مجلة الرسالة/العدد 327/ساراكينوس
→ من تاريخنا العلمي | مجلة الرسالة - العدد 327 ساراكينوس [[مؤلف:|]] |
بين سيد الشعراء وسيد رجال المال ← |
بتاريخ: 09 - 10 - 1939 |
للأستاذ محمد عبد الله العمودي
جاء في العدد 324 من هذه الرسالة العالية، كلمة بعنوان (يا رسول الله)، (لأستاذ جليل) ينم عليه قلمه!
استهلها بآية من آياته، وبينة من بيناته، وتلك قوله:
(إن الدهر قد جار على قوم عرب!!)
ثم نقل من (التنبيه والإشراف) للمسعودي هذه النبذة:
(كانت ملوك الروم تكتب على كتبها من فلان ملك النصرانية، فغير ذلك نقفور، وكتب (ملك الروم) وقال هذا كذب، ليس (أنا) ملك النصرانية، أنا ملك الروم، والملوك لا تكذب، وأنكر على الروم تسميتهم العرب (ساراقينوس) تفسير ذلك: عبيد سارة، طعناً منهم على هاجر وابنها إسماعيل، وقال: تسميتهم عبيد سارة كذب، والروم إلى هذا الوقت (يعني سنة 345) تسمي العرب (سارقينوس. . .) أهـ
وأستاذنا الجليل، وهو (سباق غايات، وصاحب بينات) كان حقاً عليه أن يقف لحظة أمام هذه (الكلمة) فيعالجها معالجة يردها إلى أصلها، أو يقول قولاً في فصلها؛ إذ هذا هجِّيراه وديدنه في كل ما يرقمه قلمه البارع في شتى (بحاثاته). . .! ولكنه لم يفعل بل تركها تجري في عبارات المسعودي غامضة الوضع، عسيرة الفهم، ملحقةً بذلك التفسير الذي يغلب على الظن أن المسعودي فسره تفسيراً خياليّاً بقوله: (عبيد سارة) أخذاً من الهجاء الأول (سارا) من كلمة: (ساراقينوس)، والدليل على بطلان هذا الكلام عن المسعودي، وإن كنا لا نستبعد أن لوجود (سارا) أو (سارَّة) في بنية هذه (الكلمة) من أمر، قوله: (وقال (أي نقفور) تسميتهم عبيد ساره كذب) لأن ملكاً من ملوك هذه المصفَّرة لا يمكن بحال من الأحوال أن يجعل من نفسه مدافعاً عن العرب، أو يعنى بمثل هذا التحليل وغاية ما في الأمر أن لخيال المسعودي أثراً في هذا، فمن وجود (سارة) في هذه الكلمة يتبادر إلى ذهن (المؤرخ) الأسطورة الخرافية الداهية التي (تحطّ) من قدر الإسماعليين أبناء هاجر بالنسبة (لساره) الزوجة الشرعية لإبراهيم الخليل. . . وهذا ما وقع فيه المسعودي، فلا يُسلَّم له بهذا، إلا إذا جاء نصْ من اللاتينية أو الإغريقية يقول أن (كينوس) بمعنى (عبد) حينئذ يمكننا أن نركن البنادق مسلّمين!
وسيرى الأستاذ الجليل، من الأقوال الآتية في أصل هذه الكلمة وما قاله المؤرخون، قدامى ومحدثون، ما يجعله يقلّل من أهمية رواية المسعودي الذي إذا صح أنه لم يبتدعها من خياله، فقد أمكن حينئذ أنه استقاها عن طريق. . . (إسرائيليات!) والنكتة في هذا معلومة!
هذه الكلمة قد سجلها التاريخ في مطاويه منذ عهد عريق جداً، فالعرب لا تعرفها مطلقاً، إذ لم تشتهر في تاريخهم، وما وردت في نظمهم ولا نثرهم، فإذا كان المسعودي هو المؤرخ الوحيد الذي ذكرها، فلا شك أنها هبطت عليه عرضاً، وأقتنصها اقتناصاً من أحاديث الروم. ومعنى هذا أنها غير مشهورة بين العرب، ولا جارية على ألسنتهم فهم يجهلونها كل الجهل جهلهم بأصلها!
وهي سارية في كل اللغات الأوربية بهذا المفهوم ألهم إلا في الهجاء الثاني منها فإنه يختلف اختلافاً بسيطاً بحسب اختلاف اللُّغى واللهجات. . .
