مجلة الرسالة/العدد 330/هل يقرأ الفنان هتلر
→ من بغداد. . . إلى كركوك | مجلة الرسالة - العدد 330 هل يقرأ الفنان هتلر [[مؤلف:|]] |
التاريخ في سير أبطاله ← |
بتاريخ: 30 - 10 - 1939 |
الدم والحديد
رواية في فصل واحد
بقلم بيرلي بورشهان وروبت دافيز
ترجمة الأستاذ عبد اللطيف النشار
أشخاص الرواية:
(الإمبراطور غليوم الثاني، وعالم ألماني وجندي مرقع من مشوهي الحرب)
المكان: (قاعة العرش)
الوقت: (في مساء عيد ميلاد الإمبراطور غليوم مدة الحرب الكبرى)
الإمبراطور - (يدخل فيعتلي العرش)
العالم - (يحمل حافظة فيضعها على منضدة ويبتسم ويفرك كفيه) مولاي! إن الهيبة تعقد لساني
الإمبراطور - إن وقتي محدود، فولي العهد في انتظاري
العالم - (متحمساً إلى درجة الارتعاش) مولاي! إن الهدية التي أقدمها إلى جلالتكم بمناسبة عيد ميلادكم الإمبراطوري لهي أثمن الهدايا لأنها تعني أن في الإمكان إعادة مليون من الجنود المشوهين إلى صفوف جيشكم، وتعني أن الجيش الألماني أصبح قوة مخيفة
الإمبراطور - (في اهتمام) هذا كلام عام
العالم - (وقد لاحظ أن الإمبراطور يبدي حركة عنيفة دالة على أتم الاستعداد للإصغاء) إنني سأخصص يا مولاي: إن أهم عنصر من عناصر الإتقان ألا نترك شيئاً يفقد بغير جدوى. وقد جعلت همي في أمر اليوم أن أرد إلى الجنود المصابين ما فقدوه بسبب الحرب. وقد نجحت
الإمبراطور (وقد بدا عليه الاغتباط) - كيف ذلك؟
العالم - بعد تجارب متعددة أصبح في وسعنا أن نأتي بأي جندي كائنة ما كانت درجة أصابته فنعيده إلى الصفوف أقوى مما كان. . . نعيده لا إنساناً ضعيفاً سريع القابلية للفناء، بل آلة قوية باطشة
الإمبراطور - (ضاحكاً) كلام حماسي ولكنه غير مقنع، فهات الدليل
العالم (في لهجة دالة على الصدق والإخلاص) لقد توقعت يا مولاي هذا الشك فجئت معي. . .
الإمبراطور (مقاطعاً) - بماذا؟ بنموذج؟
العالم - نعم يا مولاي بنموذج حي آلي في غرفة الانتظار
الإمبراطور (متعجلاً) - إيت به، إيت به
العالم - مولاي، أستميح عفوكم فإن منظره غير سار
الإمبراطور - هذر! كل ما يؤدي إلى الاحتفاظ بالقوة جميل
العالم (وقد بدا عليه الابتهاج) - هل لي. . .؟
الإمبراطور - أسرع!
العالم (يفتح الباب ويخرج وهو ينادي بلهجة عسكرية) - انتباه! إلى الإمام؟
(وهنا يسمع صليل وجلجلة كصوت حديد يتحرك، ويدخل الجندي رقم 241 كما تمشي أية آلة ميكانيكية فلا ملاحظة لشيء ولا اختلاف بين الخطوات، حتى ما صار في وسط القاعة ناداه العالم أن يقف فيقف)
العالم - لقد جربناه 241 مرة ومن أجل ذلك أطلقنا عليه هذا الرقم
(ويبدأ العالم في الشرح، وفي هذه الأثناء يحدق الإمبراطور فيه وهو مفتون)
الإمبراطور - هذه أحسن مشية عسكرية
العالم - هذه أقل ميزة له
(ثم يلتفت إلى رقم 241 ويعرض يده الفولاذية ويأمره أن يفتح فمه فتبدو أسنانه الحديدية ويأمره بإغلاقه فيسمع صوت الحديد، ويأمره برفع يده اليمنى فيظهر ذراع آلي من الصلب وكذلك ساقه اليسرى التي يؤمر بتحريكها فيكون لها صليل. ويرى الإمبراطور ذلك مبتهجاً)
الإمبراطور - هذا ترقيع في نهاية الإحكام
العالم - ولكن كفايته زادت كثيراً بهذا الترقيع فهو الآن يتناول البندقية ويطلق المدفع دون أن يخشى سقوطه في الميدان.
إن يده معدنية فلا تعتريها رجعة ولا اضطراب
(ثم يلتفت العالم إلى الجندي المرقع ويأمره)
انتباه!
احمل السلاح!
