين غايتها قوة حتى الموت، فإنها إن تزهق فقد تم لها بالاستشهاد أروع مواقف الجهاد. . .
ولقد كان مازيني من أولئك البواسل الميامين الذين تبعث الشدائد كامن قواتهم، وتوقظ المحن نوازع نفوسهم، حتى لكأن الشدائد والمحن من مستلزمات ذواتهم ومقومات أخلاقهم.
استقر مازيني في منفاه يتدبر فيما كان يعتلج في نفسه، وأخذ يتساءل ماذا بقي في بلاده من أثر الثورة التي هبت في فرنسا؟ لقد أحزنه قبل نفيه أن يرى فرنسا تطلق يد مترنيخ في إيطاليا فيبطش بها في سنة 1831 كما بطشت بها في سنة 1820، ويقضي في غير هوادة على ما انبعث من مظاهر العصيان في مودينا وبارما والولايات البابوية، وقد حزر ذلك الوزير النمسوي الملك الجديد الذي تربع على عرش فرنسا من أن يظهر أي عطف على مثل هاتيك الحركات الشعبية التي من شأنها أن تزلزل العروش إذا أطلق لها العنان، وأمن على هذا الرأي ذلك الملك الذي جعل المحافظة على عرشه قاعدة حكمه، وذاق الثوار في إيطاليا مرارة الخيبة والخذلان مرة ثانية.
أليس ذلك ما كان يخشاه مازيني؟ ألم يعب على الكاربوناري اعتمادهم على غيرهم؟ هاهي ذي الأيام تأتي مصدقة لما رأى، وإذاً فليس لإيطاليا بعد اليوم إذا أرادت النجاح أن على نهج الكاربوناري، وعليها أن تنتهج نهجاً جديداً يكون فيه صلاحها وفوزها
ولقد كانت حالة إيطاليا يومئذ تبعث على الأسى، فلم تكن أكثر من اسم جغرافي على حد تعبير مترنيخ، ففيها ولايات الشمال والوسط والجنوب، وفيها ولايات البابا؛ وفوق ذلك كانت ولاية لمبارديا خاضعة لحكم النمسا المباشر، على أن سلطان النمسا كان متغلغلاً في شبه الجزيرة جميعاً.
وكانت هذه الوحدات مستقلة بعضها عن بعض، حتى لقد وضعت حدوداً جمركية فيما بينها، فلم يك ثمة ما يشعر أهل إيطاليا بأنهم شعب، اللهم إلا شعورهم جميعاً بوطأة الحكم النمسوي الذي كان قوامه الرجعية الشديدة في شتى مظاهرها البغيضة من خنق للحريات جميعاً، إلى إهمال شائن للشؤون العمرانية والاقتصادية، وللتعليم والثقافة العامة، لأن هذه جميعاً كانت عند مترنيخ وأعوانه عناصر القوة التي لا يأمن معها أن تبعث الثورات من جديد في كل مكان.
وفكر مازيني في حال إيطاليا فرأى الظلام الكثيف يخيم عليها وهذا الظلام لا ريب مدعاة إلى اليأس والخوف، ولكن في قلوب غير قلبه؛ أما هو فقد كان يتلمس النور الباهر الذي لا يلبث أن يكتسح هاتيك الظلمات كلها - في شيئين: الإيمان والشباب، ومن هنا برزت إلى الوجود جمعيته الجديدة (إيطاليا الفتاة) أو قل بدأت رسالته إلى الجيل الجديد: رسالة الوحدة والحياة الحرة. . .
وتغلغل الإيمان في قلبه الكبير وأحس ما يحسه كل صاحب دعوة من حرارة ذلك السر الهائل الذي لا يعرف مستحيلاً أو يحفل برهبة، ورفع الفتى مشعله فوق رأسه ووضع روحه فوق كفه، ومشى يبدد ظلام اليأس وعلى محياه الأبلج نور الوطنية وصرامة الجهاد، وفي عينيه الباسمتين أشعة اليقين وبريق الأمل.