أما التوصل إلى حقيقتها والتعرف على كُنه تحدرها في مجرى التاريخ فهذا لا يكون إلا بالوقوف على ما كتبه مؤرخو أمتي البحر المتوسط: الإغريق والرومان، فلِهاتين الأمتين صلات وثيقة وتجارة جارية. أجل، عند هاتين الأمتين نشأت كلمة (ساراكينوس) ووردت في تاريخهما معزّزة بهجماتهم المتوالية على حدود الممالك الإغريقية والرومية في مصر وفلسطين وما وراء بلاد الأنباط. وكانت قوافل السبأيين من أقصى الجنوب تفيض موقرة بالأحمال، معطّرة الأعطاف بالبهار والأطياب فتتسلمها عن طريق أيدي هؤلاء (السراكينوس) لتتوزع في قصور أوربا ومعابدها عن طريق الأغارقة والرومان. . .
وإذا كانت هذه الكلمة أصبحت اليوم علماً خاصاً يطلق على العرب، فإن مفهومها قديماً كان على عكس ذلك؛ فقد كانت تدور في دائرة ضيقة من التعريف، لا تطلق على الشعب العربي كله وإنما كانت خاصة بقبيل معيّن يسكن على شواطئ خليج العقبة في الجزء الجنوبي لجزيرة سيناء يعرفه الإغريق بـ (ساراكِيني)
وأقدم ذكر جاء لهذه الكلمة في كتاب المؤرخ الإغريقي ديوسكوريدس في منتصف القرن الأول من ميلاد المسيح عندما وصف صمغ (المقل) فقال: إنه ينبت من (شجرة ساركينية).
وذكر المؤرخ الروماني بلينوس الأكبر في كتابه (التاريخ الطبيعي)، وقد كان معاصراً للإغريقي السابق الذكر، هؤلاء (السراكين)، فقال: (إنهم من جملة القبائل العربية الثاوية في صميم الصحراء، والتي تتاخم بلادهم بلاد الأنباط).
وجاء على أثر هؤلاء المؤرخ بطليموس، في منتصف القرن الثاني للميلاد، فذكر بلاد (السراكين فقال: (إنها تقع في بلاد العرب الحجرية وعين مكانها بقوله إنها تقع في غرب الجبال السوداء التي تمتد - بناء على قوله - من خليج فاران إلى أرض اليهودية. . .)
ولم يكتف المؤلف بكلامه هذا، بل عاد ونقض قوله، فقال في موضع آخر من مؤلفه: إن (السراكين) شعب يقيم في داخلية بلاد العرب السعيدة يقصد بذلك بلاد اليمن. وزاد على ذلك فقال: إن (السكينتس) وقوم عاد يسكنون الهضاب المرتفعة، وبالقرب منهم نحو الشمال والجنوب يوجد (السراكينوس) والثموديون!
وهذه الفقرة الأخيرة من بطليموس بعيدة عن إفهامنا كل البعد إذ لا يصدق مطلقاً أن توجد قرابة في المسكن بين (السراكينوس) و (العاديين) مثلاً؛ فأولئك - كما علمنا - مساكنهم حوالي جزيرة سيناء، وهؤلاء مثاويهم في جبال حضرموت والمسافة بين البلدين طويلة لا تقاس!
ولعل بطليموس قاس هذا قياس استيطان لا قياس مساحة بالنسبة لجهله بأبعاد الجزيرة. وأما قوله إن (السراكينوس) على مقربة من (قوم عاد) كما ذكرنا، في بلاد العرب السعيدة، بعد أن أقرهم في بلاد العرب الحجرية، فلا يبعد أنهم كانوا يفهمون كل ما هو خلف بلاد الأنباط من بلاد، هو من بلاد العرب السعيدة، إذ هم يتصورون أجواءها وراء هذه الحدود، والسراكينوس كانوا عندما يهاجمون هذه الممالك سرعان ما يختفون في أجواف هذه الصحراء صوّب اليمن. . .
