مجلة الرسالة/العدد 328/رسالة الفن
→ هذيان. . . | مجلة الرسالة - العدد 328 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
رسالة العلم ← |
بتاريخ: 16 - 10 - 1939 |
دراسات في الفن
شيء ليس في الكتب. . .
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
. . . وقابلتني مرة أخرى صديقتي التي قدمتها إليك في الأسبوع الماضي وكانت كعادتها غاضبة، ولكنها في هذه المرة كان غضبها بالغاً نهايته من قبل أن تراني، وقد رأتني قبل أن أراها فلم أنتبه إليها إلا بعد أن وكزتني وهي تقول:
- أهكذا يكتب الناس في الصحف السيارة ما يدور بينهم وبين صديقاتهم من أحاديث، حتى إذا قرأها من يعرفونهم ويعرفونهن وقفوا على ناحية من تفكير فتاة تحب أن يعرف الناس عنها أنها مقطوعة الصلة بالرجال وأحوال الرجال ونفوس الرجال؟. . . أم أنت آليت على نفسك تخويف العرسان؟ حقاً إنك قليل الذوق!
- عفوك يا آنستي عفوك، فما أقصد إلى شيء من هذا، وإنما أدعو الله لك بالتيسير كما أسأله لك الصون. ثم أنتهزها فرصة لأسألك ما هو الذوق؟ هذا الذي تقولين إن نصيبي منه قليل. . .
- هو فضيحة جديدة تزفها بأجراسها للرسالة. سأشكوك للأستاذ الزيات!
- ليس للأستاذ الزيات شأن في هذا. فأجيبي وقولي: ما هو الذوق؟ أم أنت تقولين مالا تعرفين؟
- لا أعرف هه! فما هو الذوق يا ذواق؟. . .
- وأنا أيضاً لا أعرف
- إذن ففيم كانت هذه الأستاذية المنفوخة في سؤالك؟
- كانت في السؤال يا آنستي. . . أما تعرفين أني أستاذ في الجهل، والسؤال سألته بحثاً عن المعرفة؟ وهلا تحبين أن نتعرف الذوق معاً؟
- أتعرَّف الذوق معك أنت؟ وهل أنت تريد أن تعرف الذوق. . .؟
- بنعمة الله أردت. وإني أراك لا تعرفينه فقد وقفت عن تعريفه، فلم لا نتعرفه معاً. . . إنه شيء ليس في الكتب!
- لولا أنك مر!
- يا توفيق الله! من هنا نبدأ. أنت تصفين إنساناً بأنه مُر، بينما الإنسان شيء لا يؤكل ولا يشرب حتى يعرف له طعم فكيف سولت لك نفسك هذا الخلط؟
- وأنا مالي! أتريد أن تحاسبني على اللغة أيضاً؟ هم الناس يقولون هذا عندما يريدون أن يصفوا إنساناً بأنه. . . بأنه مر!
- إذن فأنت مقلدة في هذا. . . وسنفرض أيضاً أن كل من يصف الإنسان بالمرارة مقلد في وصفه. . . ولنمض إلى أن نلتقي بأول من وصف إنساناً بهذا الوصف. . . ولنسأله: كيف سولت له نفسه هذا الخلط؟
- سيقول إنه تشبيه
- ونحن أيضاً نقول إنه تشبيه. . . ولكن كيف نشأ هذا التشبيه في ذهنه، وكيف قامت عنده هذه العلاقة بين الإنسان وبين المرارة وهي طعم من الطعوم لا يمكن أن يصل إلى الذهن إلا في أعصاب الجهاز الهضمي؟
- ما للجهاز الهضمي وما نحن فيه؟
- ليس للمرارة مدخل إلى الإنسان إلا من هذا الطريق. . . من الجهاز الهضمي وحده فلن نعدل في تفهم الذوق عن هذا. . وسنبدأ بتقدير حقيقتنا الأولى، وهي أن أول من وصف إنساناً بأنه مر لابد أن تكون أعصاب جهازه الهضمي قد أحست المرارة منه فعلاً. . . وعلى هذا القياس يكون أول من وصف إنساناً بأنه حلو قد أحست أعصاب جهازه الهضمي فيه بطعم السكر فعلاً. . وهكذا. .
- إذا وجدت إنساناً معك يوافقك على هذا الكلام، فإني أعاهدك أن أقوم لك مدى الحياة خادمة، وعلىَّ دخانك! إن هذا الذي تقول لا يصح إلا عند نيام نيام حيث يأكل الناس بعضهم بعضاً فيتذوق بعضهم مرارة ذبيحته أو حلاوتها!