ولخص مازيني دعوته في كلمتين: الله والشعب، وراح يبشر بدينه الجديد في غير مبالاة بما يعترضه من الصعاب. ولقد جعل أساس كفاحه التضحية، فدعا حواريه وأنصاره إلى أن يتألموا حتى تمحص نفوسهم الآلام، وتقوى عزائمهم المحن، وتعلي مبادئهم ما يلاقونه في سبيلها من أنواع العذاب.
وعول على أن يبث النور في كل قلب، ويحيي بالحماسة كل نفس، ويجري أناشيد الوطنية العذبة على كل لسان، حتى يتألف من الشعب كله قوة تهزأ بكل قوة، وتطفئ بالدم الغالي بريق الحديد ولهيب النار. وعنده أن كل حركة شعبية مصيرها إلى الفشل ما لم تقم على أساس من الوطنية الصحيحة المنبعثة من الأعماق، تلك الوطنية التي تحتقر أعراض الدنيا، لأنها متصلة بالسماء، والتي تضحي بالنفس في سبيل العقيدة، لأن قوام العقيدة الفداء.
وكان هو أكثر الناس إيماناً بوحدة إيطاليا، يوقن أن سوف يأتي اليوم الذي تتم فيه رسالته على يده هو أو على يد غيره من الأحرار. ولقد اتخذ من الشباب جنده وأعوانه، لأن قلوب الشباب بطهارتها وحرارتها أجدر بالإيمان وأسرع إلى البذل وأقوى على العذاب. قال في ذلك: (اجعلوا الشباب على رأس الجماهير الثائرة، فإنكم لا تعلمون مدى القوة الكامنة في تلك الأيدي الصغيرة، ولا مدى التأثير السحري الذي يكون لأصوات الشباب بين الجموع، ولسوف تجدون في الشباب رسل الدين الجديد). وعظمت ثقته بتلك القلوب الفتية حتى أنه كان لا يقبل عضواً في الجمعية من تزيد سنه على الأربعين، إلا في ظروف استثنائية حينما كان يتقدم إليه ذو منزلة، أو ذو سن كبيرة وقلب فتي.
ولئن تشبعت قلوب الشبان بمبادئ الوطنية والتضحية فسوف تتسرب منهم إلى سواهم؛ ولكن كثيراً من الصناع والتجار والفلاحين لن يشايعوهم إلا إذا كان إلى جانب الوطنية إصلاح يتناول شؤونهم؛ وعلى ذلك فقد جعل مازيني من مبادئ جماعته الإصلاح الاجتماعي في أوسع نطاقه وبذلك زاد مبادئها قوة ورسوخاً.
وكان يرى مازيني أن الحرب (هي القانون الأبدي بين السيدويين العبد الذي يريد أن يحطم الأغلال)، ولكنه كان يشير إلى الحرب غير النظامية لأنها الوسيلة الطبيعية للشعب الثائر في وجه القوة المنظمة، فما لمثل هذا الشعب الذي يعتمد على نفسه سبيل إلى الجيوش النظامية التي تكون بالضرورة من صنع الحكومات.
واستقر الغريب المنفي في مرسيليا يعمل في غربته من أجل وطنه، ويخرج إلى الوجود ما امتلأ به رأسه من الأفكار، وأحاط به أول الأمر خمسة من الشباب، أخرجوا مثله من وطنهم فصاروا حواريه في رسالته.
وما نجد في تاريخ الحركات الشعبية حركة بدأت على مثل هذه الصورة التي بدأت بها حركة (إيطاليا الفتاة)، فهؤلاء الخمسة الميامين، هؤلاء السابقون الأولون، وعلى رأسهم زعيمهم، كانوا كل شيء؛ استأجروا داراً صغيرة وراحوا يعملون ليل نهار لتحقيق مبادئهم! أيكون في تاريخ الجهاد أغرب من أن يعتزم ستة من الفتيان يعوزهم المال والجاه توحيد شعب ممزق وتحريره من سلطان دولة عانية مسيطرة؟ ولكن الشباب إذا آمن لا يعرف المستحيل، فليشمر هؤلاء الأبطال عن سواعدهم وليسهروا الليالي في الكتابة ومراسلة من يريد أن ينضم إليهم حتى تكل أبصارهم فيناموا بعض ساعات ثم ينهضوا للعمل يحدوهم الأمل؛ وليوح إليهم زعيمهم بالصبر ويبث في قلوبهم الإيمان، فهذا أجدى عليهم وعلى حركتهم من الجاه والمال.
