مجلة الرسالة/العدد 330/على ذكر الحرب الراهنة
→ جناية احمد أمين على الأدب العربي | مجلة الرسالة - العدد 330 على ذكر الحرب الراهنة [[مؤلف:|]] |
من بغداد. . . إلى كركوك ← |
بتاريخ: 30 - 10 - 1939 |
موقف العلم من الكمال الإنساني
للأستاذ توفيق الطويل
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
انتهينا في حديثنا السالف إلى أن العلم قد استعبدته الأغراض في أكثر مراحل حياته، فعاش في خدمة الإنسان يحقق مطالب حياته العملية، أو يستجيب لنداء عقيدته الدينية، وأقام على هذا الاستعباد طول عمره، إذا استثنيت مرحلتين من حياته تحرر فيهما من ذل الأغراض، هما عهد اليونان، والفترة الأخيرة من عصرنا الحديث. وقد أشرنا فيما أسلفنا إلى الروابط التي أخذ ينشئها المحدثون من العلماء بين العلوم الطبيعية والفنون الجميلة، بتوحيدهم الغاية التي ينتهي إليها كل منهما، فكان علينا إذا رغبنا في الحديث عن صلة العلم بالكمال الإنساني أن نتناوله عند (بيكون) ابن العلم الحديث، ورب الدعوة إلى تسخيره لصالح الإنسان.
3 - الكمال عند بيكون
تمرد رجال النهضة على العصور الوسطى، وأقبلوا يحملون - فيما حملوا - معاول الإصلاح الديني، وحطموا بها الكنيسة وسلطانها الذي هيمنت به على قلوب الناس وعقولهم أجيالاً طوالاً وسار في موكبهم حواريو العلم الطبيعي يتقدمهم رجال الفلك، من كورنيكوس وتيخوبراهي وغاليلو وكبلر، وشنوا الغارة على علم الأقدمين ومكنتهم الآلات التي اخترعوها من الكشف عن كثير من أخطائهم، وبذلك هتكوا عصمتهم، وحطموا قداستهم وأعلنوهم لطلاب العلم ناساً كسائر الناس، ومهدت هذه الحركات لظهور (بيكون) في أواخر القرن السادس عشر، فتقدم بعقله الواسع وقلمه السيال، للانضمام إلى موكب المحاربين، وساهم بأوفر نصيب في تحطيم الفلسفة الجدلية التي شاعت عند المدرسيين، وهدم القياس الذي استعاروه عن أرسطو ليحل مكانه منطقاً قائماً على الاستقراء، فوضع بذلك أساس المنهج التجريبي، وبدأ العلم في عصره الحديث على يديه، ورسم للباحث منهجه وحدد له غايته، فدعا إلى تطهير العقل من الأوهام التي تعرقل طلاقته، ونادى بالإكثار من جم المشاهدات وإعداد تاريخ لكل منها، وتصنيفها توطئة لمقارنتها بعضها ببعض، واستنباط العلل الكامنة وراءها، وتسخير النتائج التي يهتدي إليها العلماء لخدمة المجتمع، وتوفير أسباب الكمال لأفراده، فربط بذلك بين العلم والكمال الإنساني، وصور هذه النتيجة قي كتاب صادف عند الكثيرين من المؤرخين مديحاً ملحوظاً ذلك هو الذي صور فيه مجتمعاً مثالياً - على نمط جمهورية أفلاطون والمدينة الفاضلة للفارابي - وتوافرت في مجتمعه أسباب الكمال، وتهيأت لأفراده ألوان النعيم؛ وأظهر ما في هذا المجتمع المثالي مما يعنينا في مقالنا (بيت سليمان) وهو يشبه المؤسسات العلمية التي تقام في عصرنا الحاضر للعمل على تقدم العلم وإنهاضه، وقد حدد الغرض الذي يرمي إليه هذا البيت بالكشف عن أسباب الظواهر والاهتداء إلى علل الأشياء، والتمكين لسلطان الإنسان حتى يتيسر له القيام بكل عمل ممكن؛ وتحقيقاً لهذه الغاية أنشئت المعامل لإجراء التجارب في مختلف فروع العلم من طب وطبيعة وصناعة وزراعة. وأقيمت المراصد لمراقبة الظواهر الجوية، وحفرت البرك والبحيرات لتربية الأسماك وسائر الأحياء المائية. . . ولما كان بيكون شديد العناية بالإكثار من جمع المشاهدات والإسراف في