مجلة الرسالة/العدد 329/رسالة الفن
→ إليها يوم تنساني. . .! | مجلة الرسالة - العدد 329 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
رسالة العلم ← |
بتاريخ: 23 - 10 - 1939 |
دراسات في الفن
عن فن الصوم
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
ليس الصوم تجويع البطن وحرمانه من حشوها، وإنما الصوم زهد في حاجات البدن يقصد لذاته، ويقصد لأثره. فهو نفسه انتصار لذيذ على قانون الحاجة والضعف، وهو بعد ذلك يبعث في الصائم إيماناً بإمكان التدرج بالطبع في مدارج الرقي، وإغراء بالوثوب إلى حياة الإرادة والعقل. وفي ذلك ارتفاع بإنسانية الصائم إلى درجة من النقاء الروحي لا تتاح لغير البشر من المخلوقات التي تنساق لقوانين المادة وتخضع لمطالب الأجسام فلا تملك لها رداً إلا إذا أجبرت في ذلك إجباراً وقهرت عليه قهراً. فهي في كل من الحالين مسوقة مسيرة مشدودة، بأسباب الاتصال ودواعيه، إلى أحوال وأوضاع لا دخل لإرادتها في إعدادها ولا ترتيبها، ولا توجيهها. هذا إلى ما في الصوم من تيسير التفرد، وتقريب الوحدانية، واستشعار الغنى. فكلما لوَّن الصائم الزهدَ وقَلل من حاجاته البدنية أحس حدود كيانه تتميز وتفصله عما عداه، وأدرك أنه واحد، وإن كان صغيراً فإنه نزاع إلى أن يقوم بذاته، وأن تفيض نفسه بالحياة على نفسه فهو لا يطلبها - إلا قليلاً - في لقمة من الخبز أو جرعة من الماء
ومع الإحساس بهذا الاستقلال عن مادة الحياة فإن الصوم يبعث في نفس الصائم إحساساً آخر من الشيوع يشبه ذلك الإحساس الذي يشعر به النهم الأكول الجشع المستغرق في طلب الماديات، ولكن شعور الصائم لا يتجه به إلى الماديات، فهو منقطع عنها جهده، وإنما هو يتجه به إلى ما يتعاطاه ويلج فيه مما هو فوق المادة، فهذا هو ما يفطر عليه ما يغذي نفسه به، وكما أن النهم الأكول الجشع المستغرق في طلب الماديات يشعر بأنه مرتبط بالعجل لأن لحم العجل لذيذ، ولأن جلده مفيد، ولأن قرنيه نافعان، ولأن حوافره تصلح في شأن ما أو في عدة شئون، فإن الآخر الصائم يرى في العجل غير ما يراه ذلك الذي يفكر ببطنه وجلده وسائر جوارح بدنه، ويرتبط إليه برباط آخر معنوي، فهو عنده رمز لقو البدن مع طيبة القلب، واستسلام النفس مع تناوم العقل، فإذا آلفه فإنما يؤالفه ليتعلم منه هذه الطباع وليستخرج من تركيب بعضها إلى بعض عبرة تدله على عجز القوة ما لم يسندها الفكر، ومهانة الاستسلام ما لم تدركه اليقظة. وهكذا يصبح العجل الحيوان الواحد ذا طائفتين اثنتين مختلفتين من الدلائل والمعاني يدرك طائفة منها إنسان زهد في المادة وصام عنها، ويدرك الطائفة الأخرى إنسان زهد فيما فوق المادة وصام عنه
وليس العجل وحده هو ما يراه الإنسان ويتصل به في هذه الحياة، وإنما هو يرى كائنات كثيرة ومخلوقات عدة ويتصل بها جميعاً وفق نزعته، وإنما سقت العجل مثلاً لأن له قصة طويلة قديمة مع البشر، فكما أذله ناس وقره آخرون، وكما استضعفه ناس عبده آخرون
