الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 328/في الأدب الإنجليزي الحديث

مجلة الرسالة/العدد 328/في الأدب الإنجليزي الحديث

مجلة الرسالة - العدد 328
في الأدب الإنجليزي الحديث
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 16 - 10 - 1939


د. هـ. لورنس

للأستاذ عبد الحميد حمدي

4 - الإباحية في الأدب

ينتمي الإنسان الحديث إلى إحدى طوائف ثلاث: فهو إما رجعي يخشى جسمه ولا يعرف بوجوده بحجة أن تفكيره كله مركز في الحياة الروحية دون غيرها، وهو لذلك يحارب كل ما يمت إلى الجنس بصلة وينكر على نفسه كل رغبة جنسية مهما كان مصدرها أو موضوعها. وقلما ينجو أمثال هذا الشخص من غضب جسمه عليه في آخر الأمر ومن ضربته القاضية التي يكيلها له دون ما هوادة أو رحمة. وليس أدل على هذا من الأخبار التي كثيراً ما نسمعها عن أساتذة كبار أو قساوسة نيَّفوا على الستين مع فتيات قاصرات ممن يتعلمن في مدارسهم أو يقصدن كنائسهم. وليس أمر هؤلاء بالمحير ولا تعليل ما فعلوا بالمعجز، فهم تنكروا لأجسامهم وكبتوا رغباتها، فكانت نتيجة ذلك أن اعتل تفكيرهم واختل ميزان عقلهم، فأتوا من الأعمال مالا ينطق على العقل في شيء

وهناك رجل آخر هو على النقيض من الرجل الأول، أرخى لجسمه العنان وعاش من أجل متعة جسده لا غير. فهو يرى في جسمه وسيلة إلى اللذة فأسرف في الانغماس فيها، لا فرق عنده بينها وبين أن يتناول كأساً من الكوكتيل أو غيره مما يشتهيه الجسد ويتلذذ به

وأخيراً يأتي النوع الثالث من الرجال وهم للأسف كثيرو العدد. ويمتاز هذا الرجل بعقل قذر لا يغذيه إلا كل قذر. فهو رجل يغرم بقراءة الكتب التي تبحث في العلاقة الجنسية، ولكن رائده في ذلك ليس تفهم فلسفتها أو الإفادة مما جاء بها، وإنما رائده التفتيش عن كل بذئ خارج، لأنه يجد في قراءته لذة لا تعدلها لذة أخرى. ونجد هذا الشخص ميالاً إلى الاستماع إلى القصص التي تعالج هذا الموضوع وكذا النكات والفكاهات فكأنهم يجعلون من أساس حياتهم وعمادها موضوعاً للهزل واللعب. وهؤلاء وأمثالهم يربأ لورنس أن يكونوا من قراء كتبه