سر إلى الأمام!
صوب إلى الهدف!
أطلق النار!
(ويقوم الجندي المرقع بكل ما يؤمر به والإمبراطور ينظر إليه وقد بدت عليه علائم الدهشة)
الإمبراطور - هذا فوق ما كنا نحلم به
العالم - بهذه التجربة أصبح في وسعنا يا مولاي أن نعيد إلى الجيش جميع العميان ومكسوري الأيدي والأرجل ومفقودي السمع
الإمبراطور - هذا فوز عظيم للمدنية
العالم - هذا يا مولاي خراب تام للمستشفيات
الإمبراطور - أنت عزيز لدينا يا أستاذ. إن العلم هو أمل الدولة
العالم - أتأذن يا مولاي بامتحان أذنه؟
الإمبراطور - بغير شك
(فيقف العالم خلف العرش، ويدق بطرف ظفره دقات غير مسموعة ويسأل الإمبراطور)
العالم - هل سمعتم جلالتكم شيئاً؟
الإمبراطور - كلا
الجندي المرقع - سمعت ثلاث دقات عالية
(ثم يمشي العالم إلى المنضدة التي عليها حافظة أوراقه، ويستخرج منها بطاقة صغيرة عليها كتابة بخط دقيق جداً ويسأل الإمبراطور وهو غير بعيد عنه هل يستطيع قرأتها فيقول الإمبراطور إنه لا يستطيع
ويعرض العالم البطاقة على الجندي المرقع عن بعد فيقرأ الجندي: إن الشعوب هي الإرادة وإن الحكم هو القوة
ويعرض العالم البطاقة على الإمبراطور فيتناولها ويقول: (قراءة صحيحة)
ويعود العالم إلى مكان الحافظة فيضع فيها البطاقة ويلتفت إلى الإمبراطور ويقول):
العالم - هذا خير ما أداه العالم؛ فقد استغل بقايا الإنسان المحطم الذي لا خير فيه. لنفسه ولا لأمته فأعاده كما ترون جلالتكم، يد من الصلب، ورجل من البرنز، وذراع من النيكل، ومفاصل من الأليومنيوم، وعين تلسكوبية، وأذن من مصابيح الراديو
(ويلتفت العالم إلى الجندي ويسأله):
العالم - ماذا تسمع الآن؟
الجندي - صوت بوق عال
الإمبراطور - هذا مستحيل فإني لا أسمع شيئاً. افتح النافذة
(فيفتح العالم النافذة وينصت الإمبراطور فيسمع صوتا ضعيفا هو صوت بوق عن بعد)
الإمبراطور (في دهشة) هذا هو الكمال التام
العالم - هذا انتصار على المادة. إن الجندي الذي يسقط في الميدان يصبح عالة على الأمة لا يصلح لشيء، ولكن العلم يرد إلى الأعرج رجله وإلى الأبتر ذراعه، وإلى الأصم تلفونين في جانبي أذنيه، وإلى الأعمى تلسكوبين تحت حاجبيه
ويلتفت الإمبراطور إلى الجندي المرقع ويسأله: (كم مدة خدمتك في الجندية؟)
فيتقدم الجندي ثم يرفع يده بالسلام
العالم - أجب جلالة الإمبراطور
الجندي المرقع - ثمانية عشر عاماً يا مولاي
الإمبراطور - وهل أنت متزوج؟
الجندي - نعم يا مولاي
الإمبراطور - وهل لك أولاد؟
الجندي - سبعة يا مولاي
العالم (متدخلا في الحديث) منهم خمسة ذكور يا مولاي
الجندي (في مرارة) - واحد مات وثلاثة في الميدان والأصغر سيتبعهم الإمبراطور - كم عمره؟
الجندي (وهو يبلع ريقه كالغصان) - ستة عشر
الإمبراطور (إلى العالم) - ومتى يعود هذا الجندي إلى الصفوف؟
العالم - في ظهر الغد يا مولاي
الإمبراطور - متى عاد من الصفوف فإني أحب أن أراه مرة أخرى وسأنعم عليه بالوسام المثلث الصلبان
العالم - أنتم ترون يا صاحب الجلالة أنه أصبح في وسعنا إرسال الجيش ومعه (قطع التغيير) أرجل من المعدن، وأيد البرنز، وأعضاء من النيكل، ومفاصل من الألومنيوم وعيون وآذان كهربائية، فعند أقل إصابة نستبدل بالأجزاء الهالكة الآدمية أجزاء قوية آلية. وهناك أصابع على حدة، وأكف مستقلة عن الأذرع، ومعاصم إلى دون الكوع
الإمبراطور - وما وزن هذا الجندي؟
العالم - 175 كيلو يا مولاي!
