مجلة الرسالة/العدد 325/سيجفريد في الأدب
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 325 سيجفريد في الأدب [[مؤلف:|]] |
للتاريخ السياسي ← |
بتاريخ: 25 - 09 - 1939 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
أصبح خط سيجفريد مشهوراً في السنوات الأخيرة، وقد كان معروفاً في الحرب الماضية على غير الوصف الذي اشتهر به الآن، لأنهم كانوا يطلقونه يومئذ على مواقع الجيوش الألمانية خلف (السوم) ما بين كنتان ولاون، ولم يكن فيه حصون ولا أنفاق ولا مكامن كالتي بنوها في هذه السنوات محاكاة لخط (ماجينو) المعروف
وليس للتسمية مصدر من التاريخ ولا من فنون الحرب، وإنما مصدرها كله أساطير وأناشيد وخيال
خرافة شمالية قديمة نقلها الألمان عن أمم (الاسكندناف) ما بين أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر، وجاء (فاجنر) فأدار عليها بعض رواياته الموسيقية ومنها واحدة باسم البطل سيجفريد سليل ملوك البلاد الواطئة وسليل الأرباب العلويين من قبل ذاك
وقد سمى الخط بهذا الاسم لأن نشأة سيجفريد وتربيته كانت بين البلاد الواطئة ووادي الرين حيث يقوم الخط الآن
وهناك مشابه تجمع بين البطل والخط في مجاز الأساطير
فقد كان سيجفريد يملك طيلسان الإخفاء فيلبسه فيصبح في قوة أثنى عشر بطلاً ولا تراه عين الناظر من أبناء الفناء
وكان جلده منيعاً على طعن الحراب والسيوف، لأنه قتل التنين الحارس لذخائر الرين وسبح في دمه فنشأ له جلد خشن سميك في صلابة القرون التي كانت على التنين
وكان له سيف صاغه بيديه من سيف أبيه المكسور، يقصم كل شيء ولا يقصمه شيء من الأشياء
لكن الأسطورة لا تقف عند هذه المشاية بل تعدد صفات أخرى لسيجفريد ليست مما يرتضيه هتلر وتابعوه
فقد كان النحس مظلاً للبطل المحبوب من مولده إلى مماته
مات أبوه قبل ولادته وماتت أمه بعد ولادته بقليل، ورباه قزم بغيض كان هو أول العاقين له المبغضين لمرآه وسبح في دم التنين فلصقت بين كتفيه ورقة من شجر الزيزفون فحالت بين الدم وجلده فبقى موضعها مقتلاً يعرف سره بعض شانئيه. وقد طعنه منافس له في هذا الموضع وهو يميل إلى نبع ليشفي غلته، فقضى عليه!
فهل في خط سيجفريد موضع مثل موضع هذه الورقة؟ وهل يهتدي إليه خصم فينفذ فيه ويقضي على البطل المنيع من كل مكان، إلا من ذلك المكان؟
وهل يلازم النحس هذا الخط كما لازم سميه في الأساطير؟
لقد وصف برناردشو سيجفريد كما مثلته الأساطير وكما مثله (فاجنر) في روايته فقال في كتابه (الفاجنري الكامل):
(كان لا يعرف قانوناً ولا شريعة غير هواه، كان يمقت القزم الدميم الذي رباه، ويتميز من الغيظ كلما تقاضاه حق الوفاء. وكان على الجملة مخلوقاً براء من الأخلاق ومن قيود العرف والآداب) أليست هذه هي النازية بعينها، أو الآرية كما يصفها فلاسفة هتلر المسخرون للأوامر العسكرية؟
أليس سيجفريد الحديث خليقاً بمصير سيجفريد القديم؟
على أننا لا ننسى نصيب سيجفريد من الفكاهة وقد أجملنا نصيبه من القصص والخيال
فالإنجليز يقولون فيما شاع من (قفشات) الحرب أن خط سيجفريد (ارساتز) كسائر ما يصنعه الألمان
وما (ارساتز) هذه يا ترى؟
كلمة تحتاج إلى تفسير في عرفنا الدارج. وأقرب تفسير لها في هذا العرف أنها تقابل كلمة (التقليد) أو الصناعي التي نقصدها حين نقول في معرض التهكم: (هذا إنسان تقليد!). . . أو نقصدها حين نقول في معرض الجد: (هذه زبده صناعية!)
ويروي (قفاشو) الإنجليز والعهدة عليهم أن رجلاً ألمانياً ضاقت به الدنيا فعمد إلى بخع نفسه، واستخف الموت شنقاً فاشترى حبلاً ووضع فيه عنقه وضرب الكرسي الذي يقف عليه بقدر ولكن الحبل كان (ارساتز) فانقطع ولم يصبه شيء
وفكر في السم فذهب إلى صيدلية فاشترى مقداراً من السم يكفي لقتل خمسة وتجرعه مرة واحدة ثم انتظر فإذا هو كأصح ما كان، لأن السم كان أيضاً (ارساتز) فأفاد من حيث أريد به الإضرار، وانقلب إلى نوع من الدواء
واشترى من فرط يأسه رصاصاً فوجده بعد التجربة (ارساتز) لا ينطلق ولا تنقدح فيه نار
قال الرجل: لقد خلقت للحياة إذن، ولم أخلق للموت، وفي العمر بقية لا محالة
ومضى وهو ينوي أن يستمتع بالحياة جهد ما وسعته المتعة من طعام وشراب وسرور
وانحرف في طريقه إلى مطعم كبير فأمر بأصناف كثيرة وصحاف متعددة وأكواب مترعة، ومنادمة مشبعة، وأفرط ما شاء، وهو يحسب أنه قد امتلأ بالغذاء
ولكن ذلك كله كان أيضاً (ارساتز). . .
فمات!
قال القفاشون: وإن بين سيجفريد وماجينو من المشابهة لنظير ما بين زبدة الكيمياء وزبدة البقر والشاء، أو نظير ما بين الجلد (التقليد) والجلد الصحيح، أو نظير ما بين (الضولمة) الكذابة والضولمة الصادقة في لغة الآكلين!
عباس محمود العقاد