مع كل ما سبق، إذا جئنا نتلمس هذه الكلمة في الأسفار اليهودية والسريانية لم نعثر فيها على ما يشفي غلة الباحث الصادي. نعم! إن الكنائس السريانية قد برّزت في هذا المجال فحفظت لنا أسفاراً قديمة جداً تتعلق بأخبار الساميّين - وخاصة ما يتعلق بهم من ناحية العقيدة، كما يتضح لنا هذا في (كتاب الحميريين) الذي نقله من نص سرياني الأستاذ (إكسل موبرج) المدرس بجامعة لند من أعمال السويد. أما (السراكينوس) فلم يروا لهم ذكر يذكر في هذه الأسفار السريانية، ما خلا رسالة وضعها برداسانيس السرياني في بداية القرن الثالث للميلاد بعنوان ' ذكر فيها الطائيين و (السراكينوس) بقوله: (إنهما قبيلتان تمثلان أهم القبائل العربية الرحالة)
وأستمر الحال على هذا في تلك الأعصار الماضية والسراكينوس لا يعرفون إلا في تلك الطوائف الصغيرة التي تظهر أحياناً مغيرةً من وراء الحدود النبطية، حتى نهض العرب نهضتهم المشهورة، حاملين الرسالة الإنسانية، فبدت طلائع خيلهم من وراء التخوم الفلسطينية تتواكب شمالاً ويساراً على حفافي البحر المتوسط؛ فاهتزت لها أرجاء المملكة الرومانية، وارتعدت لها فرائص القياصرة، وسرى أمر (السراكينوس) بين أمم البحر المتوسط مسير الشمس، فأصبحت هذه الكلمة من هذا الحدث التاريخي العظيم قد أخذت لها معنى واسعاً عن ذي قبل، فكانت سِمة الشعب العربي كله
من هذا نرى أن الكلمة قد تقمصت شكلاً آخر أو مشت متطورة إلى دور ثان، وسنراها كذلك قد دخلت في طور ثالث؛ وذلك أن العرب عندما اشتدت هجماتهم على ممالك الروم في مصر والشام، وذاع من أمرهم أنهم يحملون ديناً جديداً إلى العالم، أقضَّ هذا مضجع الكنيسة الشرقية في عاصمة بيزنطية. فأرسلت رسلها إلى الكنائس الغربية تنبئها بأمر المسلمين، وأن شيئاً جديداً قد صار يهدد الكنائس!!
ولما ودع هرقلُ سوريةَ وداعه الأخير المشهور، واكتسحت جحافل أبن العاصي فلول الرومان في مصر، كان أمر (السرازينس) قد ملأ النفوس رعباً وممالك الفرنجة إضطراباً، حتى أصبحت هذه الكلمة من مرادفات الهول والموت؛ ومن ذلك الوقت عُرف المسلمون بـ (السرازين) وإن كانوا هم العرب في حقيقة الأمر والواقع!
وبقى البيزنطيون على وجه أخص يطلقون هذا الاسم على المسلمين إلى أواخر القرون الوسطى حتى سقوط الخلافة في بغداد. يؤكد لنا هذا خبرُ أبن بطوطة عندما دخل القسطنطينية فحياه إمبراطورها باسم (سراكينو) أي مسلم
ولما أستقر العرب في أسبانيا كانت كل الأمم الأوربية قد سمعت بـ (السرازين) وراحت هذه اللفظة متغلغلة في آداب هذه الأمم؛ فاستعملها الفرنسيون في شعرهم الحماسي باسم (السرازين) أي الذرة السمراء (كما يقولون!) يعنون بذلك عرب أسبانيا نظراً للونهم الصحراوي الأسمر!
ثم أخذت طريقها بعد ذلك إلى إيطاليا، فتسللت إلى شعر الفروسية الإيطالية باسم (ساراشيني) وفي أثناء الحروب الصليبية كان المسيحيون يطلقونها أيضاً على المسلمين أجمعين، وقد ذكرها الشاعر الإيطالي (دانتي) في (جحيمه) بقوله:
ومعلوم من التاريخ أن غزوات العرب قد وصلت إلى معابر جبال الألب ومنافذ سويسرة بعد أن استولوا على جزء عظيم من جنوب وشمال إيطاليا. وفي استطاعتنا أن نقول أنه لا يوجد اليوم جزء من أجزاء العالم يردد أهله ذكر (السرازين) في حكايات أقرب إلى أن تكون من عمل خيالات القصصيين المولعين بأخبار الحماسة، كبلاد سويسرة. فعلى جبال هذه البلاد بنى (السرازين) آطامهم وقلاعهم وحصونهم، وما زالت حتى هذه الساعة محتفظة باسمهم، وفي مهاوي هذه الشعاب البعيدة عن العالم تقوم كنائس وأديرة ما فتئ رهبانها يذكرون أخبار (السرازين) في عبارات مزيجة بالخرافة والتاريخ!