عمل التجارب رغبة في تمكين البحث، وعدم التسرع في استنباط القوانين العامة من الجزئيات القليلة، فقد رأى أن يوفد بيت سليمان فئة من العلماء بين الحين والحين، يجوبون البلاد الأجنبية، ويرتادون الآفاق النائية في طلب المشاهدات، وجمع الكتب وكتابة التقارير عما يصادفهم من غريب الظواهر، وبذلك ترقى العلوم ويتيسر لأهلها أن يفهموا الطبيعة على وجهها الصحيح، لا اقتصاراً على فهمها، بل توطئة لبسط سلطانهم على ظواهرها، واستغلال سيادتهم لها، في الانتفاع بها والإفادة من مواردها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً وبذلك يرقى المجتمع وينهض أفراده. وقد جره هذا التصور إلى أن يكل حكم المجتمعات إلى العلماء والفلاسفة الذين لا يقنعون بالاطلاع على ما تحويه بطون الكتب، وإنما يولون جهودهم شطر الطبيعة ليجمعوا منها المشاهدات توطئة لاستغلال فهمهم لها في ترقية المجتمع والعمل على تطوره إلى الكمال
تلك صورة مصغرة لهذا المجتمع المثالي الذي يتحقق فيه الكمال الإنساني فيما بدا لبيكون. ولم يكن هذا التصور غريباً على العصر الذي دوت فيه هذه الصيحة، فقد اتجهت فيه أنظار أهل العلم والأدب والفن إلى الطبيعة، وراح كل يعبر عنها بطريقته وفي حدود منهجه، واهتم العلم بالسيطرة على ظواهرها أملاً في استغلال مواردها، واتقاء شرورها، وملأ الحياة الإنسانية بالخير والهناءة.
وقد تساءل (كامبانيلا) - معاصر (بيكون) - في مجتمعه المثالي عن موقف الإنسان الجديد من الرقيق، وانتهي إلى القول بأن مخترعات العلم الحديث ستوفر للناس وقتهم، وتغنيهم عن الرقيق والعبيد، وتجعلهم سادة للطبيعة، وتملأ حياتهم بالسعادة. . .
تلك هي النزعة التي شاعت في أوربا أواخر عصر النهضة، وهي قائمة على الأمل الباسم في قدرة العلم على تحقيق السعادة للناس. وقد مكن لهذه النزعة بيكون في مستهل القرن السابع عشر، ودفعها إلى العصور الحديثة، فانطلقت أبانها تسعى حثيثة حتى خابت في العلم آمال الناس، وتحرر العلماء من ذل الأغراض - على نحو ما عرفنا في مقالنا السالف -
والآن بعد أن قطع العلم هذه المراحل الطويلة في تحقيق الغاية التي كان يرجوها (بيكون) وأشياعه، نرى من حقنا - وقد اندلعت نار الحرب وراح العلم يقدم لها الوقود - أن نتساءل عن مدى ما حققه العلم من الكمال، ومبلغ ما أسبغه على الناس من نعم. وليس هذا السؤال بجديد في تاريخ الفكر، فكثيراً ما تردد في أبحاث الأدباء والفلاسفة، واختلفت في الإجابة عليه وجهات النظر. ولقد ذهب بعض الذين تناولوا بالبحث هذا الموضوع إلى الطعن في العلم وما يترتب عليه من ألوان الحضارة والمدنية، والدعوة إلى العيش على مقتضى الإلهام الطبيعي البسيط، وقد نادى بهذه النزعة في القرن الثامن عشر (جان جاك روسو)، ولم يقصر هجومه على العلوم الطبيعية وحدها، وإنما تجاوز آفاقها إلى الطعن في العلم بأوسع معانيه، فشملت غارته الآداب والفنون كذلك، فلنعرض - في إيجاز - حلمه الذي كان يرى فيه تحقيقاً لسعادة الناس، وسنرى بين آرائه وآراء (بيكون) هوة سحيقة القرار:
4 - السعادة عند روسو:
