مجلة الرسالة/العدد 325/جناية أحمد أمين على الأدب العربي
→ للتاريخ السياسي | مجلة الرسالة - العدد 325 جناية أحمد أمين على الأدب العربي [[مؤلف:|]] |
صفحة من التاريخ المغربي المجهول ← |
بتاريخ: 25 - 09 - 1939 |
للدكتور زكي مبارك
- 16 -
كان الأستاذ الدكتور عبد الوهاب عزام شرع في الرد على الأستاذ أحمد أمين، فقلت في نفسي: يحسن ترك المسائل التي نقدها الدكتور عزام حتى لا يكون في هذه المقالات حديث معاد. وهل كان الغرض من هذه المقالات إيذاء الأستاذ أحمد أمين بالذات حتى نعيد القول فيما نقده الدكتور عزام؟ إن الغرض هو التنبيه على أغلاط الأستاذ أحمد أمين حتى لا يفتن بها من يثقون بكفايته العلمية من طلبة الآداب في مختلف المعاهد العالية، وقد حمل الدكتور عزام بعض تلك الأعباء
كذلك حدثت نفسي حين قرأت ما كتب الدكتور عبد الوهاب عزام في كشف أغلاط الأستاذ أحمد أمين
ولكني رجعت عن هذه النية فيما بعد حن رأيت أن لي مسالك في النقد تغاير مسالك الدكتور عزام وتجعل القراء في أمان من ضجر الحديث المعاد
زعم الأستاذ أحمد أمين أن علماء العرب (رفعوا من قيمة كل شيء جاهلي وغلوا في تقديره: فالماء الحقير في مستنقع جاهلي خير من دجلة والفرات والنيل وكل أنهار الدنيا، والجرادتان اللتان غنتا للنعمان كان صوتهما وغناؤهما خيراً من كل صوت وكل غناء، ودوسر كتيبة النعمان بن المنذر أقوى جيش عرفه التاريخ، وأيام العرب في الجاهلية ووقائعها الحربية لا يعادلها أي يوم من أيام المسلمين، وجبلا طيئ خير جبال الدنيا، وحاتم الطائي لا يساوي كرمه كرم. حتى الرذائل لا يصح أن يساوي برذيلتهم رذيلة، فليس أبخل من مادر، ولا أشأم من البسوس، ولا أسرف من شظاظ)
أتدرون ما الذي قال الدكتور عزام في نقد هذا الكلام الأجوف؟
قال إنه يقوم على أساس المبالغة والإغراق
وهذا نقد جارح: لأن اتهام أستاذ من أساتذة الجامعة بالمبالغة والإغراق له عواقب سود. وما الذي يبقى لأساتذة الجامعات إذا حرموا مزية التحديد في شرح المقاصد والأغراض؟
وهناك كلمة طواها الدكتور عزام وهي كلمة (الافتراء)، فقد افترى أحمد أمين على علماء العرب حين زعم أنهم لا يرون أن أي يوم من أيام المسلمين يعادل أي يوم من أيام الجاهلية، ونحن نتحداه أن يثبت انه رأى شواهد هذا الرأي في أي مكان من كتب الأدب أو التاريخ. نتحداه، نتحداه، فلينطق إن كان من كلامه على يقين
وهل شغل المؤلفون بتدوين أخبار الحروب في الجاهلية كما شغلوا بتدوين أخبار الغزوات والفتوحات؟
وما هو النص الذي يشهد بأن الماء الحقير في مستنقع جاهلي كان عندهم خيراً من دجلة والفرات والنيل وسائر أنهار الدنيا؟ وما هي العبارة التي تنص على أن جبلي طي كانا عندهم خير جبال الأرض؟
وإذا كانت الجرادتان اللتان غنتا للنعمان كان صوتهما وغناؤهما خيراً من كل صوت وكل غناء فكيف استجار أدباء العرب أن يشغلوا أنفسهم بتقييد أخبار الأغاني والمغنين في عصر بني أمية وعهد بني العباس؟
إن أحمد أمين قد يستطيع النهوض من كبواته الكثيرة، ولكنه لن ينهض أبداً من هذه الكبوة. وستظل شاهداً على أنه يكيل الأدب والذوق بمكيال، مع أنه بحكم منصبه مسئول عن إدراك دقائق الفروق بين الألفاظ والمعاني
أترونني أقف عند الحد الذي اكتفى به الدكتور عزام حين قال: إن كلام الأستاذ أحمد أمين في هذه النقطة يقوم على أساس المبالغة والإغراق؟
هيهات، هيهات!!
