مجلة الرسالة/العدد 330/رسالة الفن
→ التاريخ في سير أبطاله | مجلة الرسالة - العدد 330 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
رسالة العلم ← |
بتاريخ: 30 - 10 - 1939 |
لإسلام الفن وإسلامنا:
فلنغير ما بأنفسنا
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
قواعد الإسلام هي:
1 - الشهادة بأن لا أله. . . إلا الله وحده. . . وحده لا شريك له في أي ناحية من نواحي ألوهيته، ومنها تفرده بالخلق فهو واهب الحياة، وواهب الرزق، وواهب الراحة في الحياة، وفي الموت، وفيما بعده. ومنها تفرده بالحكم حكم فلا حكم إلا لقضائه وأمره وشرعه. . . هي الشهادة بالله. وأظن أنه لا جدال في الله
2 - الشهادة بأن محمداً رسول الله. . . وهذه قضية تقوم على ركنين: أولهما أن محمداً رسول، وثانيهما أنه رسول الله. أما أنه رسول فحياته كلها تشهد بذلك، فقد كان صاحب فكرة خاصة محدودة تسلطت عليه منذ يقظته إلى الكون وانتباهه إلى نفسه، فلم يخرج عن حدود فكرته هذه لا في عمل ولا في قول، ولا في جد ولا في هزل. حتى لقد كان يمزح فلا يقول إلا حقا. وقد بدأ انطلاقه في اتجاهه هذا منذ طفولته المبكرة فعرف فيه الناس طفلاً (الصادق الأمين) وليس للأطفال جرائم ولا زلات إلا الكذب وإغفال العهد فمن لم يقترفها منهم كان الطفل الطاهر، محمداً. ما أروع أسمه!
هو إذن رسول فكرته. . . فأية فكرة كانت فكرته؟ كانت الحق، وكانت الفطرة. والحق هو الله. . . والفطرة هي الطبيعة التي أوجدها الله، ومن قوانين هذه الطبيعة التطور والارتقاء بالمادة والروح
فهو إذن رسول الله، لا رسول الشيطان، ولا رسول فكرة أخرى آثمة بعثتها نزعة من نزعات نفس متعجلة. . . فمن محمد؟ إنه بشر لم يخرج على طبع البشر. فهل من طبع البشر أن يستطيع الاتصال بالله؟. . . إنه يستطيع لو كانت في نفسه مؤهلات محمد ومواهبه ثم جاهدها جهاد محمد. فإذا لم يستطيع فليشابهه قليلاً أو كثيراً حسبما يستطيع، ومن كان كعمر فهو خير ممن كان كز 3 - الصلاة: والصلاة عمل وكلام: قيام يقرأ الإنسان فيه من كلام الله. . . كذلك يجب أن ينهض المسلم في الحياة وأن يذكر الله. . . وعليه أن يذكر الله في عمله، وفي قوله، فالصلاة عمل وكلام. . . وركوع. . . وهو هذا الانحناء أمام ربنا العظيم. . . العظيم حقاً. . . الذي فعل ويفعل. . . وسجود لربنا الأعلى. . . إليه وحده الذل، وبه وحده العزة، وعنده وحده الأمان، وفيه وحده الرجاء. . . وهذه الجلسة الأخيرة المطمئنة التي يقرأ فيها المصلي التحيات لله، والسلام على النبي وعلى نفسه وعلى المؤمنين. كذلك يجب أن يفعل الإنسان حين يطمئن وحده أو بين الناس أن يكون كلامه وعمله تحيات وسلاماً. . . لله وللنبي وللمؤمنين ولنفسه. فالصلاة إذن تلخيص لما يجب أن تكون عليه الحياة. ولو أن الناس ذكروا الله ونهضوا، وعظموه وخشعوا، وأجلَّوا شأنه وذلوا له وآمنوا به، وكان الذي بينهم وبين الله والنبي والناس وأنفسهم تحيات وسلام. . . لو أنهم فعلوا هذا فيما بين الصلاة والصلاة، لكانت حياتهم صلاة في صلاة. . .