مات لويس الرابع عشر فماتت معه الملكية المستبدة القادرة في فرنسا، واستأسد من كان بالأمس ذئباً، فاسترد الأشراف نفوذهم، واستعاد الكتاب والشعراء حريتهم، وتأهبوا لتحطيم الإيمان الديني الذي جاهد أسلافهم لتدعيمه زلفى إلى الملك الديّن المستبد. وشاعت اللادينية في فرنسا، وكانت تعاني من حروب انقضت ظهرها، وفاقة أحرجت صدرها، وترف يهد من كيانها فتدهور نفوذ الملك، وانحل سلطان الدين، ومال المفكرون إلى تمجيد العقل، معلنين التمرد على كل قديم. وفي هذا الجو نشأ (جان جاك روسو) شريداً بائساً، حييّا مسرفاً في الحياء، لا يحسن عشرة الناس ولا يألف المجتمعات؛ يعشق الطبيعة ويجد في رحابها مسرحاً لخياله الوثاب، لم يوهب العقل الخالق الممتاز، ولكنه أوتي القدرة على التعبير المليء بالقوة والحرارة والإيمان، فنصب نفسه لمحاربة الإلحاد بالطعن في العقل والمدنية وتمجيد القلب والفطرة، بعد أن أخفق (بيركلي) في نصرة الإيمان الديني بإنكار المادة، والاقتصار على الاعتراف بوجود العقل - أو الروح - وتهيأت له فرصة الإعلان عن رأيه، حين طرحت أكاديمية (ديجون) على الكتاب مسابقة عن أثر العلوم والفنون في صلاح الأخلاق أو فسادها، فتقدم (روسو) للاشتراك فيها، وقد وطن العزم على الطعن في العلوم والفنون، وبيان ما يترتب على انتشارها من سيئ الآثار، وتوالت بعد ذلك حملاته وإلى القارئ الكريم خلاصة رأيه:
تحدث (روسو) عن الرجل البدائي الذي يعيش في أحضان الطبيعة، بسيطاً هانئاً ببساطته، جاهلاً قانعاً بجهالته، مسترسلاً على فطرته وطبيعته؛ ثم قارنه برجل المدنية الفخور بعلومه، المزهو بفنونه، الغارق في حياته المعقدة، وانتهى من هذه المقارنة بترجيح الأول على الثاني، مؤيداً رأيه بمثل استقاها من تاريخ المصريين واليونان ومن إليهم. فمصر المجيدة التي كانت مدرسة الدنيا بأسرها، ما كادت تصبح أم العلوم والفنون، حتى أغار عليها قمبيز، وأعقبه اليونان والرومان والعرب والأتراك على التوالي، فهبطت إلى الهوان على سلم صيغت درجاته من علم وفن. وكذلك يقال في غيرها من كبرى الأمم، والتاريخ شاهد عدل على صدق ما نقول، فمتى نشأت الفلسفة تدهورت الأخلاق، وأنى ظهر العلم اختفى الشرف، وليس الرجل المفكر إلا حيواناً فاسد المزاج مناقضاً للطبيعة، فالفكر وكل ما أبدعه من ألوان المدنية والحضارة تمرد على إلهام الفطرة ووحي الطبيعة، ومن هنا نشأ شقاء بني الإنسان. فالإنسان الأول خيّر بطبيعته، طيب بفطرته، قانع ما وجد اللقمة التي يسد بها رمقه، والخرقة التي يستر بها عورته، والمرأة التي يقضي معها حاجته، ومتى انقضت حاجته، فقد انطفأت رغبته، فإذا ولدت المرأة تعهدت طفلها بالرعاية كما تفعل أنثى الحيوان التي لا تعرف إلا إلهام الطبيعة الرحيمة، فإذا شب الولد في ظل هذه الرحمة الطبيعية تكفل بحياته، شأنه شأن سائر أنواع الحيوان، وعاش متساوياً مع رفاقه يتبادلون المحبة والوئام والإخاء، لا يزهو أحد على أقرانه بعلم ولا مال، وبهذا كانوا سعداء، ثم تمردوا على إلهام الطبيعة، وخضعوا لإملاء العقل، فأدركتهم المدنية بعلومها وفنونها، وسرعان ما طاردت النعيم الذي عاشوا في رحابه، وسلبتهم باسم النظام ما كانوا يتمتعون به من ألوان الحرية، وميزت بعضهم على بعض فجعلت منهم أغنياء وفقراء، وسادة وعبيداً، فكان هذا مبعث الداء وأصل الشقاء. ولقد كانت الإنسانية تنجو من الجرائم البشعة والحروب الدامية التي ارتكبت في سالف أيامها من جراء الطمع، لو أن أول من أحاط قطعة أرض وقال: هذه ملكي - قد وجد رجلاً شهماً يتقدم إلى هذه الأرض فيحطم السياج الذي أحاط بها، أو يردم الخندق الذي التف حولها، ويصيح في قومه: أيها الناس حذار أن تصدقوا هذا الكذاب الأشر. . .
