مجلة الرسالة/العدد 33/السياسة وعلم الاجناس
→ في الأقصر. . . | مجلة الرسالة - العدد 33 السياسة وعلم الاجناس [[مؤلف:|]] |
قيمة الثقافة ← |
بتاريخ: 19 - 02 - 1934 |
للدكتور محمد عوض محمد
يود الذين يشتغلون بعلم من العلوم لو أدرك الناس ان لكل علم حرما يجب ألا يدنو منه غير أهله إلا بشيء كثير من الحذر. ومع ذلك فان من الشائع المألوف ألا يكتفي للناس بالدنو والاقتراب من حرم هذا العلم أو ذاك، بل ان الكثيير منهم ليقتحم عليه الباب ويخترق الساحة، ويستبيح الحمى. في غير رفق ولا حذر، ودون ان يستأذن أو يسلم
وهذا الاعتداء قد يكون من عامة الناس وجهلتهم. فلقد ترى الواحد من هؤلاء يصف للمريض الدواء الشافي والعلاج الناجع في جرأة قلما نراها في الطبيب المحنك الذي وعى في صدره طب الأولين والآخرين. ولكن هذا الاجتراء على حرم العلم قد يكون أيضا - ويا للاسف - من رجال ينتسبون إلى الثقافة وإلى العلم، وربما رأينا المثقف يعتدي - فيي جرأة واعتداء بالنفس - على حرمة علم لم يدرسه ولم يلم به، فيتحدث عنه حديث من أحاط بأطرافه وتوفر على درسه.
ولعل هؤلاء أشد خطراً من جهلة الناس وعامتهم. لأنهم مثقفون، ولأنهم ألموا ببعض العلوم إلماماً حسنا. فأكسبتهم ثقافتهم وعلمهم مكانة بين الناس ومقدرة على الافصاح عن آرائهم ليست للأمي الجاهل، فهم اذا تحدثوا عن علم غير ما اختصوا بدراسته، أخذ الناس عنهم أقوالهم من غير جدال، لما لهم من المقدرة في البيان ومن المكانة في النفوس.
والذين راقبوا هذه الظاهرة بين رجال الثقافة قد أدهشهم أن يروا هؤلاء يتكلمون في جرأة وفي ثقة، عن أمور لا يتحدث عنها الاخصائيون الا في حذر شديد. فيصدق فيهم المثل الانكليزي:
(يمعن السفهاء في الجري والاندفاع، حيث تخشى الملائكة أن تمشي الهويني)
أثارت هذه الخواطر في نفسي مقالة للدكتور أحمد زكي في الرسالة عنوانها (العنصرية) وقد رأينا فيها ما يعانيه علم جديد وهو علم الأجناس من رجال السياسة ممن لن يلموا به إلماماً صحيحا، ولا جشموا أنفسهم مشقة مطالعة سفر واحد مما ألف فيه. وقل أن يكون بين العلوم علم لقي من هذه الناحية مثل ما لقيه علم الأجناس.
فلقد كان من الشائع جدا أن المتكلم عن الأجناس البشرية يخلط بين الثقافة واللغة والدين في تقسيم الناس إلى أجناس، وبين صفاتهم الجثمانية البحتة كاختلافهم في اللون والقامة وشكل الرأس والشعر. . وهي الصفات التي يجب أن تكون الأساس العلمي الاكبر - بل الوحيد - لتقسيم الناس إلى أجناس.
هذه الاختلافات الجثمانية أمرها قديم جداً. وللأسف لم ينشأ علم ولا علماء يعنون بمعالجة هذا الموضوع ودراسة السلالات البشرية دراسة علمية صحيحة إلا في عصر حديث جداً، ومما يؤسف له أن كثيرين ممن أوتوا حظا وافراً من الثقافة لا يزالون - بسبب حداثة هذا العلم - جاهلين حتى بمبادئه الأولية.
ولهذا قد نرى كثيرا من المسئولين من رجال الأدب والسياسة ينطق بألفاظ وعبارات عن الأجناس وأهميتها وأفضلية جنس على حنس في صور لا تنم عن دراسة حقيقة للسلالات البشرية ولعلم الأجناس.
واختلاط السياسة بعلم الأجناس من أيسر الأمور. فان الدول كثيرا ما تصبح في مقام المنافسة والمناظرة من أجل استنهاض همة الناس أو تقوية الروح القومية فيهم. فليس أسهل للوضوال الى هذه الغاية من أن يفهم الناس أن سلالتهم أعظم السلالات، وجنسهم ارقى الأجناس. وقد يتدخل رجال العلم في هذا الأمر، وينزلون عن عرش علمهم الى درك المنافسات القوية. وهذا أمر يستدعي الأسف، ولكنه كثير الحدوث، ولم تختص به المانيا النازية: كما يزعم خصومها. بل إن أشهر الكتاب فيه من غير الألمان
إن علم الأجناس لا يرى فضلا لسلالة على سلالة ولا لجنس على جنس. حتى إن بعض المؤلفين (راجع مثلا كتاب وقد يخصص جزءا غير قليل من كتابه في دحض الآراء الشائعة عن الأجناس، فهو لابد له أن يهدم الخطأ قبل أن يبنى الصواب.
