مجلة الرسالة/العدد 331/التاريخ في سير أبطاله
→ استطلاع صحفي | مجلة الرسالة - العدد 331 التاريخ في سير أبطاله [[مؤلف:|]] |
رسالة الفن ← |
بتاريخ: 06 - 11 - 1939 |
مازيني
(رسول الحرية إلى قومه، المجاهد الذي أبلى في جهاده مثل
بلاء الأنبياء)
للأستاذ محمود الخفيف
- 2 -
والتحق الفتى بالجامعة في جنوة حيث بدأت فترة نشاطه في قراءة الآداب والتزود بشتى فروع المعرفة مما يدخل في نطاق دراسته؛ وما كان اعتماده فيما يقرأه على الجامعة، فلو أنه قصر همه على ما كانت تزجيه لطلابها من الدروس والكتب لكان له وجهة غير التي اتجهها في المطالعة والبحث ولكانت ثقافته من نوع محدود، هو ذلك النوع الذي يعد الطلاب للإجازات التي تمنحها الجامعات لأبنائها دلالة على انهم درسوا هذه الفنون أو تلك في مستوى معين وعلى صورة معينة ما تكاد تختلف في طالب عنها في آخر
وما كان الفتى ممن يسهل قيادهم من الفتيان فيولون الوجهة التي يريدها لهم غيرهم، وإنما كان بطبعه ثائراً على كل قيد، ما رأى شبح القواعد التي تحد من الحرية في شيء إلا نفر منه ثم عول على تخطي تلك القيود ولو أصابه من وراء ذلك الإعانات والإحراج؛ وكثيراً ما أدى ذلك إلى شكوى القائمين على شؤون الجامعة، وإلى اتهام من يجهل خلقه إياه بأنه مشاغب متمرد؛ أما الذين عرفوه معرفة خبرة فكانوا يحسون في ذلك التمرد وفي ذلك التوثب روحاً قوية حرة لا يجدون نظيرها في أحد ممن حوله من الطلاب
وكانت الحكومة وقد هالها ما هب من الثورات تقاوم كل ميل إلى الحرية ما وسعتها المقاومة؛ وكانت الجامعات هي الأمكنة التي تنظر إليها بعين الخوف والحذر، ففي هذه الأبنية يلتقي الشباب، والتقاء الشباب في جماعات أمر لا يتفق في طبيعته مع تلك المقاومة التي راحت تحكم الحكومة أمرها في طول البلاد وعرضها؛ فللشباب أحلام وآمال لا تحد، وفيهم حيوية وتوثب، ثم هم يتزودون من المعرفة؛ ومن كان هذا شأنهم، أو من كانت هذه طبيعتهم صعب على الآمرين أخذهم بالعنف، بل ما يكون العنف إلا داعياً إلى العصيان فالتذمر فالثورة
وكان حراماً على الأساتذة أن يجاروا الطلاب في أهوائهم، أو أن يكون فيما يلقونه عليهم ما يحفزهم إلى أيتجهوا الوجهة التي لا ترضاها الحكومات لهم؛ وكانت إدارة الجامعة في جنوة لا تقبل من الطلاب غالباً إلا من تطمئن إلى سلوكه ومن يملك أبوه قدراً معيناً من الثروة لتكون ثروته رهينة لدى الحكومة متى شاءت؛ وحسبك أنها كانت تحتم على الطلاب أن يحلقوا شواربهم لأن الشوارب عندها كانت من علامات التمرد والنزوع إلى الأفكار الثورية! ومن خالف ذلك حمل على رغمه إلى أقرب حلاق حيث يقضي على شاربه في غير رفق، ولا ندري كم مرة حمل فيها مازيني على هذه الصورة المضحكة!