هكذا بدأ مازيني وحواريه، فسرعان ما انضم إليهم الانصار، واجتمع لهم بعض المال فأنشئوا صحيفة يذيعون بها آرائهم ومبادئهم. وشد ما فرحوا بهذا واستبشروا به! وكان مازيني يحرر أكثر أجزائها وحده فيبث فيها من روحه؛ وكان أصحابه يحتالون، وقد تكاثر عددهم وعدد مريديهم على تهريب تلك الصحيفة إلى إيطاليا كما كانوا يهربون إليها بين حين وآخر بعض المطبوعات الصغيرة التي توحي إلى القراء مبادئ الجمعية وتعلمهم دروس الوطنية.
وأقبل مازيني وحواريه على العمل، يزدادون نشاطاً وهمة كلما ازداد عدد أنصارهم. وانقضى عام فرأى الزعيم الشاب ما شرح صدره وملأ نفسه بما تمتلئ به نفس المؤمن من نشوة الظفر، فللجمعية مراكز في شمال إيطاليا ووسطها، وأعضاؤها يبلغون في إيطاليا وخارج إيطاليا مائة ألف أو يزيدون! وهذا نجاح جاء أكثر مما كان يتوقع.
وتقع عين مازيني على أسماء الأعضاء وأعمالهم في ثبت سرى فيسره ويثبت فؤاده أن يرى فيهم بعض النبلاء وبعض الضباط، حتى القساوسة يجد أسماءهم بين المجاهدين! وتطيب نفسه بذلك ويحلو له الجهاد وتلوح له بوارق الأمل فتسهل الصعب وتقرب البعيد.
وكان ممن انضموا إلى الجمعية رجل سوف يكون له في تاريخ وحدة إيطاليا وحريتها شأن عظيم، ذلك هو غاريبلدي المجاهد البطل والفدائي الأروع الذي جمعت حوله سجاياه العذبة وشجاعته الفائقة قلوب الرجال.
وراح الزعيم ينشر تعاليمه ويرسم خططه. استمع إليه كيف يقول لأنصاره: (اصعدوا الجبال واذهبوا إلى القرى وشاطروا العمال والفلاحين طعامهم المتواضع، وجالسوهم وتحدثوا إليهم؛ وزوروا المصانع والصناع الذي أهملوا حتى اليوم. حدثوا هؤلاء عن حقوقهم وعن ذكريات ماضيهم وتقاليدهم ومفاخرهم السالفة وتجاربهم التي مرت، وعددوا لهم ما لا ينفد من أنواع الاضطهاد التي يجهلونها لأنهم لم يجدوا من يكشفها لهم).
بهذه الطريقة راح مازيني يرسل صوته إلى الأعماق ويملأ به الآفاق؛ ولقد تخرج معظم ذوي الشأن في المستقبل من رجال إيطاليا في جمعيته، فكان له بذلك شرف لن يتاح إلا لأفذاذ العظماء: شرف الخلق والتكوين، فما كانت إيطاليا الحديثة إلا من صنع يده. وإن تمت وحدتها على أيدٍ غيرها. وبذلك يعد مازيني من مكوني أوربا الحديثة، وهي منزلة لن يشاركه فيه إلا أمثال بسمارك ومن على شاكلتهما ممن تقرن أشخاصهم بحركات عامة توجه التاريخ وجهته في فترة من فتراته.