4 - صيام: والصيام زهد في حاجات البدن، وهو دليل على إمكان الرقي وهو من بشائر القيام بالذات. . . وهو عدو المادة الذي نصره الإسلام
5 - الزكاة: والزكاة نزول عن جزء من ملك الإنسان للناس، فمن كان ملكه مالاً فعليه نصيب منه يجب أن يؤديه للناس، ومن كان ملكه معنى فإن عليه نصيباً منه يجب أن يؤديه للناس. . ومن أحسن وتصدق فإن له في الصدقة عشرة أمثالها. . ذلك أن الإحسان يبعث في النفس شعوراً بالراحة والغبطة، فإذا أحب الإنسان الإحسان أحب هذا الشعور، فمارس من أجله الإحسان وأدمنه واستلان له حتى يقضي العمر في إحسان وإحسان، فهو في راحة وغبطة ما دام محسناً. . . إن في الإحسان جزاء الإحسان، وإن الذي عند الله خير وأبقى
6 - حج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً: والبيت حرم تتجه إليه القلوب والأنظار والأسماع. وللحج وقت خاص يجتمع فيه القادرون عند هذا البيت. . . من الشرق ومن الغرب ومن الشمال ومن الجنوب، فإذا كانت أمة في محنة حج القادرون من أهلها إلى البيت والتقوا عنده بالحجاج ممن يملكون عونهم فاستعانوهم، والإسلام أخوة، والتعاون فيه واجب، فالحج إلى البيت يشبه ما يريد الغرب أن يحج رؤوسه إلى جنيف أو لوزان هذه هي قواعد الإسلام وهذا هو شيء عنها، وإن الإسلام لأجل وأجل من هذا الذي بسطت وأعظم
فهل في الدنيا مسلمون كثيرون؟
الواقع أننا في حاجة إلى صرخة جديدة تهتف بالإسلام ليفيق على دويها المسلمون الذين نام الإسلام في قلوبهم - ولا نقل إنه مات، لأنه لا يمكن أن يموت، فهو دين الفطرة والطبيعة المرتقية، فهو حي ما كانت الحياة، إذا أغفله أهله المنسوبون إليه، فإن غيرهم ساع إليه متعلق به؛ يحققه قليلاً قليلاً، حتى ليشهدن في آخر الأمر به عمله، وليعلنن الشهادة بعد ذلك بلسانه
وهاهو ذا برناردشو يقول إن الإسلام هو الدين الذي سيسود أوربا بعد مائة عام. وهو لم يقل هذا إلا لأنه لحظ اتجاه الحياة الأوربية إلى مبادئ الإسلام الحقة تستنجد بها كلما أحست وحشة المارد وظلمتها، مدفوعة في ذلك بعوامل الطبيعة لا بتبشير يزاوله المسلمون، ولا بجهاد يمارسونه. و (شو) فنان من الغرب يعرفه الناس بأنه قد حرر عقله، وهو يؤذن بالإسلام على رأس أوربا. . . فكم من فنان (مسلم) يفعل اليوم هذا؟. . . قليلون جداً، فأكثرهم يتحرروا كما تحرر هو، وأكثرهم لم يصقلوا إحساسهم كما صقل إحساسه هو، وأكثرهم لم يطلقوا عقولهم من أغلال الزيف كما أطلق عقله هو، وأكثرهم يعربدون في ظلمة الباطل خارج الحدود التي رسمها الإسلام للحياة. . . ولا يعربد هو وكأنما هم يجهلون أن الفن من الحياة، وأن للحياة حدوداً رسمها الإسلام فحصر في داخلها أصولها، ثم ترك الخيار بعد ذلك لكل مسلم أن ينطلق داخل هذه الحدود ما حلا له الانطلاق، وحدود الإسلام ليست قيوداً مما يشل الحركة، ولا هي أغلال مما يمنع النهوض، ولا هي عصائب مما يحجب عن العيون النور، ولا هي أحجار مما يثقل على الحس، ولا هي جهالات مما يمتنع على العقل الاقتناع به وتدبره، وإنما هي حدود الطبيعة التي لا يمكن خرقها، والتي لا يخرقها إلا من يظلم نفسه، وهي ليست شيئاً إلا تحرير الإنسانية من كل عبودية تفرض عليها إلا عبادة الله ومن كل تقليد أو نظام يراد به العبث بكرامة العقل أو كرامة الروح. . . وهي في ذلك كله سعي حر بالتطور إلى الارتقاء
فعلينا أن نسعى إلى هذا ومن الله العون وعلى أهل الفن الإمامة في هذا السعي فهم الموهوبون فضلاً من روح الله، وعليهم زكاة الروح كما أدى غني زكاة المال. وليقرئوا معنا من آيات القرآن قوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فهذه أمام العيون حقيقة من حقائق الإسلام التي تحتمل الأكوان، وتنهض بالأقدار. وقد تكون عند من يسمعها ويتفهمها أمراً بديهياً تراه كل عين، ويحسه كل قلب، ويعيه كل عقل حتى لكأنها تشبه قولنا: (إننا بشر) و (الملح يذوب في الماء) و (النار تبعث الحرارة) فكل هذه حقائق ليست في حاجة إلى الترديد لأنها معلومة متفق عليها لا ينكرها ولا يجحدها عقل إنسان. ولكن هذا لا يعيبها طبعاً، فهكذا طبع الخلود والدوام في الحق: قد يجهله، وقد نظل أطول العمر نجهله فإذا عرفناه قلنا: (هذا صحيح) ولم نقل أكثر منها، ثم تعجبنا له أو لم نتعجب، ثم أطلقناه بعد ذلك في أنفسنا يغيب في آفاقها حيثما شاء لا نراقبه ولا نتقصى أثره لأننا مطمئنون إليه بما جبلنا عليه من حبه، ولإيماننا الفطري بأنه مهما غاب في أنفسنا؛ فإنه منجدنا عندما نستنجده، وبأنه مجيرنا وقتما نحتاج إليه ونطلبه وأنه يأبى أن يخذلنا فهو الحق، والحق هو الله، والله قريب يلبي دعوة الداعي إذا دعاه. . . ولكننا لا ندعو من الحق إلا قليلاً، ندعوه بعد نكران أو نسيان، وأغلب ما ندعوه في حاجات الأبدان، ليتنا نذكره في غيرها وندعوه، فتصبح لنا إلى جانب هذه الحضارة التي أقامها العالم بالأسمنت و (الزلط) حضارة أخرى نقيمها نحن بالحب والرحمة. . .