- وأنت لا يصح الذي تقولين، إلا إذا كان عقل الإنسان آلة مضطربة لا نظام لها ولا قانون، ولكن للعقل نظاماً وقانوناً، أفإذا قال هذا علماء النفس آمنت، فإذا قلته أنا تستهزئين؟
- لأنك تريد أن تخرج منه إلى نتيجة مضحكة! - ليس ذنبي، ولا ذنب ما أقوله أنك تضحكين، اسكتي، ولنمضي. . . والله المعين.
- أنا معك. . . فماذا تريد أن تقول؟
- أريد أن أعود فأصلح ما قلت لأنه كلام سخيف
- ليتك تريد أن تعرض نفسك على طبيب حكيم. أما قلت لك إن الذي تقوله ليس شيئاً غير كلام المجانين. . .
- لا يا آنستي، إنه كلام معقول معقول، وكل ما في الأمر أنه سخيف، فلو أننا برأناه من السخف لصلح. ومن يدري فربما أصبح حقيقة علمية فيما بعد. اسمعي
- هاأنا ذي سامعة. وإني لا أسألك يا رب رد القضاء وإنما أسألك اللطف فيه
- المعروف أن الجهاز الهضمي لا يرسل إلى المخ إشاراته إلا بعد أن تؤثر فيه مؤثرات كيميائية. . . أليس كذلك؟
- إنه كذلك
- ونحن نريد الآن أن نعرف: ألا يمكن أن يرسل الجهاز الهضمي إلى المخ إشاراته هذه بغير وجود هذه المؤثرات الكيميائية؟
- يمكن هذا. . . عندما يتذكر الإنسان طعماً من الطعوم
- ليس هذا التذكر إلا استعادة داخلية تلقائية تحدث في المخ وتسترجع بها صورة لحالة فاتت. . . فهو من نوعها. . . ولكنه على أي حال يفيدنا دليلاً أو قرينة على أنه من الممكن أن يتصور الذهن أو أن يدرك طعماً من الطعوم بدون حاجة إلى المؤثر الكيميائي
- حسن. وهل تحسب أن هناك مؤثراً غير هذا المؤثر الكيميائي؟
- ولم لا؟ ألا يمكن أن يكون هناك مؤثر كهربائي مثلاً؟
- تريد أن تقول إننا عندما نرى إنساناً ممن نصفهم بالحلاوة مثلاً، يجري منه تيار كهربائي فيدخل هذا التيار إلى أفواهنا أولاً، ثم تمضغه أسناننا، وتلوكه ألسنتنا، ثم ينزلق في المريء إلى المعدة، وفي أثناء هذا ترسل أعصاب الجهاز الهضمي إشارات إلى المخ تدل على أن هذا الإنسان حلو؟!. .
- لست أريد أن أقول هذا بالضبط، وإنما أريد أن أقول شيئاً يشبهه. على أني لا أرى ما يمنع من إقرار هذا الذي تقولين، وتعززه عندي مشاهدات فطرية ليس من الحكمة أن ننكرها أو أن نغفلها
- وما هي مشاهداتك هذه؟
- سأذكرها لك، ولكني أرجوك ألا تشمئزي منها فالحق لا يعرف الاشمئزاز ولا التقزز. . . لا تؤاخذيني. . . ألم تبصقي يوماً على إنسان رذل؟ أو في موقف رذل؟ ثم. . . ألم يسل لعابك يوماً استجابة لحلاوة. . . طفل أو طفلة. . . أو موقف حلو؟!. . أجيبي. . .
- ما هذا (القرف)؟
- عدنا إلى تردد النساء ووجومهن عن الحق؟ أجيبي. . . ألم يحدث لك شيء من هذا؟ أما أنا فقد حدث لي كثيراً، كما أني أعرف أناساً كثيرين حدث لهم مثل هذا، وإني أعفيك من الإجابة عن هذا السؤال وأفرض أنك مخلوقة عجيبة لا تخضعين للقوانين التي تسري على غيرك من الأبشار. . . وأسألك لماذا يحدث للناس ما عداك طبعاً. . . هذا الذي ذكرناه؟. . هل هو تأثير كيميائي أيضاً؟
- لا أظن!
- إذن فهو غير التأثير الكيميائي، وأنا أقول إنه تأثير كهربائي. صحيح أنني لا أستطيع أن اثبت هذا إثباتاً علمياً يقوم على أساس من التجربة الدقيقة. . . ولكن. . .