الإمبراطور - وما وزن (قطع التغيير) التي أضيفت إليه؟
العالم - مائة وخمسة يا مولاي؟
الإمبراطور (وهو يمسح جبينه بيده) - هذا أكثر من وزن جسمه
العالم - هذا صحيح يا مولاي ولكن غذاءه الآن أقل من نصف ما كان يحتاج إليه. لأن الأجزاء الآلية في غير حاجة للغذاء
الإمبراطور - لقد أهديت إلى أعظم ما وصلت إليه المدنية في تاريخها، ولكن حدثني عن العين التلسكوبية
العالم - هذه العين يا صاحب الجلالة فضلاً عن قوتها لها ميزة أخرى هي أنها ترى في الظلام
الإمبراطور (وقد بدا عليه أنه لم يصدق) يرى في الظلام؟
العالم - نعم يا مولاي، وفضلاً عن ذلك. . .
الإمبراطور (مقاطعاً) صه! إن هذا الأمر في غاية الخطورة
العالم - هل لجلالتكم اعتراض على تجربته في الظلام؟ الإمبراطور (متردداً) - لا - وعندك زر الكهرباء، أغلق النافذة وأطفئ النور
العالم (للجندي 241) - التفت إلى جلالة الإمبراطور. وسأطفئ النور (ثم قال الإمبراطور) وتفضل يا مولاي بإبداء أية حركة فإن الجندي سيصفها
(ويطفئ النور فيبدي الإمبراطور حركات وبطلب إلى الجندي وصفها)
الجندي - إن جلالته رفع يديه إلى أعلى ثم ضمهما. إنه أحنى رأسه إلى الأمام. إنه يصلي
الإمبراطور (محتداً) - أسرع بإيقاد المصباح
العالم - هل اكتفيتم جلالتكم من التجربة؟
الإمبراطور (بحالة عصيبة) - هذا فوق المدارك الإنسانية
ويوقد النور فيقف الإمبراطور ويقول: هذه سعادة لا حد لها أهديتها إلي في عيد ميلادي يا أستاذ! هذا اختراع يعيد إلى جنسنا جدارة فوق كل جدارة (ثم ينزع وساماً عن صدره ويضعه على صدر العالم) ويقول: هذا وسام الجدارة المرصع. هذا شارة الحق الإلهي. هذا الوسام الذي لم يتقلده غير الإمبراطور أقدمه هدية إليك
العالم (يتقدم منزعجا فيقبل يد الإمبراطور)
(في اللحظة التي يقبل فيها العالم يد الإمبراطور تبدو على عيني الجندي نظرة غضب شديد وتفتر أسنانه المعدنية عن ابتسامة خفيفة مؤلمة ويعود الإمبراطور إلى الجلوس)
الإمبراطور - إني في دهشة من قوته ومن حدة بصره فإلى أي مدى يرى؟
العالم - في استطاعته يا صاحب الجلالة أن يرى العدو على بعد عشرين أو ثلاثين ميلاً وأن يعد ما لديه من المدافع والخيول والمعدات
الإمبراطور (مسرعاً) - انتظر فإني سأقوم بتجربة أخرى.
إنني أحمل في جيبي نسخة دقيقة الحروف من الكتاب المقدس ولا تمكن قراءتها إلا بالمكرسكوب. فهل ترى هذه التجربة صعبة؟
العالم - كلا يا صاحب الجلالة فهذه تجربة سهلة جداً
(يتقدم من الإمبراطور ويتناول منه الكتاب المقدس ثم يلتفت إلى الجندي رقم 241 ويقول:
التفات!
در يميناً! (يلتفت الجندي ويؤدي التحية العسكرية)
العالم - إنني أفتح الكتاب المقدس حيثما اتفق - أقرأ من هذه الصفحة
الجندي - إنجيل متي. الإصحاح الخامس. الآية الرابعة:
طوبى للحزانى لأنهم يتعزون. طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض
العالم (يلتفت إلى الإمبراطور)
الإمبراطور - أصاب، فإني أحفظ كثيراً من إنجيل متي
العالم - (يلتفت إلى الجندي) أطو هذه الصفحة واقرأ في أخرى
الجندي - اشعيا، الإصحاح الثالث، الآية الخامسة عشرة. ما لكم تسحقون شعبي وتطحنون وجوه البائسين. يقول السيد رب الجنود
الإمبراطور - صه! (ويستند بظهره إلى الكرسي وقد بدا عليه الانفعال الشديد ويمسح جبينه بكفه مرات
ويتناول العالم الكتاب فيرده إلى الإمبراطور فيضعه هذا في جيبه ويقول إن قوته شيطانية. إنني أريد امتحانه على انفراد
العالم يمشي إلى المنضدة التي عليها حافظة أوراقه فيحملها)
الإمبراطور - أسرع وسأطلبك متى شئت بدق هذا الجرس (وفي هذه الأثناء يظل الجندي واقفا مكانه وقد بدا علي عينيه إصرار على عزم جديد
العالم - مره يا مولاي!
