مجلة الرسالة/العدد 328/من مشكلات الأسرة الحديثة
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 328 من مشكلات الأسرة الحديثة [[مؤلف:|]] |
بين الوحدة الإسلامية والوحدة العربية ← |
بتاريخ: 16 - 10 - 1939 |
بين الدين والحب
لقيته بعد تسع سنين على (تريانون) رائق الشباب رائع الصورة لطيف
الشارة كما عهدته. وكان هذا اللقاء الجميل مفاجأة سارة من مفاجآت
الغيب بان أثرها عليّ وعليه فلم ندرك كيف نسلم ولا ماذا نقول
هذا الشاب الطرير من أسرة لبنانية مسلمة، تلمذ لي حيناً من الدهر في أحد المعاهد الكبرى بالقاهرة، واتصل بيني وبينه الود بعد أن تخرج فيه، ثم رحل إلى العراق يزاول التعليم به، وانحصر وجوده بين بغداد وبيروت فلم أعد أراه. فلما رأيته بالإسكندرية في هذه الساعة على هذه الحالة مثل أمام عيني جزء مشرق من الماضي القريب كاد يغرقه في لجة النسيان حدثان الزمن
- متى قدمت مصر يا عبد الحميد وكيف أخفيت عني هذا القدوم؟
- قدمتها منذ ثلاثة أسابيع. وقد علمت أنك هنا فبحثت عنك في كل مقهى وفي كل شاطئ فلم أجدك. ومنذ يومين لم يعد لي في الإسكندرية عمل ولا أمل إلا أن ألقاك؛ فإني فوق أن أراك أريد أن أسألك أن عن أمر شغل بالي وشق علي
- خير أن شاء الله؟
فقال الصديق الشاب وهو يحاول أن يكظم شيئاً في نفسه بدت إماراته في نظرته القلقة وصوته المأخوذ ولهجته المترددة:
- أريد أن تدلني على كتاب في الإنجليزية يبين رزح الإسلام وحقيقة مبادئه وأصول أحكامه بطريقة يقبلها الرجل العصري المثقف
- هل وقعت - معاذ الله - في أزمة من أزمات الشك؟
- كلا وأحمد الله على قوة الإيمان وثبات العقيدة. إنما يتعلق الأمر بإنسان أحب إلى من نفسي، فتنته عن دينه فتون التعليم الأجنبي وفسوق البيئة. ولقد وقع في يدي اليوم كتاب في العربية عنوانه: (لماذا أنا مسلم) فراقني أسلوبه وأرضاني منهجه، ولكن صاحبي على مصريته لا يعرف العربية ولا يثق بما كتب فيه - ألا تستطيع أن تقدمه إلي فأعينك على إقناعه وإرجاعه؟ فارتبك الفتى وكسر من طرفه. ثم ما لبث أن خفض جأشه وأرسل نفسه وترك تحفظه وقال:
- ما لي أخفي الأمر عنك وقد كنت لي في مشكلات الشباب والعيش المشير الصادق والناصح المخلص؟ إن الأمر يتصل بفتاة مصرية هويتها منذ سبع سنين، أبوها طبيب من الأطباء الموظفين النابهين تعرفه كما أعرفه، وأمها إنجليزية دخلت في الإسلام لئلا تحرم الإرث كما يقال، والفتاة بارعة الجمال رضية الأخلاق رقيقة القلب عفيفة الدخلة، تلقت دروسها الابتدائية في مدرسة أمريكية بالقاهرة، والثانوية في مدرسة إنجليزية بلندن، فهي في ثقافة الجسم والعقل والروح مثال المرأة الحديثة الصالحة. لقيت أسرتها أول مرة في إحدى مدن لبنان فألف بيننا تجاوب الشعور وتقارب للثقافة، وتمكنت الألفة بيني وبين الفتاة بحكم الطبيعة والسن، وتأثير اللهو والرياضة، فما كنا نفترق في اليوم والليل إلا ساعات النوم القليلة. وكان أبواها يساعدان هذا الهوى الوليد بإطلاق الحرية وإرصاد الفرص واعتقاد الثقة، فلم نعد إلى القاهرة معاً حتى كان هذا الحب عاتيا جباراً يذهب بقلبي وقلبها كل مذهب.