فما لنا لا ندعوه؟!.
سبيلنا واضح وهو الإسلام. وهداتنا إليه الفنانون قبل العلماء، فهم الذين يناجون شعورنا وهو أول علامات الحياة فينا، وإنهم يقولون إن طلبهم التحرر، وإنهم لا يطيقون القيود، وإنهم يحبون أن ينطلقوا في الحياة كل منهم وراء فكرة، وإنهم يبذلون أنفسهم للناس فيحترقون ويضيئون لغيرهم الطريق، وإن مأربهم في الدنيا تحية وسلام. فهل هناك حياة تحقق هذا كله في أروع الصور إلا حياة الإسلام؟ فعليهم أن يباشروها، فهي التي تبعث الفن، أسمى الفن، وتقود إلى الهدى، أصوب الهدى وتنشر بين الناس أطيب ما تمنته الإنسانية من اسعد الأحلام. . .
وهم أقدر الناس على هذا ما دام المفروض فيهم هو أنهم أشد الناس إحساساً، وأسرعهم إدراكاً لحقائق الحياة القريبة من الفطرة، أو التي هي الفطرة نفسها، والتي غيبتها عن إدراك الجماهير هذه الستار أسدلتها الصناعة على الطبيعة، وهذه الوسائل أراد بها الناس أن يأخذوا من الأرض أكثر مما تحمل طاقتهم فرزحوا تحت أعباء ما حملوا، وثقلت عليهم أعباؤهم فشغلتهم عما كان جديراً بهم أن يلمسوه، وأن يحسوه، وأن يعقلوه، من شئون أنفسهم ومن شئون هذه الخلائق التي تحيط بهم، وما يربط هذه الموجودات جميعاً من نظام لا يختل، ولا يعتل
جماهير الناس لم تعد آذانهم تسمع أصوات قلوبهم وأفئدتهم فقد طغى على هذه الهمسات الناعمة قصف المدافع، وضوضاء البورصات، وصفير القطر، وأزيز الطيارات. . .
جماهير الناس لم تعد أعينهم ترى ما في أحضانهم من نفوس أزواجهم وأولادهم، فقد غاب كل مرئي في هذه الحضارة بين سحائب الدخان الكثيف الذي تنفخه المصانع فتسمم به الهواء وتسودّه ظلاماً
جماهير الناس لم تعد تملك أن تقف وقفة المتريث المتعرف المتأمل عند أي ظاهرة من ظواهر الجمال أو ظواهر القبح، فالناس اليوم متسرعون متعجلون، يجرون ويطيرون ويقفزون على وجه الأرض كما يرقص الشيطان. . يمرون بآلاف من شواهد الحق والحكمة، ولكنهم لا يلمحونها إلا كما يلمح العقاب من فوق السحاب دبة النملة تحت التراب. . .
فأي شيء يراه هؤلاء؟ وأي شيء يسمعون؟ وأي شيء يعون؟
إنهم أشقى القرون وأباس الأجيال!. . .
وليت للمسلمين في هذه السوق ما لغيرهم من ربح المادة، فقد يكون في المادة عزاء. . . بل حاشا أن يكون فيها إلا عزاء السكرة. . . وهم حتى في هذا متراجعون متأخرون رانت عليهم قناعة النائمين، فلا هم كسبوا الدنيا ولا هم ربحوا الدين. . . فمن منقذهم من هذا غير الفن يلتهب في بعض النفوس بوهج من حر الإسلام، يشعله الإيمان، وتزكيه الرعاية، ويحفظه الإصرار على إرضاء الله. . .
وإن فينا فنانين تعرفهم جماهيرنا. . . ولكنهم مشغولون بما يقرئون من كتب الغرب التي أوحتها حضارة المادة الملفقة، عن آيات الخلد المبسوطة للعيون في القرآن. . . وحتى هم إذا قرءوه لم يقرئوا منه إلا لفظة وأسرعوا في تلاوته كأنما هم يعدون أرقاماً. وفيه آيات جمعت أسرار الحياة. . .
عزيز أحمد فهمي