وما من دواء لهذا الداء إلا بالرجوع إلى أحضان الطبيعة، ورياضة القلب والاعتماد على الفطرة وإهمال العقل وما يترتب عليه من ألوان العلوم ومظاهر المدنية والحضارة
تلك صورة مصغرة للكمال الذي يحلم به (روسو) في القرن الثامن عشر. وهي على خلاف ملحوظ مع الكمال الذي يحلم به بيكون في القرن السابع عشر. ويعنينا من هذا أن (روسو) يهاجم العقل وكل ما يترتب عليه من علم ومدنية، ويرجو لو عاد الناس إلى حضن الطبيعة، وعاشوا سعداء بما هم عليه من قناعة وجهالة. أما (بيكون) فيرى الكمال ماثلاً في إنسان قد مكنته قوى العقل وتجارب العلم من إخضاع الأرض والسماء والماء لسلطانه، فأحسن استغلالها لمصلحة المجتمع الإنساني، وتحقيق السعادة لأبنائه، ففي مدنية العقل الناجح غي إخضاع الطبيعة للإنسان، يكمن الكمال عند بيكون، فأي المذهبين أبعد عن الخطأ أو أدنى إلى الصواب؟
5 - مناقشة روسو وبيكون
ينبغي أن نعترف إنصافاً لروسو بأن آراءه قد صادفت هوى من نفوس قرائه، وأنها سعت إلى قلوب الكثيرين منهم وهيمنت على عواطفهم، وكان لها بالغ الأثر في قيام الثورة الفرنسية بعد ذلك، وكان من آثارها أنها حادت بالأدب عن العقل واتجهت به نحو العاطفة، وجعلت السيدات في صالونات الأدب يسرفن في التزام الظهور بما يدل على الشعور الرقيق والقلب الرحيم، دون العقل الراجح والفكر المتزن، وربما كان لها أثرها في انتعاش الشعور الديني عند القراء
ولكن آراء (روسو) مع هذا حافلة بالأخطاء - فيما يلوح - والمثل الأعلى الذي ينشده عسير التحقيق، ولو تحقق لما أقام الناس عليه طويلاً، ولعادوا إلى المدنية راضين أو كارهين، فإن العقل من شأنه التفكير المتواصل، وليس في وسع قوة في الأرض أن تقيد عقول الناس، وتحرمها نعمة التفكير دواماً، وذلك وحده كفيل بتحقيق التطور الذي يرفع الإنسان من حالة الفطرة إلى مستوى المدنية، وروسو يقاوم أموراً يتصل بعضها بما يترتب على الغرائز من آثار، يطلب محو الملكية، والتزام القناعة، وعدم التقييد باختيار امرأة بعينها، ويزعم أن الناس بطبيعتهم أخيار أطهار، ويبني على هذا الأساس الخاطئ نظرياته التي ثبت اليوم بطلانها - كالعقد الاجتماعي مثلاً - تلك كلها أحلام عسيرة التحقيق، وقد نادى ببعضها أفلاطون في جمهوريته، وحسبنا أن نكشف عن ضعف نظرته إلى علاقة الرجل بزوجته، بتجربة نرويها كما نذكرها الآن: يقال إن تجربة أجريت على طائفة من القردة العليا لمعرفة نظام الزواج الراهن ومدى انطباقه على الطبيعة البشرية - كما أذكر الآن من أمر هذه التجربة - فجمعت القردة ذكوراً وإناثاً، وأتيح لها أن تعيش في مكان واحد، فلوحظ بعد فترة من الزمن أن كل قرد قد اختار له أنثى بعينها والتزم عشرتها، وتولى الذود عنها إزاء كل قرد يفكر في الاعتداء عليها، وكذلك كان موقف الإناث من ذكورها مع فوارق بسيطة، فانتهى الحال إلى ما يشبه النظام الذي شرعته الأديان وأقرته المدنيات.