- ولكن هذا الكلام لا يمكن أن تقوم له قائمة إلا إذا أثبته
- وأنا لا يعنيني كثيراً ولا قليلاً أن تقوم له قائمة، فلا أنا متعلق به ولا أنا حريص عليه. . . بل إني أحب أن أمحوه لأثبت مكانه شيئاً آخر أحبه أكثر مما أحب الكهرباء، وهو الروح
- ولماذا لا تقصد إلى ذلك رأساً ما دام هذا هو غرضك؟
- لأن الحديث عن الكهرباء في هذا الزمن أيسر قبولاً عند الناس من الحديث عن الروح، وقد يجد من يقتنع به في سهولة بل إنه قد يجد من يحاول إثباته. . . وربما وجد من يثبته
- فأنت تخادع محادثك وتتملقه
- بل إني أستدرجه. . . دعيني من هذا، وعودي بنا إلى ما كنا فيه. . .
- وفي أي شيء كنا؟
- كنا نتحدث في (كهربات) الناس
- ياله من موضوع! - إنه لا يزال أشتات موضوع ولما يتجمع. . . والآن نريد أن نعرف. . . ألا تختلف الكهرباء في المعادن والعناصر؟
- إنها تختلف. . . فنحن إذا دلكنا الكهرمان بالصوف أو الحرير انبعثت منه الكهرباء، ولكنها لا تنبعث منه إذا دلكناه بالقطن مثلاً. . .
- حسن. إن في هذا ما يشبه ذلك السر الذي يوفق بين ناس وناس، وينفر ناساً من ناس. وقد يكون في هذا أيضاً سر الإذن الذي أباح به الإسلام للرجل أن يتزوج من أربع نساء
- إن هذه قفزة عجيبة أريد لها توضيحاً. . .
- ألا تستطيعين أنت أن تذهبي وحدك إلى هذا التوضيح؟ الرجل كالكهرمان، والنساء كالصوف والقطن، ولكنهن أربع والصوف والقطن اثنان
- ولكن النبي محمداً تزوج أكثر من أربع. . .
- إنه النبي محمد الذي كانت كل كلمة من كلماته درساً، والذي كان كل عمل من أعماله حكمة. . . وهو قد أحب خديجة حباً، وأحب عائشة حباً، وأحب زينب بنت جحش حباً، وهكذا. . .
- ألا ترى أننا ابتعدنا عما كنا فيه. . . عد بنا إلى الكهرباء
- لا أريد أن أقول شيئاً بعد هذا. . . إلا أنه قد أصبح من السهل على هذا الأساس الذي وضعناه أن ندرك السبب في اتفاق مشارب الناس وفي اختلافها. والاتفاق هو الذي يحشد بعض الجماهير وراء بعض الفنانين إذ تجد الجماهير في الفنان قائداً يقودها إلى ما تحبه وترتاح إلى الإحساس به، وينأى بها عما تكرهه وتتقزز من الإحساس به. وهذا هو ما يسمونه الذوق؟
- ولكن علماء النفس أدركوا هذا السر قبل أن تدركه أنت، وقالوا أن الناس أمزجة، وقسموا أمزجة الناس إلى أربعة: اللمفاوي، والسوداوي، والدموي، والصفراوي. وأرجعوا نشأة هذه الأمزجة إلى إفرازات تفرزها غدد خاصة في الأجسام. ولقد أعانهم علماء الطب والتشريح على مذهبهم هذا فأثبتوه لهم، وأنت تلقي كلاماً على عواهنه وتريد مني أن أصدقك وأن أعرض عن كلامهم من غير برهان تسوقه؟
- لا يا آنستي. . . أنا لم أطالبك بشيء من هذا. ولكني أذكرك بما يكون قد غاب عن ذاكرتك، وهو أن الفلاسفة الأقدمين قد قسموا أمزجة الناس إلى طبائع أربع أيضاً فقالوا إن من الناس من هو ترابي، وإن منهم الهوائي، وإن منهم المائي، وإن منهم الناري. . . وقد أندثر تقسيم الفلاسفة القدماء ولم يعد أحد يأخذ به وحل محله كلام أطبائك وعلماء نفسك!
- ولعلك تريد أن تقول إن مذهب حضرتك هذا هو الذي سيحل محل مذهب الأطباء وعلماء النفس؟
- العفو! ولكني أعود إلى السؤال الأول الذي بدأنا به هذا الحديث والذي جرنا إلى هذه النهاية المربكة. . . كيف وصف الواصف الأول إنساناً بأنه حلو أو أنه مر بينما هو لم يذق له طعماً؟
- إنه تشبيه
- بهذا أجبت في بادئ الأمر. فهل تريدين أن ندور؟. . .
عزيز أحمد فهمي