(ثم ينحني ويخرج. ويظل الإمبراطور يتأمل في دهشة ولا يرفع بصره عن الجندي 241 ثم ينزل بجلال عن عرشه ويمشي في بطء نحو الجندي ويدور حوله ويفحصه ناقدا ممحصا. وهنا يبدو على الإمبراطور فزع وخوف ويشعر بأن مركزه من هذا الجندي غير مأمون
الإمبراطور - أين مولدك؟
الجندي - في الجنوب يا صاحب الجلالة
الإمبراطور - ماذا كانت حرفتك؟
الجندي (يبدي من غير إرادة حركة دالة على التبرم) - كنت زهَّاراً. (فيتأمل الإمبراطور في أصابعه المعدنية. ويفطن الجندي إلى هذه الملاحظة)
الجندي - لقد كنت اصنع باقات الورد ولكن بغير هذه الأصابع (ينحني الإمبراطور وحهه عنه) بل بأصابعي المفقودة
الإمبراطور - ليس في الحرب حفلات تحتاج للزهور
الجندي - أستطيع يا صاحب الجلالة أن اصنع باقات للموتى (ثم يميل نحو الإمبراطور)
(يلاحظ الإمبراطور لهجة تهكمية في خطاب الجندي فيتظاهر بالغضب)
الإمبراطور - ألست شاكراً فضل العلم على ما قام به نحوك من الإصلاح؟ تكلم!
الجندي - ماذا أقول؟
الإمبراطور - لقد أصبحت إنساناً بعد أن شوهت. لقد استرددت ما فقد منك
الجندي - نعم يا جلالة الإمبراطور ولكن قلبي تحطم
الإمبراطور - لماذا؟
الجندي - أهلي يموتون جوعاً. وزوجتي وحدها
الإمبراطور - إذن فأنت غير مزهو بأن العلم وجد سبيلاً لمضاعفة جيشنا وتقويته؟
الجندي - بماذا؟ بتقديمي ضحية للموت مرتين؟
الإمبراطور (يتكئ إلى الكرسي مستنداً إليه) - هذا جحود!
الجندي - بمضاعفتك قوة جيشك ضاعفت أحزان الإنسانية (ويخطو خطوتين في عنف نحو الإمبراطور)
الإمبراطور - أنت تفوه بكلمات ثورية في حضرة الإمبراطور بما اجترأت على قوله
الجندي - اجترأت؟ إن الخوف قد ذهب من جسدي الممزق إلى جسدك أنت (ويمشي نحو الزر الكهربائي متثاقلاً ليطفئ النور)
الإمبراطور - اجث على قدميك، وأطلب الصفح من إمبراطورك
الجندي - إن هذا الجسد الذي أصبح معظمه من الحديد لا يجثوا أمام جسد معظمه من الدم. إنني لا أركع إلا لله الذي أطلب منه أن يغفر لي ما اعتزمت على اقترافه الآن. بل لا وزر عليّ في إنقاذ العالم من روحك الطاغية. فالذي سأفعله هو لمصلحة الشعوب المرهقة. إن عيد ميلادك هذا هو عيد موتك وعيد مولد الحرية (ويطفئ الجندي النور فيغمر الظلام المسرح)
الإمبراطور (صارخا) - النور! النور!
الجندي - لست في حاجة إلى نور
الإمبراطور (يشتد صراخه) - النور! النور!
الجندي - لقد جعلتني أعيش في الظلام فمت أنت الآن في الظلام
الإمبراطور - (وهو يكاد يختنق) الرحمة! الرحمة!
الجندي - إنك لن تستطيع الإفلات مني. إنني أستطيع رؤيتك في أحلك الحالك، وأستطيع سماعك مهما خفت صوتك. تعالى إلى اليد الحديدية التي تباهي بأنك صنعتها لي. لا ترتعش وأذهب إلى ملك الملوك
(يسمع صوت جلجلة الحديد وصلصلته وتسمع أصوات من خارج القاعة ممتزجة بصرخات، وبصوت الأسنان الحديدية والأيدي والأرجل المعدنية.
ثم يسود الصمت مرة أخرى وتضاء الغرفة فيظهر الجندي 241 واقفا وأمامه الإمبراطور ملقى على الأرض عند عتبة العرش، ثم ينحني الجندي على صدره فينزع الوسام ويضعه على صدر نفسه
ويدخل العالم الذي كان مختبئا إلى الآن وراء الستار)
العالم (مذعوراً) - ما هذا؟
الجندي (رافعا يده المعدنية إلى السماء صائحا بصوت كالرعد):
(الدم والحديد!)
(ستار)