الاجناس كلها متساوية في نظر العلم، ولكن أكثر الناس قد وقر في نفسه غير هذا. ومن قديم الزمان جداً يفخر كل شعب بأنه هو الشعب الأعظم. وما سواه أمم بربرية. وهذا بالطبع لم يكن سوى صورة من صور الأثرة القومية. فاليونان كانوا يقسمون سكان العالم الى قسمين: اليونان والأمم البربرية. وهكذا يقول هرودوت في مقدمة كتابه إنه سيقص فيه الحوادث العجيبة التي حدثت للهلينيين (اليونان) وللأمم البربرية.
وكذلك كان الرومان يعتقدون أن ما سواهم شعوب بربرية. ومن الغريب أن أهل الصين أيضاً كانوا الى منتصف القرن التاسع عشر ينظرون الى الانكليز ومن اليهم بأنهم بربرة. والكلمة الصينية التي تفيد هذا المعنى: معناها الحر في الاشخاص الذين يجلسون القرفصاء على الأرض: أي أنهم من الوحشية بحيث لا يتخذون كراسي لجلوسهم. وهكذا كان كبار رجال الدولة الصينية يخاطبون سفراء الملكة فكتوريا وكانوا يدعونها ملكة البرابرة حتى لقد كان هذا مما أحفظ الأنكليز؛ وكان من جملة الأسباب التي دعت الى اثارة حرب الأفيون.
ولئن كان الجرمان يفخرون بجنسهم اليوم. فكذلك كان يفعل الروس قبل الحرب، فقد كانوا يمجدون الجنس السلافي ويزعمون أنه أرقى الأجناس جميعاً.
ولعله ليس في العالم شعب قد غلا - من هذه الناحية - الغلو كله مثل الشعب اليهودي، الذي لم يكتف بأن ينادي بأنه الشعب المختار، بل لقد أصبحت هذه العقيدة جزءا من الدين اليهودي لا سبيل الى فصلها عنه.
هذه النعرات القومية، قد تكون من ضروريات السياسة، ومن وسائل النهوض بأمة في وقت من الاوقات. ولكن الواجب يقضي علينا بأن نفرق صريحا بين صيحات السياسة ونظريات العلم.
هنالك نظرية أو رأي اثنولوجي خاطئ شاع في الزمن الحديث، ولا يستند على أساس على ولا تاريخي، بل يحلو لأصحابه أن يتجاهلوا التاريخ تماما. وهذا الرأي هو القائل بأن الجنس الشمالي أو التيوتوني - الذي يمتاز بالشقرة والقامة الطويلة والعيون الزرقاء، وغير هذا من الصفات الجسدية - هو أرقى السلالات البشرية. وأنه لولاه لما كانت حضارة ولا رقى في أي عصر من العصور.
هذا الرأي الجرئ لا يجوز ان ينسب الى الالمان ولا الى الهتلريين، بل ان المؤمنين به في أمريكا مثلا أكثر من القائلين به في المانيا. ومن الغريب أن أول من قال بهذا الرأي الكونت جوبنو الفرنسي في كتابه:
'
وفي هذا الكتاب يزعم المؤلف ان التيوتونيين هم أرقى الاجناس البيضاء جميعا، وأفضل السلالات البشرية على الاطلاق من حيث قدرتهم على خلق الحضارة بجميع عناصرها المادية والأدبية.
وقد شاع كتاب جوبنو هذا في وقت كانت فيه المنافسة بين فرنسا وألمانيا بالغة منتهى الشدة (بين عام 1860 وعام 1870) ولما كان أكثر الشعب الفرنسي من غير التيوتونيين، وأكثر الالمان منهم فقد كان كتاب جوبنو هذا بمثابة الفضل الذي شهدت به الاعداء.
وقد رد على جوبنو ودحض مزاعمه كثير من الكتاب، ولكنا لا نزال الى وقتنا هذا نرىة كتبا تنشر في انكلتره وفي أمريكا خاصة، ولكها في تمجيد الجنس التيوتوني وتفضيله على سائر الاجناس. ومن شاء الاطلاع على شيء من هذا فليراجع كتاب الاستاذ ماديسون جوانت وعنوانه وكتاب الاستاذ ماكدوجال وهو من كبار علماء النفس في الولايات المتحدة وعنوانه
وكلاهما ينادي في مؤلفه بضرورة الحرص على الجنس الشمالي والاكنار منه لانه العماد الاكبر لحضارة أمريكا؟
ومن الغريب أن الولايات المتحدة حين سنت قانون المهاجرة منذ نحو عشر سنين سمحت بالمهاجرة الى بلادها لعدد عظيم من سكان البلاد التي يسود فيها الجنس التيوتوني. مثل اسكندناوه والمانيا وانكلترة وهولندة. ولم تسمح الا بعدد قليل من المهاجرين من الأقطار الأخرى.
وهذا مثال خطير لتطبيق نظرية لا تقوم على أساس في مسألة دولية خطيرة. وبرغم الاحتراس الشديد الذي يبديه علماء الأجناس أنفسهم، لا نزال نرى الكثيرين يتحدثون في موضوع الأجناس من غير تدبر ولا حذر.
محمد عوض محمد