سأقول إن كلام أحمد أمين صدق في صدق، وسأرجوه أن يتحمل الصدمة برباطة جأش
أفي الحق أن العرب يرون الماء الحقير في مستنقع جاهلي خيراً من دجلة والفرات والنيل؟
وهو كذلك. . .
ولكن ما رأيك إذا صارحتك بأن كلامك هذا هو الحجة عليك. . .؟
ألم تقل بأن العرب لم يحسوا الطبيعة في بلادهم؟
فكيف يصح هذا وكان الرجل منهم يتعلق بما يراه إلى الحد الذي عبته أنت على أولئك الرجال
المسألة تحتمل وجهين: الوجه الأول أن يكون العرب في كلامك هم أهل الجاهلية، والثاني أن يكون العرب في كلامك هم المسلمون
ولا صحة للوجه الثاني لأن العرب بعد الإسلام تغنوا بأنهار مصر والشام والعراق والأندلس غناء يشهد بأنهم فتنوا أشد الفتون بأنهار تلك البلاد حتى صح لعمر بن أبي ربيعه أن يضرب المثل بعذوبة ماء الفرات فيقول:
أسُكَيْن ما ماءُ الفرات وطيبهُ ... منى على ظمأ وَبرد شراب
بألذ منك وإن نأيت وقلما ... يرعى النساء أمانة الغُيّاب
وحسان في جاهليته جعل ماء بردى يصفق بالرحيق. واتفق لبعض المسلمين أن يقول بأن بردى أنزه بقاع الأرض، فكيف يجوز مع هذا أن يحكموا بأن الماء الحقير في المستنقع الجاهلي أعذب من سائر المياه في الأرض؟
واتفق لأحد شعراء الأندلس، وهو ابن خفاجة أن يحكم بأن الأندلس هي جنة الخلد، ولذلك اتهم بالمروق من الدين، فهل يصح في ذهن ابن خفاجة أن تكون المستنقعات الجاهلية أطيب من المياه الأندلسية وهي تجري في رعاية الرياض والبساتين؟
وتحدث النويري والعمري عما عرف العرب من بحار وأنهار وغدران حديثاً يشهد بأن العرب بعد إسلامهم فتنوا بما رأوا من طيبات الوجود كل الفتون
يبقى الوجه الأول وهو أن يكون العرب في كلام أحمد أمين هم أهل الجاهلية
وأعترف بأن الجاهليين فضلوا مياههم على سائر مياه الأرض ولكن هل يدرك أحمد أمين سر هذا التفضيل؟
إن العربي في جاهليته كان يرى ماءه خير المياه، لأن كلمة (ماء) عند أهل الجاهلية ترادف كلمة (الوطن) ومن حق الرجل الكريم أن يرى وطنه خير الأوطان
وأتصدق على الأستاذ الناقد فأقول إن الكتب المؤلفة في (مياه العرب) لم يكن يراد بها وصف تلك المياه من وجهة طبيعية كأن يقال هذا ماء عذب وذاك ماء أجاج، وإنما كان يراد بالحديث عن (مياه العرب) وصف المواطن التي تجمع فيها العرب أيام الجاهلية، فهي دراسة لطبائع السكان في تلك البقاع، وتعريف بقواهم المعاشية
وإذا صح للشاعر الحضري أن يفضل أروند على بغداد فيقول:
وقالت نساء الحي أين ابن أختنا ... ألا خبِّرونا عنه حيّيتُمُ وفدا رعاه ضمان الله هل في بلادكم ... أخو كرم يرعى لذي حسب عهدا
فإن الذي خلفتموه بأرضكم ... فتىً ملأ الأحشاء هجرانه وجدا
أبغدادكم تُنسيه أَرْوَنْد مربعاً ... ألا خاب من يشري ببغداد أروندا
فدتهن نفسي لو سمعن بما أرى ... رمى كل جيدٍ من تنهده عقدا
فقد صح للشاعر البدوي أن يفضل ماء (الوشل) على جميع المياه فيقول:
أقرأ على (الوشل) السلام وقل له ... كل المشارب مذ هُجِرت ذميمُ
سقياً لظلك بالعشيّ وبالضحى ... ولبرد مائك والمياه حميم
لو كنت أملك منع مائك لم يذق ... ما في قِلاتك ما حييت لئيم
وهذه الأبيات تبلغ الغاية من المعاني الوطنية، وفيها تتوقد جذوة الصدق
وقد أُغرم العرب بعد الإسلام بتقديس ما عرفوا من المياه والأنهار فزعموا أن النيل ينبع من الجنة، ولهم في ذلك أساطير يعرفها قراء كتب الأدب والتاريخ. وأروند التي ذكرناها آنفاً عرفت الأسطورة التي تقول بأن في جبلها عيناً تتفجر من الفردوس.