وإذا صح هذا مع الحيوانات العليا فأحر به أن يكون صحيحاً مع بني الإنسان. ومثل هذا يقال في بقية الآراء التي خلفها لنا (روسو) وذلك - فيما يلوح - أظهر الفوارق بينه وبين (بيكون) فإن الكمال الذي يحلم به بيكون سهل التحقيق، وليس فيه مقاومة لغرائز الناس أو ما يترتب عليها من آثار. . .
ثم أي سعادة تلك التي يحتمل أن يشعر بها الرجل المتوحش الذي يعيش على إلهام الطبيعة ووحي الفطرة؟ إن (روسو) يتغنى بما يتمتع به الرجل من ألوان الحرية ونعيم الجهالة، ويشفق على المتمدين من القيود التي يكبل بها باسم النظام والمدنية ولكنه نسي أن هذا المتوحش يعيش في أسر ذليل، تستعبده الأوهام، وتذله الخرافات، ويزعجه الخوف من كل شيء حتى من نفسه، ثم لا يشعر بعد هذا بالسعادة التي يحلم بها (روسو) حتى إذا عاش في غمرتها، ذلك لأن الشعور بالسعادة يتوفر لأصحابه إذا مروا بدورين: أولهما سلبي وهو انتفاء الشعور بالشقاء، وثانيهما إيجابي والشعور بالسعادة. أما الحالة الوسط التي يعيش فيها الرجل المتوحش، فينتفي عندها الشعور بالشقاء والسعادة معا، فإنها ليست من السعادة في كثير ولا قليل، ومن هنا يظهر بطلان الدعوة التي بشر بها (روسو) وعبر عنها (المتنبي) بقوله:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
ذلك وجه الخطأ في مهاجمة العلم وما يترتب عليه من آثار المدنية، والدعوة إلى الطبيعة وتوهم السعادة في ظلها. وقد تردى روسو في هذا الخطأ لأنه عاش في بيئة أنهكتها الأمراض والعلل، بالإضافة إلى فشله في عشرة الناس، وعدم ملاءمة طبيعته للمجتمعات، ولهذا أصاب في التمرد على أخطاء بيئته، ولكنه أخفق في علاجها إخفاقاً بيناً. ولعل (فولتير) كان على حق حين قال ساخراً منه: (لو أن الناس أصاخوا لآرائه، لسرهم أن يمشوا على أربع. . .!)
وقد عاش بيكون في بيئة عقلية يعوزها الاستقرار، فعرف داءها وشخص الدواء الذي يقتضيه علاجها، وقد تجد ما تؤاخذ به بيكون في تشخيص الدواء أو فهم الداء، ولكنك لا تملك إلا الاعتراف بتوفيقه، وقد انقضى على موته نحو ثلاثة عشر قرناً وثلاث عشر عاماً، وحققت الأيام الكثير من آماله، فأصاب العلم نجاحاً في أكثر الميادين، وعرف الإنسان كيف يعالج الطبيعة، ويتغلغل إلى فهم أسرارها ويعرف العلل الكامنة وراء ظواهرها والطرق التي تمكنه من استغلالها على أكمل وجه والانتفاع بها إلى أقصى حد، فقهرها على ظهر الأرض وفي أعماق البحار وفي أجواز السماء، وكاد يحيل المكان والزمان اسماً على غير مسمى. . .! إنه ينصت اليوم في مصر إلى توقيع الموسيقى في أمريكا، ويستطيع أن يتبادل الحديث وهو جالس إلى مكتبه مع أصدقائه أو عملائه في أقصى بقاع الأرض طرا، وتلك هي السيادة الموفقة على الزمان والمكان. . .