ومن غريب الأمر أن يتكلم هؤلاء الطوائف عن لورنس ككاتب إباحي مفحش في القول، فرق عندهم بين من قرأ منهم كتبه ومن لم يقرأ. ولا يضع لورنس كل اللوم على هؤلاء الناس، بل هو يوجه بعض لومه على القرن السابق الذي لا زالت تعاليمه مسيطرة على عقول الناس في العصر الحالي، تلك التعاليم التي أكل عليها الدهر وشرب، والتي ظهر خطأها وكان يجب أن يبطل العمل بها. وليس أدل على تأخر جيل من خضوعه لقيود الجيل السالف واستسلامه لتعاليمه، وإن ينطبق هذا على شيء فهو ينطبق على القرن العشرين الذي ما زال يرسف في أغلال القرن التاسع عشر على الأقل من الوجهة الاجتماعية. ففي مجتمعاتنا لا زلنا نحرص على التمسك بقيود أسلافنا، وحتى في الأفلام التي نشاهدها، وفي الكتب التي نقرأها، وفي الأحاديث التي نستمع إليها، مازال لهذه التقاليد أكبر سلطان علينا! فمثلاً لا زلنا نعتقد أن الجنس والعلاقة الجنسية هي من الموضوعات المحرمة التي لا يجب الخوض في بحثها، أو الإشارة إليها إلا متسترين، أو من طرف خفي. فالوالدان إذ يتحدثان إلى فتاتهما لا يزالان يقنعانها أنها يجب أن تكون في نقاوة الزهرة وطهر الملائكة، وهم إذ يشبهونها بالزهرة فإنما يقصدون أنها يجب أن تتخذ الزهرة مثلها الأعلى! ووجه الشبه الذي بينهما هو - في اعتقادهم - خلو كل منهما من الرغبة الجنسية. وأمثال هؤلاء القوم مخطئون في تشبيههم، فلا الزهرة خالية من الرغبة الجنسية، ولا الفتاة بمستطيعة أن تكون في غنى عن هذه الرغبة! والحقيقة أن للزهرة جنساً، وأن لها رغبة جنسية، وليس من العدل في شيء أن نحرم الفتاة مما لم تحرم منه الزهرة، بعد أن شبهنا الواحدة بالأخرى. ومع ذلك لا يفتأ الوالدان يكرران على مسمع الفتاة أمثال هذه الترهات حتى يأتي الوقت الذي تبغض فيه الجنس الآخر، وتنظر إليه نظرتها إلى عدو لدود، ولكنها بعد أن تنمو وتكبر وتصل إلى الدور الذي تبحث فيه عمن سيكون شريك حياتها، تصطدم بالفكرة الخاطئة التي غرسها في نفسها والداها، فيحدث عندها انقسام وصراع ينغص عليها عيشها ويفسد حياتها!

وليس في استطاعة أحد تعريف الإباحية أو تحديدها، بل هي في الحقيقة أمر نسبي كغيره من الأشياء النسبية، فما يعده شخص إباحياً، قد يعده شخص آخر غير ذلك، وما كان إباحياً في عصر من العصور قد لا يكون كذلك في عصر آخر وهكذا. فمثلاً كان الإنجليز في عصر كرمويل يعدون رواية (هاملت) إباحية لا يستسيغها ذوقهم ولا تتفق وتعاليمهم الأخلاقية. . . وهانحن أولاء في العصر الحالي نعدها من بين أهم روايات شكسبير وأقواها، بل ومن أهم روائع الأدب العالمي. وعلى العكس من ذلك، يعد بعض الناس في عصرنا هذا روايات أريستوفانيس إباحية تخدش قوانيننا الخلقية وتنتهكها، ولكن هذا لم يمنع الإغريق من أن ينظروا إلى أريستوفانيس نظرة التجلة والاحترام ويضعونه في مصاف كتاب الدرجة الأولى