ثم دأبت على زيارتها في بيتها كل يوم في النهار أو في الليل فنقضي أوقات الفراغ في القراءة أو في النزهة أو في التنس أو في السينما! وفي كل لحظة تمر أو لفظة تقال يكشف كلانا في الآخر دليلاً جديداً على أنه عروس أحلامه وموعود غده
كانت تسافر أوائل الخريف إلى لندن فيكون بيننا بريد دائم بالفكر المستمر والطيف المثابر والكتابة المتصلة. فلا ندع فكرة يبعثها الخيال أو الشوق، ولا كلمة يوحيها العقل أو القلب، إلا تبادلناها بالتفكر أو التذكر أو الحنين أو الكتابة في النوم أو في اليقظة. ثم تعود أواخر الربيع إلى القاهرة فيعود أنسنا باللقاء، وسرورنا بالحديث، ومرحنا بالرياضة، فلا نترك متنزهاً ولا ملهى في العاصمة والضاحية إلا أشهدناه على آية من آيات الحب، أو ساعة من ساعات السعادة
ثم رحلت إلى بغداد فنشأت في نفسي رغبة شديدة في بناء بيت وتكوين أسرة، فخطبتها إلى أبويها في شتاء هذا العام واستقر رأينا على إعلان الخطبة في الصيف متى عدت من بغداد وعادت هي من لندن جاء الصيف يا سيدي فعدت وعادت، ونزلت على عطف أبويها في مصيفهما بالرمل نزول الابن الموموق على حنان أبويه بعد غيبة طويلة. ولكني رأيت الوجوه غير الوجوه! فلا البشر باد في عين الأم كما شهدت، ولا السرور جار على ثغر الفتاة كما عهدت. فلما سألت السيدة عن سر هذا السهوم قالت لي أدخل على ميمي الغرفة فلعلك تجد عندها الجواب
دخلت على ميمي فوجدتها جاثية بجانب السرير تضرع وتبكي. فلم أتمالك أن جثوت بجانبها مغرورق العين مستطار الفؤاد، وأخذت أنفس من كربها وأسالها عما بها، فقالت وهي تنشج بالبكاء:
- مستحيل! مستحيل! لقد أحببتك حتى لم يعد لي هوى إلا إليك ولا فكر إلا فيك؛ ولكنني لا أستطيع الزواج منك لأني مسيحية متعصبة وأنت مسلم محافظ. ولا سبيل إلى أن نتزوج كما تزوج أبي وأمي، فإني وأنت صريحان، وأنا أحتقر دينك بقدر ما أحترمك، وأبغض نبيك بقدر ما أحبك
- ومتى دنت بالنصرانية يا ميمي وأنا وأبواك لا نعرفك إلا مسلمة؟
- دنت بها منذ رحلت إلى لندن، وجعلت الأمر بيني وبين الله حتى أخبرتني أمي بخطبتك فلم أجد بداً من إعلانه
- وهل درست الإسلام يا ميمي قبل أن ترتدي عنه؟
- درسته على الراهبات في مصر وفي إنجلترا وعلمت عنه ما أشفق على وجدانك من سماعه
- لقد درسته على خصومه ومنكريه، فكيف يسوغ في عقلك أن يكون كلام الخصم على الخصم حجة؟
- وعلى من كنت تريد أن أدرسه؟ أعلى أبي وما سمعته مرة يذكر الله، ولا رأيته يوماً يدخل المسجد؟ أم على أمي وقد كانت مسيحية لا تؤمن فأصبحت مسلمة لا تعتقد؟ وهل كان في مقدوري أن أغالب الفطرة وفي نفسي إلى الله شوق نازع لا أملك الصبر عليه متى رأيت السبيل إليه؟
- أنا كفيل بأن أعلمك ما تجهلين من حقيقة الإسلام، فإن أقنعتك تزوجتك، وإلا رجع الأمر بيني وبينك إلى الصداقة، فإنك لا تتزوجينني مسلماً ولا أتزوجك مسيحية وأخذت منذ ذلك اليوم أشرح لها مبادئ الإسلام على قدر ما يستطيع مسلم تخرج في الجامعة الأمريكية؛ فكانت تصغي لما أقول وتعجب به. ولكنها كانت تتهمني بتلفيق ذلك مما أعلم من فضائل الأديان وأصول الأخلاق ثم أنسبه زوراً إلى الإسلام. فاتفقنا على أن أقدم إليها كتاباً عن الدين الإسلامي في الإنجليزية، وأن نؤجل البت في أمر الخطبة إلى مثل هذا الشهر من قابل. فهل تستطيع يا أستاذي أن تدلني على كتاب في هذا الموضوع يجعل زواجي منها حقاً لا ريب فيه؟ فقلت له والأسى يكاد يعقل لساني: إن كتاب روح الإسلام للأستاذ الهندي مير علي هو طلبتك. فلعلك تصيبه في مكاتب الإسكندرية. وعسى أن نعيش يا قارئي العزيز حتى أكتب لك الفصل الأخير من هذه الرواية!
أحمد حسن الزيات