ولكن هل حقق هذا كله شيئاً من سعادة الناس؟ لقد أسفر نجاح العلم عن اختراع الغازات السامة والقنابل المحرقة والمدافع المدمرة والغواصات المغرقة، وسائر وسائل التدمير والتخريب، مما يسمع الناس صدى التهديد به في أيامنا الراهنة، فتنهد قواهم وتنهك أعصابهم وهم بعيدون في غمرة القتال، والظاهر أن (بيكون) لم يقدر هذه النتيجة الرهيبة، فقد جعل من مظاهر التقدم في مجتمعه المثالي، أن يتجنب الحروب ويتقي شرورها، وذلك بألا ينتج إلا ما يستهلكه، ولا يستهلك إلا ما ينتجه. .!
على أن هذه النتيجة التي انتهينا إليها من النظر في الأثر الذي يترتب على الدعوة إلى تقدم العلم، قد رد عليها دعاته فقالوا إن العلم الذي اخترع ما استغله البعض في غير صالح الإنسان، هو نفسه الذي اخترع ما يقي الإنسان هذا الشر الطارئ. اخترع الغازات السامة وقدم للناس الأقنعة الواقية. اخترع الطائرات الحربية بقنابلها المحرقة وأعد المدافع المضادة لمقاومتها. وكلما أظهر للمجتمع خطراً جديداً تولى وحده مقاومته ووقاية الناس من ضرره. . .
ولكن أصحيح أن المجتمع الإنساني قد أمن بهذا شر المخترعات الحديثة؟ أصحيح أن الناس الآمنين في بيوتهم لن تصيبهم الغازات الجوية بعد اليوم بسوء؟ ذلك ما تجيب عنه وحشية الحروب في وقتنا الحاضر؛ على أنا نقول إنصافاً للعلم وأهله إن ما نتصوره ضاراً بالمجتمع الإنساني قد يكون كبير النفع من جوانب أخرى، وما نراه في الحروب عدواناً وحشياً ذميماً فيه قضاء على النفوس البريئة والأموال الطائلة وحضارة الأجيال الماضية، قد يعتبر شراً لا بد منه تقضي به حياتنا ومثلنا العليا. ومن المفكرين الذين درسوا المجتمع في تطوره إلى الكمال وانحداره إلى الاضمحلال من اعتبر الحرب نعمة والسلام الدائم نكبة على أصحابه. ثم إن عدوان القوي على الضعيف عند بعض المفكرين حتى تبيحه القوة أو يبرره التفاوت في المدنية، وذلك بالإضافة إلى أن القتال في أصله غريزة لم يلدها العلم وإنما اقتصر على تغذية نارها، فإن كان أثر العلم في وحشية الحروب سيئة عند بعض القراء فهو حسنة عند غيرهم من المفكرين، لأنه يعجل بنهاية الحرب وينقذ الناس من شر أنبائها، بالإضافة إلى الميزات التي يكسبها الناس من وراء الحروب. . .
على أن من التجني أن يحمل العلم تبعة هذه الاتهامات التي عرضه لها بيكون يوم ربطه بصالح الإنسان، فقد ألقى العلم عن عاتقه هذه التبعة الخطيرة يوم حرر نفسه من ذل الأغراض - كما أبنا في مقالنا السالف -
على أن من الخير أن نقول إن السعادة - إن صح أنها رادف لكمال الإنسان - لا تعيش في آثار العلم والمدنية، ولا تقيم في أحضان الطبيعة والفطرة؛ ولكنها تعيش في قلب الإنسان يحملها معه أنى ذهب ولا يستطيع أن يفارقها أو يستدعيها تبعاً لظروف الزمان والمكان، وهي بعيدة عنه دائماً إن كان بينه وبينها جفاء طبيعي ولده مزاجه أو أسفر عنه خطأه في النظر إلى الحياة، فمن الناس من وهب القدرة على أن يستمد من الشقاء الذي يكتنفه شعوره بالسعادة، ومنهم من يتخذ من مباهج الحياة وأفراحها أسباب اكتئابه وشقائه. فالسعادة فن يفيد تعلمه أكثر الأشقياء الذين قد لا تنطوي حياتهم على سبب واحد يبرر الشعور بالشقاء! وما يقال في الفرد ينسحب على الجماعات. . .
توفيق الطويل