وما دخل العرب بلداً إلا رأوه خير البلاد: فمصر عند أهلها أطيب البلاد وهي كنانة الله في أرضه من أرادها بسوء قصم الله ظهره. والعراق عند أهله أجمل بقاع الأرض وفي رحابه تنبت عرائس الشعر وتسيطر العيون السود. والشام عند أهله جنة الأرض وفي عرصاته يقوم الناس يوم الحساب. وهضاب فارس كانت في أنفس شعرائها ملاعب الأفئدة والقلوب. وتونس والجزائر ومراكش كانت مركز الجيش المرابط الذي صدَّ الغارات الأوربية حيناً من الزمان
ولو أردنا أن نستقصي أشعار العرب في وصف ما عرف المسلمون من البلاد لجمعنا من ذلك مجلدات ضخاماً تصور غرام العرب بما شهدوا من أطايب الوجود
فمن أين عرف أحمد أمين أن الماء الحقير في مستنقع جاهلي كان عند العرب خيراً من دجلة والفرات والنيل وسائر أنهار الدنيا؟
من أين استسقى مصدر هذا الحكم الخاطئ الأثيم؟
إن أحمد أمين يمزح في مواطن لا يُقبَل فيها المزاح. ولو كان ينتظر أن يتناول الناقدون كلامه وأحكامه بالتجريح والتزييف لأقلع عما تورط فيه من مبالغة وإغراق، فليلق جزاء ما صنع، وكان لنفسه من الظالمين
ثم ماذا؟
ثم نسوق القول في أيام الجاهلية التي ندد بها أحمد أمين
إن أيام الجاهلية كان لها في الواقع صدى رنّان في أسماع العرب بعد الإسلام، وقد شُغِلَ بها كثير من المؤرخين، ولكن هل تدرون لأية غاية شُغِلَ العرب بذلك التاريخ؟
إن وقائع العرب في الجاهلية لها ألوان مختلفات، فبعضها يصور ما كان بين قبائل العرب من نزاع وشقاق قضت بهما منافع المعاش أو مَطالب المجد، وبعضها يصوَّر مغالبة العرب لطغيان الأحباش والفُرس والروم
أما التاريخ الذي يصور ما كان بين القبائل من حروب فكان الحرص عليه يرجع إلى غاية سياسية، ولتلك الغاية صورة هي اشتباك الأورمات العربية في الخصومات حول المناصب الرئيسية بعد أن مكّن لهم الإسلام من نواصي المجد والمعاش، وكذلك كانت القبائل تحيي وقائع الجاهلية لتأخذ منها وقوداً لأتُّون المنازعات حول الرياسة والملك. . . ولا يعاب على أمة أن تحيي ماضيها لتنتفع به في إذكاء العزائم والقلوب
وأما التاريخ الذي يصور وقائع العرب مع الأحباش والفُرس والروم فكانت له غاية قومية، هي تكذيب ما ادعاه الشعوبيون من أن العرب لم تكن لهم ذاتية قبل الإسلام وأنهم لم يذوقوا طعم المجد إلا بفضل الدين الحنيف
وما كان يؤذي العرب أن يعترفوا بنعمة الإسلام عليهم، ولكنهم كانوا يكرهون أن يقال إنهم كانوا في كل عهود الجاهلية أذلاّء
ومن هنا رأيناهم يبدءون ويعيدون في عدّ أيامهم الغُرّ حين أُتيح لأسلافهم أن ينتصروا في بعض المواقع التي نازلوا فيها أعداءهم الأشداء
وهذا يفسَر إكثارهم من الطنطنة في أشعارهم بيوم ذي قار الذي انتصر فيه العرب على الفُرس انتصاراً أشعرهم بما في قلوبهم وعزائمهم من صلابة ومتانة وحيوية. ويوم ذي قار في الجاهلية كان له فضل في إذكاء حمية العرب يوم القادسية، وهو اليوم الذي عرف فيه العرب أنهم قادرون على امتلاك ناصية الشرق.