وكانت له وهو لا يزال في الجامعة الزعامة على الطلاب جميعاً؛ وهو بذلك يقدم البرهان العملي على أن الزعيم الشعبي يولد وفيه صفات الزعامة، فما يزال زعيماً في كل مراحل حياته حتى تتناهى إليه كبرى الزعامات فيصبح في أمته الرجل الذي يعمل بوحيه الرجال أرادوا ذلك أو لم يريدوا
كان وسط إخوانه جاداً لا يعرف صغار الأمور، عزوفاً بطبعه عن اللهو وإن كان يحب الرياضة البدنية ويجعل لها بعض وقته، فإذا كان لا بد من المزاح فهو مزاح الأديب الفطن، الذي يحلق ولا يسف، والذي تعذب روحه دون أن يبتذل شخصه. وكان له إلى الموسيقى ميل شديد ولكن على أنها شيء تسمو بها النفس وتستيقظ عليه الروح، أما أن تكون ملهاة أو مدعاة إلى المجون والعبث فذلك ما كان ينفر منه أشد النفور
وكان شخصه أبداً يوحي إلى من حوله معاني الاحترام؛ فصفاء ذهنه وحدة تفكيره يمليان على المتحدث أن يفكر فيما يقول، وقوة خلقه وترفعه عن الدنايا تحول بين الكلمة النابية على لسان غيره وبين الإعلان؛ وإنه ليحمي الضعيف وينتصر للمظلوم، ويدافع عن الحق في كل ما يعرض له من الأمور؛ ثم إنه ليواسي البائس ويعزي المحزون، ويمد الفقير بما تملك يداه من نقود وكتب وملابس. ولسوف تكبر معه تلك الصفات وتنتقل من مجال الجامعة إلى مجال إيطاليا كلها يوم ينفخ فيها من روحه فيبعث في أرجائها الحياة والأمل
وكانت القراءة أحب هوية إلى نفسه منذ حداثته، فكان يكب على ما يقع في يده من الكتب فما يدعها حتى يأتي عليها؛ ثم اتفق وبعض خلانه على تأليف جماعة للقراءة والدرس.
وكانت الحكومة بعد ثورات سنة 1820 قد شددت الرقابة على الكتب فلا تسمح بنشر ما يدعو إلى المبادئ الثورية منها أو ما توحي قراءته بتلك المبادئ؛ وكذلك شددت الحكومة الوثاق على الصحف الأجنبية فلا تأذن بدخول البلاد إلا لما لا تخشى من دخوله. من أجل ذلك عولت تلك الجماعة على تلمس السبل لتهريب الكتب والصحف المحرمة، ولقد نجحت في ذلك نجاحاً مرضياً
وأقبل مازيني على كتب الأدب فراح يعيش مع شكسبير وجوته وبيرون وشلر، وكان قد قرأ قبل هؤلاء دانتي وأعجب به أيما إعجاب حتى لقد صار له المكان الأسمى في قلبه
كان مازيني يرى رسالة الأدب على العموم والشعر على الخصوص السمو بالنفوس وتطهيرها، وبث الأمل فيها وتقويتها وشحذ العزائم واستنهاض الهمم، وإيجاد روح المحبة والمودة بين الناس، وكان يرى أن الشاعر الحق هو الذي يجمع بين الشعر والحكمة فيطرب النفوس ويطير بها إلى الجواء العليا ثم يملأها بمعاني الفضيلة ويستحثها على الجهاد والعمل؛ أما الاقتصار على التغني والوصف دون أن يكون من وراء ذلك غاية من فضيلة أو عمل فذلك عنده ضرب من النقص
وقرأ مازيني فيما قرأ الفلسفة فدرس هيجل وكانت وفخت وهردر، وصاحب روسو وفلتير فترة من الزمن، ورجع إلى ماكيافيلي وكان عنده في السياسة كدانتي في الأدب إذ كان كلاهما إيطالياً وطنياً وإذ كان نبوغ كل منهما يدل على إيطاليا جديرة بأن تخرج النوابغ الأفذاذ
وكان في إيطاليا يومئذ نزاع بين أنصار الأدب الابتداعي (الرومانتيكي) وأنصار الأدب الأتباعي (الكلاسيكي)؛ فكان من الطبيعي أن يشايع مازيني الفريق الأول، فينتصر لأدب الحرية والابتكار الذي يتحرر من القيود ويجرف السدود، وكم كان لذلك معجباً بشاعر إنجلترا العظيم اللورد بيرون، ذلك الذي كان يصل شعره إلى أعماق نفسه لما كان فيه من تمرد وتوثب ولما كان يوحي به من معاني العزم والجهاد والتغلب على الشدائد؛ وكان اسم بيرون يومئذ يدوي في أنحاء أوربا حتى لقد باتت كتبه فتنة كل شاب في كل لغة