هذه قصة (السراكينوس) تتبعناها من منبعها إلى موقعها بحسب ما توفر لنا من البحث والزمن، ويرى القارئ من هذا التفصيل السابق أن هذه الكلمة قد أصبح أمرها معروفاً من حين خروج العرب من جزيرتهم، وأنها لا تطلق إلا عليهم، ولكن المشكل المحيّر هو:
من هم هؤلاء (السراكينوس) قديماً؟
ومن أين اشتق هذا الاسم؟
سؤالان لم يجزم بحقيقتهما حتى الآن؛ فقد ذهب المؤرخون في مأخذ هذا اللفظ مذاهب شتى، كلها من قبيل الظنون والرجوم، فمظانها غامضة، وأثرها مطموس، وللمؤرخين أقوال في هذه (اللفظة) نجملها فيما يلي:
1 - في العصور القديمة كانت تطلق على قبيل بعينه كما بينا فيما مر، ولكن في العصور المتأخرة ذهب المؤرخون فيها مذاهب شتى، فيرى بعضهم أنها:
2 - تصحيف (شرقيين) العربية، ويدللون على رأيهم هذا أن حرف (الشين) العربي لا يوجد في الإغريقية، ولا الرومانية.
3 - (سرّاقين) أي (اللصوص)، ويقصد بهم سكان الصحراء! 4 - (ساراكين) أصلها (صحراء ساكن) أي سكان الصحراء!
وبعد فهذه أقوال المؤرخين في هذه اللفظة المحيرة، ففيها ضعف، وفيها قوة، وكلها - في رأينا - لا تغني من الحق شيئاً!
على أنه إذا صح لنا الاختيار من هذه الأقوال، فأقوى الآراء منها القول بأنها تصحيف (شرقيين) فالكلمة إذن عربية أصيلة، أطلقها الأنباط، وهم عرب على القبائل التي تناوحهم من جهة الشرق. فسمع منهم الإغريق والرومان هذا اللفظ فأدخلوه إلى لغتهم بتلك النبرة، وقد كانت لهم مستعمرات بهذه الأرجاء كما هو معروف. وكلمة (الشرق) و (الشرقيين) لها أصل في لغتنا اليوم؛ فالمصريون يطلقون على كل من يفد من جهة الشرق (شرقيين) وأهل الحجاز يسمون أهل نجد (شروقاً) فليس بعجيب إذن أن يعيد التاريخ نفسه في القرن العشرين!
ولكن مع كل هذا التعليل، ففي النفس شيء من (ساره) في (سارا. . . كينوس) وأن هذا التركيب لابد وأن يحمل توجيهاً آخر في تحليل هذه اللفظة، وخاصة إذا أخذنا بأقوال مؤرخي الكنيسة في القرن الرابع أن (السارازين) انضموا إلى الإسماعيليين الذين كانوا يقيمون في صحراء قادش في مقاطعة فاران حيث ينهض جبل (حوريب) في شرق البحر الأحمر. وفي النفس شيء - أيضاً - من هذا إذا علمنا أن (الهاجريين) أبناء هاجر، قد اشتهروا في الأدب اللاتيني في القرون الوسطى كمرادف (للسرازين) فهل لعلماء اللغات السامية، والمبرزين في الإغريقية واللاتينية، كشيخنا العلامة الكرملي، أن يقولوا كلمتهم في هذا الشأن، فيعيدوا الحق إلى نصابه، والسيف إلى قِرابِه!
أما بعد هذا كله فإني أختتم هذا البحث بمِخرقَة قالها أحد المؤرخين الأوربيين، وذلك أن (السراكينوس) القدامى لا تزال سلائلهم موجودة لليوم ممثلة في قبيلة (السواركه) القبيلة البدوية الصغيرة التي تعيش إلى هذا اليوم على شواطئ البحر بين العريش وغزَّة
وحسبنا أن نقول إزاء هذا التحقيق أن هذه بلية من بلايا البحث توقعها المجانسة في اللفظ؛ وكم خدعت المجانسة مستشرقين في الغرب وأئمة في الإسلام. فالسواركه هؤلاء وجدوا في عصر متأخر، يرجعون في نسبهم إلى سيدنا عكاشة الصحابي المشهور وفوق كل ذي علم عليم.
(القاهرة)
محمد عبد الله العمودي