وإذا سألنا أنفسنا عن السر في اختلاف حكم شخص عن حكم شخص آخر أو حكم جيل عن حكم جيل آخر لما أعيانا السؤال أو استعصى علينا الجواب. وتفسير ذلك أنه ما من كلمة إلا ولها معنيان: المعنى الإجماعي، أو المعنى الشعبي وهو ما اتفق الناس عليه؛ والمعنى الخاص، أو المعنى الفردي وهو المعنى الذي يفهمه كل قارئ على حدة حسب تفكيره وخياله وتجاريبه. وليس في مقدور كل شخص أن يكوَّن هذا المعنى الفردي لأنه يتطلب من صاحبه أن يكون تفكيره من النوع العميق، وأن يكون خياله خصباً، وأن تكون تجاربه واسعة. وإن كتب لورنس لهي من النوع الذي يجب أن يعتمد القارئ فيها على المعنى الفردي، وإلا فهي أعمق من أن يسبر غورها أو يتفهم فلسفتها أو يحيط علماً بما بها. وإن أمثال هذا القارئ قليلون، ولهذا السبب كان عدد من يفهمون لورنس على حقيقته قليلاً؛ ولكن الغالبية من القراء يستسهلون قراءة لورنس عن طريق المعنى الشعبي الذي هو ابعد ما يكون عما قصده الكاتب. وهم لهذا السبب ينعتونه بأنه كاتب إباحي أو مفحش في القول. ولو أن أحدهم كلف نفسه مشقة سؤال عقله (هل ما أقرأ يصطدم وتعاليم عقلي الخلقية الصحيحة) لكان الجواب بالنفي. ولكن قليل هم من يفعلون ذلك، بينما يلجأ الكثير منهم إلى تلك القواعد والقوانين الخلقية التي ورثها عن أسلافه جيلاً بعد جيل ويطبقها على ما يقرأ وإذ ذاك يرمي صاحب الكتاب بالفحش والخروج على القوانين الأخلاقية. والحقيقة الواقعة هي أن ما يقرأ قد يجرح العينين لأنهما لم تألفا رؤية أمثال هذه الكلمات من قبل، أما العقل فهو يعرفها تماماً وطالما فكر فيها، فهي معروفة لديه مألوفة له، فهي إذن لا تجرحه ولا تتعارض وتعاليمه الأخلاقية

ويعتبر الناس أن كل ما يثير الرغبة الجنسية إباحي، وهم ولا شك مراءون مضللون يقصدون خداع الغير بعد أن نجحوا في خداع أنفسهم. ومن غريب الأمر أنهم مجمعون على أن الكون لا تقوم له قائمة من غير الجنس والعلاقة الجنسية، وهم يعرفون تماماً أن هذه العلاقة كانت وما زالت وسوف تكون أساس الحياة في هذا العالم، وأننا لا نستغني قط عما يثير فينا الرغبة الجنسية، وإلا أنهار الكون وتقوض بناؤه. وفوق ذلك فهم يعتبرون بعض القصائد الشعرية واللوحات الفنية والقطع الموسيقية والروايات والقصص من روائع الفن أو الأدب، وهي كلها تعتمد على الجنس وقوامها إثارة الرغبة الجنسية. ومع كل هذا فما زال الاعتقاد سائداً بينهم أن الكلام في هذا الموضوع هو من المحرمات التي لا يجوز الخوض فيها. وهم يقصدون بالكلام في هذا الموضوع الكلام الجهري فقط، إذ أنهم لا يأنفون من خوض غمار هذا الموضوع ما دام التستر رائدهم وما داموا بعيدين عن أعين النقاد

والحقيقة التي لا شك فيها أنه ليس هناك أي ضرر من معالجة الكتب لموضوع العلاقة الجنسية، ما دامت لا تقصد من ذلك سوى منفعة الفرد وخدمته، عن طريق تنوير ذهنه وإرشاده إلى طريق الحياة السوي الصحيح. وأما ما يجب محاربته بشدة فهو تلك الكتب التي تنشر سراً بين الناس انتشار الأمراض الخبيثة، والتي تدلس العلاقة الجنسية وتسيء إليها كل الإساءة، والتي لا يبغي أصحابها من ورائها سوى منفعتهم المادية الشخصية. وإن سبب انتشار أمثال هذه الكتب انتشاراً ذريعاً وإقبال الناس على اقتنائها وتلهفهم على قراءتها هو ذلك الجو الغامض الذي أحاطه الناس جيلاً بعد جيل بالعلاقة الجنسية. فحب الاستطلاع الذي لا يخلو منه فرد هو الذي يدفع الولد والشاب والكهل إلى أن يختلي بكتاب من هذا النوع علَّه يقف منه على ما حرم من سماعه طيلة حياته. وإن انتشار هذه الكتب لهو أشد ضرراً وأسوأ عاقبة من قراءة الكتب الصريحة، وشتان بين الأثر الذي تتركه أمثال هذه الكتب، وبين الأثر الذي تتركه قصص بوكاتشيو مثلاً، مع أن الناس اعتادوا وضعها في مرتبة واحدة.

