مجلة الرسالة/العدد 329/وزارة الشؤون الاجتماعية
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 329 وزارة الشؤون الاجتماعية [[مؤلف:|]] |
كيف يعظون ← |
بتاريخ: 23 - 10 - 1939 |
ما أظن أحداً من آحاد المصلحين ثَلِجت نفسه لإنشاء هذه الوزارة مثلما ثلجت له نفس الرسالة. ذلك لأن سبيلها هي التي تجاهد فيها الرسالة، وخطتها هي التي تسير عليها الرسالة، وغايتها هي التي تقصد إليها الرسالة؛ فكأنها قامت لتحقيق آمالها بالتنفيذ، وتطبيق مبادئها بالعمل. ومن ذا الذي لا يبلج صدره إذا رأى قوله قد صار فعلاً، وخياله قد أصبح حقيقة؟
لقد عالجت الرسالة مشكلة الفقر على وجوهها الشتى في بضع عشرة
مقالة خرجت منها على أن الحرمان كان في الأكثر الأغلب علة ما
يكابد المجتمع من جرائم القتل والسرقة، ورذائل البغاء والتشرد؛ فلو
أن أولي الأمر عالجوه بما عالجه به الله من تنظيم الإحسان وجباية
الزكاة لما وجدوا في البيوت عائلاً ولا في الطرقات سائلاً ولا في
السجون قاتلاً ولا في المواخير ساقطة. ولكننا تركنا الموضوع قانطين
من رحمة القلوب، لأننا وجدنا غاية الأمر فيه لا تعدو البكاء
والاستبكاء ما دام الحكم في يد الأقوياء، والتشريع لألسنة الأغنياء،
والغلب والسبق للناب العضوض والجناح المحلق. فلما وفق الله
الحكومة القائمة لأن تجعل لآثام الجهل وآلام الفقر وأرزاء المرض
وزارة تعالج كل عرض لها، وتساعف كل منكوب بها، وتقطع كل علة
فيها، قربت منازع الإصلاح وسفرت وجوه المنى. ثم كان من مصاديق
الأمل ودواعي الثقة أن تولي الوزارة رجل من رجال الجد والعزيمة لم
يصبه الله بداء الكلام، ولم يشغله بحرفة السياسة، فاختار لمشورته
ومعونته وأمره طائفة من قادة الرأي ودعاة الإصلاح أمثال الأساتذة
عبد المنعم رياض وتوفيق الحكيم وابنة الشاطئ؛ ثم مضى بهم ف طريقته المرسومة إلى غايته المعلومة يقظ القلب نافذ الهمة لا يعمي
وجهه ضلال، ولا يقطع سبيله عقبة
أجل، إن اختيار الشاذلي باشا لوزارة الشئون الاجتماعية سبب من أسباب النجاح لها والثقة بها ما في ذلك شك، فإن عهد الناس بهذا الرجل قوي الارتجال عسكري الإرادة. وهم لا يفتئون يذكرون أنه أشعر المصريين عزة الوطن، وعود الأجانب احترام الدولة، بأمر يسير واحد حرص عليه وألح فيه، هو أن يعزف أصحاب المسارح والسينما السلام الملكي في ختام كل حفلة. ولكننا لاحظنا أن وزارة هذا الرجل السكوت الفعول قد أخذت في هذه الأيام تسرف في نسج الكلام وقطع الوعود ووضع المشروعات وتقديم المقترحات وتأليف اللجان، فذكرنا ذلك وزارة المعارف في عهد من العهود إذ كانت تؤلف كل ساعة لجنة، وتضع كل يوم مشروعاً، وتسن كل أسبوع نظاماً؛ ثم ينتهي الأمر بأكثر أولئك إلى ما تنتهي إليه الفقاقيع الغازية على وجه الماء الآسن!
لقد أكرهتنا حكوماتنا المتعاقبة على أن نفهم أن تأجيل الموضوع للبحث معناه إهماله، وتحويل المشروع إلى لجنة معناه إغفاله. فهل يجوز أن نخشى مثل ذلك من هذه الوزارة الوليدة وهي لم تبتل بعد بجمود الموظفين الآخرين وروتين الوزارات الأخريات؟
إن الدم الجديد في هذه الوزارة، والروح المتوثب في هذا الوزير، يذهبان الخيفة من جهة التفريط والنكول، ولكنهما يوجبان الحيطة من جهة الإفراط والتهور. وكفى بهذه الظنة باعثاً على كتابة هذه الكلمة
إن وزارة الشؤون الاجتماعية تجديد رسمي لدعوة النبوة؛ وهي بحكم وجودها وطبيعة عملها وزارة الجمهور؛ فلا مندوحة لها إذن عن نهج سبيل الدين في محاربة الفساد بالأناة والحكمة. فإن مصادمة الموجود بالطبيعة مدعاة إلى الفشل، ومقاومة المألوف بالعادة مجلبة للنفور، ووسيلة النجاح في هداية العامة الحيلة والتدرج. والله عزت حكمته لم يشأ أن يقيد الزواج ويحرم الخمر ويحظر الرق دفعة واحدة؛ وإنما استدرج الغرائز والأهواء إلى حدود المعروف شيئاً فشيئاً حتى اطمأنت إليه ورغبت فيه
ما للوزارة على حداثتها تبدأ منهاج الإصلاح من آخره، فتريد أن تعرض لما يتصل بالحرية أو بالعقيدة كأن تقيد الزواج وتحدد السهر وتحرم على بعض الناس اللهو؟ إن ذلك وإن كان له أثره في صلاح المجتمع لا يحسن أن يكون أول ما تعمل. وربما كانت هذه الأمور التي تنكرها ظواهر لبعض الأدواء الاجتماعية تزول بزوالها. أما الرأي الذي تأمن عليه من المعارضة والفوضى والتشعث فهو أن تحرر دستورها الإصلاحي تحت ثلاثة عناوين هي الفقر والجهل والمرض، فإنها جماع العلل التي يصدر عنها كل فساد وينجم منها كل شر؟ ثم تحاول بجهادها المتصل في شتى الميادين أن تمحو الأمية وتقتل الجوع وتجتث أصول العلة، حتى إذا وجدت أمامها بعد ذلك شعباً صحيح الجسم نير الفهم مكفي الحاجة استطاعت أن تأخذه بوسائل الكمال كتوحيد الأزياء وترقية الغناء وتهذيب التقاليد وتنظيم الأسرة وتمدين الجماعة. على أن ذلك كله يكتسبه الشعب من ذات نفسه متى أدرك قسطه الضروري من ثقافة العقل والروح والبدن. وعسى ألا يقع في ظنك من هذا الإجمال أني أخلط بين اختصاص هذه الوزارة واختصاص وزارات المعارف والأوقاف والصحة؛ فإن وزارة الشؤون الاجتماعية بحكم اختصاصها الشامل لحياة الجماعة في المدينة والقرية لا بد أن تتصل بالثقافة والسلامة والإحسان من جهاتها العامة؛ ولكنها لا تعلم كالأستاذ، ولا تعالج كالطبيب، ولا تحسن كالواقف. وسترى في فصولنا التالية كيف يتميز عملها من عمل غيرها، حين نفصل الكلام في هذه العناوين الثلاثة: الجهل والفقر والمرض
أحمد حسن الزيات