ولست أريد أن أنحاز إلى هؤلاء أو إلى هؤلاء، فقد كان لكل رأي وكان لكل رأي برهان، وإنما أريد أن يلتفت القارئ معي إلى صلاح العجل عند البشر للإهانة والعبادة معاً، لا لشيء إلا لأن فريقاً من الناس رأوه رأياً، وفريقاً آخر رأوه رأياً، وهؤلاء مضوا في رأيهم حتى نهايته، وهؤلاء أيضاً مضوا في رأيهم حتى نهايته، فكانت نهاية أصحاب الرأي الأول أن أكلوه، وكانت نهاية أصحاب الرأي الثاني أن قالوا إنه الله. . . وهكذا كل ما في الحياة يستطيع الإنسان أن يأكله، ويستطيع أن يرى فيه الله. . . أو أن يصل من سبيله إلى الله. . . لو هداه
ولندع العجل إلى غيره من الخلائق وآيات الله لنرى أن الناس دائماً ينقسمون أمام مظاهر الحياة إلى قسمين واضحين: قسم يزهد في كل شيء ماعدا الملموس المحسوس الذي له أثر ملموس محسوس، وقسم آخر يزهد في هذا الملموس المحسوس نفسه فلا يصيب منه إلا بمقدار ما يمسك عليه الرمق وما يحفظ عليه الحياة. وهناك - إلى جانب هذين الفريقين من الناس - قسم ثالث يتراوح بينهما فيجول مع كل فريق جولة، له فيما فوق المادة ساعات يقضيها مع نفسه ثم يعود إلى الناس فينقل إليهم ما رأى وما سمع وما أحس وما علم. وهؤلاء هم أهل الفن الذين نعرفهم من فنونهم، والذين يقول عنهم أهل الأرض إنهم أصحاب خيال وإنهم في خيالهم يعمهون بعيدين عن حقيقة الحياة، لا لشيء إلا أن أهل الأرض يعتبرون الحياة هي هذه الماديات وحدها، فما لم ينطبق عليها تمام الانطباق فهو خيال ووهم ولست أريد أن أظل مع هؤلاء المتراوحين طويلاً الآن، وإنما أتركهم إلى أولئك الذين أعطوا الأغلب من أرواحهم لما حجبته المادة الكثيفة عن أغلب الأبصار والأسماع. . . أولئك يحيون، وإن لهم دنيا طويلة عريضة كهذه السموات والأرض، بل إنها أوسع من السموات والأرض، وهم يكشفون مجاهلها يوماً بعد يوم، ويغزون أطرافها ما صفت أرواحهم، وما اتجهت عقولهم بالتفكير في أسرار الوجود، فإذا هم في حياة أساسها في هذه الدنيا ولكن مهادها ووديانها عليون، وإذا هم يشعرون بعلاقات وثيقة تربطهم بكل ما في الكون من حقائق وموجودات، بل إنهم يحسون أن لهم منافع روحية وفوائد معنوية يصيبونها في الحقائق والمخلوقات كتلك المنافع التي يرجونها النهم الأكول في لحم العجل وجلده وقرنيه وحوافره، وهم ملحون وراء هذا الذي يستطيبون من الكسب كلما حصلوا منه ربحاً استزادوا الربح بالجهد والمران، فإذا هي أرباح فوق أرباح، وإذا بالفقير المعدم منهم له ثروة عجب من المعلومات والمدركات، فإذا أراد أن يستغل علمه وإدراكه وأن يخرج بهما من دائرة التحصيل والإفادة، إلى دائرة العمل والإنتاج كان الشيء الذي يصنعه خارقاً لا يستقيم مع طبائع الحياة التي تعارفها أهل المادة من الناس، وإن استقام مع طبيعة الوجود العامة التي لا يحلق إليها إلا أندر الناس الذين يشرأبون دون عشرائهم إلى ما أباحه الله للمقبلين عليه من خلقه السباقين في التقدم إليه والارتقاء إلى رضاه بإرضائه. وتقول الجماهير عندما ترى أعمال هؤلاء إنهم سحرة. . . أو أنهم أصحاب معجزات.