ولكن الغريزة الجنسية التي لا غنى للناس عنها تتطلب من الفرد تنفيساً عن رغباتها. فإذا ما جلب له هذا التنفيس الخزي والعار بين قوم لا يميزون بين الغث والسمين، عمد إلى وسيلة أخرى ينفس بها عن رغباته دون أن يعرف الناس عنه شيئاً. وليس لديه ما هو أقرب منالاً من العادة السرية يرتكبها ويسرف في ارتكابها، لأنها طريقه الآمن الوحيد الذي لا يتعرض فيه لنقد ناقد أو تهكم متهكم. وقد هاجم لورنس العادة السرية بكل ما فيه من قوة لأنها في نظره سرطان المدنية الحديثة وداؤها العضال، فهي التي قتلت في الإنسان الحديث حيويته وتركته رجلاً وما هو برجل؛ فضلاً عن أننا نلمس في مرتكبها ثوب العار والمذلة الذي لا يخلعه عنه قط. وإنا لنلمس أثر العادة السرية في كتابات العصر الحديث، فكما أنه في العادة السرية ليس هناك شخص وموضوع بل هما واحد، كذلك في كتابات هذا العصر نرى أن موضوع الكتابة والكاتب هما شيء واحد، بمعنى أن الكاتب يعمد إلى شخصيته أو نفسه فيحللها تحليلاً دقيقاً ويبني على هذا التحليل كتابه. ومن أمثال هذه الكتب كتاب (يوليسيس) لجيمس جويس

وقد تنبه الناس في العصر الحالي إلى الضرر البليغ الذي ينجم عن إحاطة العلاقة الجنسية بجو من الغموض والإبهام، وأدركوا عظم الهاوية التي قد يجرفهم إليها تيار هذا الغموض، ولكنهم للأسف نجحوا في تشخيص المرض ثم عجزوا عن وصف الدواء. ففي محاولاتهم لقتل هذا الغموض قتلوا الجنس نفسه وأعدموا الرغبة الجنسية. فظهرت كتب عديدة تحاول أن توضح كل شيء في العلاقة الجنسية فكان من جراء ذلك أن زالت عنها كل قدسية، ومن أمثال هذه كتب ماري ستوبس وذهب فريق ثان إلى التغلب على هذا الغموض بأن انغمس في هذه العلاقة وأسرف فيها، وهؤلاء هم البوهيميون الذين كان من جراء تغاليهم في هذه العلاقة أن عرفوا كل شيء عنها، غير مدركين أن العلاقة الجنسية هي ينبوع مقدس يتفجر منه الماء بقوة إلهية، حتى إذا ما حاول الإنسان أن يكشف السر عن هذه القوة توقف تفجر ماء الينبوع ثم جف

فغرض لورنس الذي يرمي إليه هو أن يعالج الكتَّاب هذا الموضوع في شيء من الصراحة التي لا تحلل كل شيء بطريقة علمية حتى لا تفقد هذه العلاقة قدسيتها. وكذلك يريد لورنس أن يعلم الناس أن هذه العلاقة شيء مقدس لا خزي فيها ولا عار؛ فهو يريد أن يرفع من شأنها ويهيب بالناس أن يقدسوها التقديس اللائق بها، وفوق ذلك يريد لورنس أن يقول الإنسان ما يعتقد دون خفاء أو مواربة

ولورنس يكتب الآن لأقلية من القراء المفكرين واسعي العقول إلا أن الوقت سوف يأتي عندما يؤمن الناس به جميعاً ويدافعون عن آرائه ومبادئه ويعملون بما يبشر به، وهم إن فعلوا ذلك فسوف يحيون حياة جديدة كلها هناء وكلها سعادة وكلها رفاهية.

(يتبع)

عبد الحميد حمدي

خريج جامعة أكستر بإنجلترا