وكان مازيني يقول إنه لن يتحقق لإيطاليا من جديد كيان سياسي اجتماعي إلا إذا تحقق لها أدب يدعو إلى الحرية والتقدم. ومما ذكره في هذا الصدد قوله: (إن تشريع وآداب أية أمة يسيران أبداً في خطين متوازيين) وقوله: (إن بين تقدم الثقافة العقلية والحياة السياسية للأمة ارتباطاً وثيقاً) وتحدث عن الأدب الابتداعي بقوله: إن غرض الأديب الابتداعي هو أن يمد الإيطاليين بأدب قومي أصيل، لا بأدب كذلك الذي يكون كصوت الموسيقى العابرة يطأ الأذن ثم يموت؛ أدب يترجم لهم عن نوازع نفوسهم وأفكارهم وحاجاتهم وحركتهم الاجتماعية)
وراح الشاب وهو في الثالثة والعشرين يكتب في الصحف وقد صرف همه أول الأمر إلى النقد، إذا كان يرجو من ورائه أن يوجه أدب قومه إلى ما كان يريد؛ وبدأ يكتب في صحيفة في جنوة ولكنها عطلت بأمر الرقيب بعد عام، فأنشأ صاحبها غيرها وكتب إلى مازيني ليوافيه بأبحاثه ففعل مغتبطاً ولكن هذه الصحيفة لحقت بسابقتها بعد عام آخر، فتعاظم الأمر هذا الشاب الحر ولكنه ما زاده إلا إيماناً بالحرية ومزاياها
وتسنى لمازيني بعد جهد ليس بالقليل أن يتصل بأكبر صحف بلاده وكانت تسمى (أنتولوجيا) وقد أخذت مواهبه، كناقد من أمهر النقاد، تتجلى في تلك الصحيفة
وكان مازيني يجعل من الأدب يومئذ وسيلته إلى خدمة بلاده وكانت تحدثه نفسه بشتى المشروعات الأدبية يرمى بها إلى الهدف الذي عينه، هدف القومية والحرية؛ ولكن هاجساً ظل يهجس في نفسه منذ ترك الجامعة أن الأدب ليس كل شيء، فهو وسيلة بطيئة، ولا سيما أن الرقابة تضيق مجاله أشد التضييق
وكان ذلك الهاجس يكرب نفسه إذ كان يدعه في حيرة من أمره ويذره أحياناً بين اليأس والرجاء؛ فروحه المتوثبة كانت تستبطئ الوسيلة التي اتخذها وتتوق إلى وسيلة غيرها ولكنه كان لا يدري ما عسى أن تكون الوسيلة الجديدة. . . أليس يحس يد البطش تقضي على كل ميل إلى المقاومة في كل جهة من جهات إيطاليا؟ ثم ألا يذكر ما حل بالثائرين قبل ذلك بنحو ثمانية أعوام؟ وهاهو ذا مترنخ لا يزال يشهر سيف الرجعية فيخطف بريقه الأبصار ويلقي الرعب في الأفئدة
على أنه وإن عدم الوسيلة كان يرى الغاية واضحة أمامه أتم الوضوح؛ وما كانت تلك الغاية إلا بناء إيطاليا من جديد على أساس قومي، فتصبح أمة واحدة تتمتع بالحرية وتبهر العالم كما تعودت أن تبهره من قبل بثقافتها ومدنيتها؛ ولقد استقرت هذه الغاية في أعماق نفسه حتى أصبحت أغلى عنده من حياته؛ وما تهدأ تلك النفس التي تتنزى في أغلال الرجعية حتى يؤدي رسالته أو يهلك دونها، مهما يرى أمامه من جبروت ويلمس من بطش؛ ولكم سلح الحق الأعزال وحطم الإيمان السلاسل والأغلال
وكان الفتى منذ عامين قد اتصل بجماعة الكاربوناري وانضم إلى صفوفهم؛ وكانت تلك الجماعة لا تزال تضم إليها الأنصار في طول البلاد وعرضها، ولئن كان قد لحقها الوهن منذ ثوراتها عام 1820، فلقد ظلت متماسكة، ولقد أخذت تنتشر حتى لقد جازت حدود إيطاليا وصار لها مراكز في القارة، وكان مركزها الرئيسي في باريس، حيث اتصل زعماؤها بالأحرار الناقمين على الملكية المتجبرة في فرنسا ملكية شارل العاشر، أو الكونت دا أرتوا ذلك الذي شهد بنفسه بالأمس القريب الثورة الكبرى ورأى مصير لويس المسكين فما اعتبر، بل طغى واستكبر، حين استوى على العرش وازدهاء التاج والصولجان.