وهذه الأعمال الإيجابية التي يقوم بها هذا الفريق من الناس تختلف وتتعدد مظاهرها وألوانها باختلاف اتجاهاتهم وما يتخصصون فيه من العلم، وليس تخصصهم في العلم شيئاً غريباً، فعلماء المادة يتخصصون هم أيضاً في دراسة نواحيها. . . لكل منهم ناحية. . فمنهم مهندسون، ومنهم أطباء، ومنهم من ينفقون حياتهم في دراسة القوانين التي كتف الناس بها الحياة، كذلك أولئك منهم من يتجه إلى نفسه فيدخل فيها فيعلم من شؤونها ما يعلّمه الله إياه، ومنهم من يدخل في نفوس الناس، ومنهم من يدخل في نفوس الناس والحيوان. . . بل إن منهم من يتجه إلى المادة نفسها فيغزوها بالروح غزواً فيشق البحر ويقلب العصا إلى حية والحبل إلى ثعبان!. .
ويضطرب الناس ويرتبكون حيال هؤلاء الزهاد الأنبياء. . . فيقولون إن محمداً صلوات الله عليه ورضاه كان شاعراً. . . لأنهم كانوا يسمعونه يقول كلاماً لا يشبه كلام الناس، وفيه ملامح من كلام الشعراء، هي هذا البعد عن مادة الأرض المعتمة العمياء، وهي هذا النور الذي أهداه الله إليه من نور السماء. . . وما كان محمد شاعراً، وما كان الشعر ليتسامى إلى درجة ما أفاض به على الناس، وما كان كلامه فناً من فنون الأرض، وإنما هو أرفع ما أتاحه الله لإنسان من علم حق ومن حكمة خالدة تنسحب إلى أبعد الأزل، وتنطلق إلى أبعد الأبد سبحان من أوحاه! وسبحان من جاد على البشر بفنه. . . هو الله!. . .
لم يكن محمد شاعراً، فالشاعر كما رأيناه يتراوح بين حياة الأرض وحياة السماء، ويتذبذب بين طبيعة المادة وطبيعة الروح، ولا يقر له قرار إلا بين الناس، ولا يغيب عنهم إلا لمحات قصيرة عابرة لا يطيق استدامتها، لضعفه ولشعوره بالحاجة البدنية إلى ما في الأرض من راحة. . . أما محمد، وأمثال محمد من الأنبياء فإنهم قد اشتروا الآخرة بالدنيا، وليس لهم في الدنيا مطمع، فقد أحاطوا بما فيها علماً، وهم يتجهون بعد ذلك بأطماعهم إلى ما وراء هذه الحياة. . . وهم مؤمنون بأن هناك شيئاً بعد هذه الحياة، لأنه قد كان هناك شيء قبل هذه الحياة، وليس في هذا الطور ما يدل على أنه الحلقة الأخيرة من حلقات التطور والارتقاء. . .
وهنا قد يسائلنا سائل: كيف قال محمد إنه خاتم الأنبياء والمرسلين، ومادامت طبيعة الحياة قد استدعت بعث الرسل والأنبياء فيما مضى، ومادامت بريئة مما يدل على أنها قد كفَّت عن نهجها والتوت إلى نهج جديد؟
وجوابنا على هذا أن محمداً ﷺ وضع أمام عيون الناس القواعد الخالدة لهذه الحياة. . . القواعد التي تتغير الدنيا ولا تتغير هي، والتي تتطور الحياة وترتقي وتمتنع هي على التطور والارتقاء لأنها نهاية النهايات، ولأنها الحقائق الثابتة التي يقوم عليها التغيير والتبديل، ولأنها المحاور التي يدور حولها التطور والارتقاء.