وكان ممن كاتبهم مازيني ليعاونوه: شارل ألبرت ملك ولاية بيدمنت؛ وكان ذلك بعد خروجه من إيطاليا ببضعة أشهر، وقد كان يعلم عن شارل بالأمس أنه من ذوي الآراء الحرة، إذ كان متصلاً بالكاربوناري وكان يعطف على ثورتهم التي هبت سنة 1821؛ ولكن مازيني كان مسرفاً في حسن ظنه به. وكيف كان يرجو المساعدة من ملك يتناول تاجه في الواقع من النمسا؟ ولئن كان شارل بالأمس نصير الحرية، فهو اليوم على عرشه يبغضها ويحذر منها، فلقد تجر إلى الثورة دعوة الداعين إليها، وما له حيلة إلى إجابتهم، والنمسا تلوح للبلاد بسيف الغلب. قال مازيني في خطابه (هناك يا مولاي طريق آخر إلى القوة والخلود العظيم، وحليف آخر أقوى وأسلم من النمسا أو فرنسا، وتاج أكثر لمعاناً وبهجة من تاج بيدمنت، تاج ينتظر الرجل الذي يجرؤ على أن يفكر فيه والذي يوجه حياته للحصول عليه. . . ألم تلق يا مولاي قط مثل لمحة النسر على إيطاليا هذه، إيطاليا التي تجملها بسمة الطبيعة، والتي يتوجها عشرون قرناً من الذكريات الجميلة، أرض العبقرية القوية بمنابعها التي لا تنفد والتي لا يعوزها إلا الغرض المشترك؛ المحاطة بحدود من المنعة بحيث لا تحتاج إلا إلى عزيمة وثيقة وبعض القلوب البواسل لحمايتها من العداء الخارجي. ضع نفسك على رأس الشعب، واكتب على رايتك: الاتحاد والحرية والاستقلال. حرر إيطاليا من البربرية وابن المستقبل وكن نابليون حرية إيطاليا. افعل ذلك نلتف حولك ونقدم حياتنا من أجلك ونجمع الولايات الصغيرة تحت علمك. إن نجاتك في حد سيفك، فأشهر السيف واطرح الغمد، وتذكر أنك إن لم تفعل ذلك فسيفعله غيرك دونك ويوجهه ضدك).
في هذا الخطاب تتجلى حماسة الشاب المجاهد، وتتبين آماله، وتتضح نزعاته؛ وفيه قبس من وميض حماسته وفيض من حرارة إيمانه وقوة وجدانه، ولكنه لم يظفر من الملك برد، وكان جواب الحكومة أن أمرت بالقبض على مرسله إذا اجتاز الحدود الإيطالية.
على أن بيدمنت ما لبثت بعد سنتين أن امتلأت كما امتلأت الولايات الأخرى على نحو ما أسلفنا بأنصار مازيني، وفي نصرة الشعب له خير عوض عن معونة الملك.
وتسربت مبادئ الجمعية إلى جيش بيدمنت؛ وكان يذيعها فيه رافيني كبير أنصار مازيني وساعده الأيمن في جهاده، وأحكمت مؤامرة للقيام بثورة عن طريق الجيش؛ ولكن تلك المؤامرة اكتشفت وا أسفاه؛ وبطشت الحكومة بالمتآمرين؛ فقتلت عشرة من الضباط رمياً بالرصاص واثنين من المدنيين، فضلاً عمن أودعتهم السجون من الرجال، حيث أخذت الحكومة تنكل بهم ليعترفوا.
وكان رافيني ممن سجنوا، وخير في سجنه بين الاعتراف على شركائه والنجاة من الموت أو الإنكار والإعدام، فاختار الموت ولكن بيده هو، فانتحر في سجنه. ونمى خبر الفاجعة إلى مازيني فاشتد وقعها عليه، حتى لقد كانت من أعظم ما ناله من المحن؛ وتوزع الحزن قلبه حتى ما يفيق من الغم، ووهن جسمه واعتلت صحته كمداً على صاحبه الشهيد.
(يتبع)
الخفيف