ولكن جماعة الكاربوناري كان يعوزها المال والقيادة الحكيمة، وذلك ما كان يألم له مازيني أشد الألم، وكذلك كان يألم مازيني من اعتماد الجماعة على فرنسا فحسب إذ كان يرى - وما أجمل ما كان يرى - أن قوة الشعب إن لم تكن منبعثة منه فلا أمل فيها، وأساس الوطنية والجهاد القومي اعتماد الشعب على إيمانه وثقته في نفسه أولاً، ولا ضير بعد ذلك أن يتلقى العون من غيره؛ ولكنه إن اعتمد على غيره وكانت تعوزه العزيمة فليس له من أمل إلا أن يعينه ذلك الغير، وهذا أمر غير مضمون في كل وقت، وإذا كف ذلك الغير يده عظمت الخيبة وتسرب إلى النفوس اليأس
على أنه على الرغم من هذا كان يرى في الجماعة الهيئة الوحيدة التي تعتبر عنصر المقاومة والفداء، ولذلك لم يتردد أن يضع يده على خنجر عار ويؤدي القسم على تنفيذ ما يأمر به؛ وكان من نظام الجماعة ألا يعرف العضو رؤساءه، وإنما يعرف زميلاً أو زميلين، ولقد أخلص مازيني لمبادئ الجماعة ونمى أمر إخلاصه وحماسته إلى رؤسائه القريبين، فأوفد من قبلهم إلى بعض الجهات مبشراً بتلك المبادئ عاملاً على ضم أعضاء جدد إلى الكاربوناري. . .
ورجفت الراجفة في فرنسا فأطاحت بالملك المتجبر عام 1830؛ فرأى للمرة الثانية الدليل العملي على أن قوة الشعوب قد باتت أمراً يجدر بكل حاكم أن يحسب له ألف حساب؛ وأن هذه الشعوب إذا استقرت بعد هياج فلن تكون، إذا سلط عليها الظلم، إلا كالبحر يعظم جيشانه وفورانه بقدر ما كان من تطامنه وثباته
وهبطت من وراء الألب على إيطاليا أنباء الثورة الجديدة في فرنسا والتمعت بوارق الأمل للأحرار، وتأهب رجال الكاربوناري، وقد حسبوا أن قد جاء اليوم الموعود، ونشط مازيني وخلانه يذيعون مبادئ الجماعة ويهيبون بالشباب أن ينتظروا أول صيحة
ولكن الحكومة ما لبثت أن ألقت القبض عليه، فلقد بثت من قبل عيونها بين صفوف هذه الجماعة واتهم مازيني بأنه كان يغري أحدهم بالانضمام إليها. وألقى بالشاب المجاهد في غيابة السجن في سافو وهو يومئذ في الخامسة والعشرين، فكان هذا أول ما لحقه من الآلام في حياته التي سوف تكون مليئة بالآلام
وسيق إلى المحاكمة فمالت إلى تبرئته لعدم توافر الأدلة ولأنه لم يقم إلا شاهد واحد عليه؛ ولكن السلطة خيرته بين الاعتقال في إحدى القرى أو النفي إلى خارج إيطاليا؛ فاختار النفي، وعبر جبال الألب إلى فرنسا، وكان يريد الذهاب إلى باريس حيث يخدم مبادئ الجماعة هناك، ولكنه تحول إلى ليون حيث انضم إلى المنفيين هناك من الإيطاليين وشاطرهم مرارة الاغتراب
(يتبع)
الخفيف