فلقد جاء في دين محمد أن الإسلام هو دين الفطرة، فإذا عرفنا علام نحن مفطورون فسايرنا فطرتنا فإننا مسلمون. وهذا مبدأ لا يمكن أن يزول وإنما يتحطم كل من يناوئه ويعصيه. . . وإن من فطرتنا أن نتطور وأن نرقى. وقد جاء في دين محمد بين آيات القرآن (أحلت لكم الطيبات وحرمت عليكم الخبائث) فإذا عرفنا ما هي الطيبات التي تنفعنا، وما هي الخبائث التي تضرنا، وأخذنا ما ينفع وتركنا ما يضر فإننا مسلمون سالمون. وهذا مبدأ تتبعه الكائنات بطبيعتها فتسلم، وعلينا نحن ألا نقاومه بعقولنا وإرادتنا كي ننجو، وإلا فالهلاك لمن أحل لنفسه الخبائث، وحرم عليها الطيبات. . . وقد جاء أيضاً في دين محمد بين آيات القرآن كذلك: (وما أصابكم من خير فمن الله وما أصابكم من شر فمن أنفسكم) ومعنى هذا أننا إذا ألقينا أنفسنا بين يدي الله وأطعنا أمره، وهو يأمرنا بالتزام فطرتنا والخضوع للقوانين الطبيعية التي انتهت بنا اليوم إلى هذا الطور من أطوار الحياة والتي تسير بنا منذ اليوم إلى أطوار وأطوار فإننا إذن مسلمون سالمون، فإذا حدثتنا أنفسنا بغير ذلك فانتكسنا وخيلت لنا الأهواء أن في الرضا شراً أو ضعفاً أو عجزاً وحاولنا أن نكسب لأنفسنا ما يثقل علينا وما لا حق لنا فيه وما ننوء بحمله وما يربكنا تصريفه؛ فإننا عندئذ مضطربون قد وضعنا أنفسنا حيث لا يمكننا أن نظل طويلاً. . . فلا عجب إذا انهزمنا سريعاً
علينا أن نعرف ماذا كنا. . . وماذا نحن. . . وماذا سنكون. . . حتى لا نخطئ الطريق إلى ما نحن صائرون إليه. . . ولنعلم أن فينا اليوم من طبائع الماضي ما لا يصلح للمستقبل. . . وهذا ما علينا أن نقاومه وأن نتخلص منه. . . وقد قيل إننا كنا في الماضي قردة. . فعلينا أن نخلص إذن من أوجه الشبه بيننا وبين القرود. . . وإلا فنحن نعرقل فطرتنا. . .
هذه هي بعض مظاهر الخلود والصلاح الدائم في الإسلام، وهذه هي نهاية النهايات التي وصل إليها محمد تبارك من هداه، فله الحق - على هذا - أن يقول إنه خاتم الأنبياء والمرسلين، لأن أحداً لن يجيء بعده بتلخيص لسر الوجود أعمق من هذا التلخيص ولا أمكن إصابة منه. . وما أدناها حقيقة، وما أبعدها منالاً!. .
فهل يعرف أحد إلام نحن صائرون؟ إننا صائرون إلى حياة خالصة من هذه الأبدان التي يصيبها العطب. . . إننا صائرون إلى لقاء الله، وإن في نفوسنا ما يسير بنا إلى هذا، فعلينا أن نتعرفه وأن ننميه. . .
نفوسنا حشد من الغرائز، فما تشبث منها بالحال الراهنة وأعرض عما هو مقبل من حياة الخلوص كان كما يريد أن يعود بنا إلى حياة القرود. وكان تعطيلاً لإرادة الإنسان القادر - بقوة الله - على تنقية نفسه وترقيتها. وما تحرر منها وانطلق إلى الله فهو عون الإنسان على توحده، وعلى شيوع نفسه في نفوس الخلائق، والاتجاه مع الكائنات في صلاة الجماعة لفاطر السموات والأرض المهيمن العلام الأول والآخر.
عزيز أحمد فهمي