وقد ظل يوم ذي قار يذكر في الأشعار بعد الإسلام بأجيال طوال، وأظنه سيذكر بعد هذه الأيام، فإن وقائع التاريخ لها رجعات، والأحقاد الدفينة تنشرها الحوادث من زمان إلى زمان
فإن زعم أحمد أمين أن دوسر كتيبة النعمان بن المنذر كانت عند العرب أقوى جيش عرفه التاريخ فليعرف إن شاء أن تلك الكتيبة تستحق ذلك التهويل لأنها كانت نواة الجيش الذي:
به علمتْ صُهْب الأعاجم أنه ... به أعربتْ عن ذات أنفسها العرْبُ
وليس يهمني بعد ذلك أن أنقض قول أحمد أمين إن العرب يرون فضائل الجاهليين خير الفضائل ورذائلهم شر الرذائل، لأن هذا الكلام لا يحتاج إلى نقض فهو أوهى من بيت العنكبوت. ولو صح أن العرب كانوا يرون حاتماً أكرم الناس جميعاً؛ ويعتقدون أن مادراً أبخل الناس جميعاً لما كان في ذلك بأس من الوجهة الذهنية، لأن تجسيم الصفات وتضخيمها من الأمور التي استساغها العُرف في جميع البلاد. وهل يعتقد أحمد أمين حقيقة أن العرب كانوا يريدون القول بأن حاتماً أكرم من جميع الناس في سائر بقاع الأرض، وأن ما دراً أبخل من كان ومن سيكون في المشرق والمغرب؟ ذلك غير معقول
لا يهمني أن أنقض هذا الجانب من كلام أحمد أمين فهو إغراق في التوهم والتخمين، وإنما يهمني أن أشرح مسألة نقدها الدكتور عزام بصورة تغاير الصورة التي عرضها بلطف ورفق مراعاة لمزاج الأستاذ أحمد أمين الذي يتأدب في معاملة الأحياء ويتمرد في محاسبة من أصبحوا في غيابه التاريخ!
إن أحمد أمين حكم بأن العرب في جاهليتهم انتزعوا صور التعبيرات والتشبيهات والمجازات والاستعارات من البيئة التي عاشوا فيها، فما يجوز لنا نحن أن نجاريهم في تشبيهاتهم ومجازاتهم واستعاراتهم لأننا نواجه بيئة غير بيئتهم
وهذا الحكم صحيح، ولكن يجب أن يفهم أحمد أمين الحقيقة الآتية:
في اللغة العربية تعابير كثيرة نشأت في الأصل مصبوغة بالصبغة البدوية، ولكنها صارت على الزمن ميراثاً حلالاً يملكه أبناء العرب من جيل إلى جيل، وقد نُسَي معناها الأول أو كاد بحيث لا يفطن الكاتب أو القارئ إلى أنها منقولة عن صورة بدوية
فالذي يقول: (دون ذلك خرط القتاد) لا يتصور الخرط ولا القتاد حين ينطق بهذا التعبير. والذي يقول: (هذه مشكلة أعقد من ذَنَب الضَّب) لا يتصور العُقَد في ذيل ذلك الحيوان، وإنما يأخذ هذا التعبير قوته من الصورة المرسومة في أذهان من تداولوه على اختلاف الأحوال، وذلك معروف في اللغات الأجنبية ففيها تعابير منسية الأصول وهي تؤدي المراد منها بلا عناء
وهنا يزعم أحمد أمين أن الشاميين والعراقيين لم يروا الضب ولم يعرفوا عنه شيئاً؟
وأعتقد أن الصواب غير ما قال، فالشاميون والعراقيون عرفوا الصحراء وما فيها من ضباب ويرابيع
واستنكر أحمد أمين أن يقول المصريون والعراقيون والشاميون (عيون المها وجيد الغزلان) وتعجب من أن يقول ابن الجهم
عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
ثم قال: وأين المها في بغداد أمام عليَّ بن جهم وأين المها في مصر والأندلس؟
وأنا لم أزر الأندلس حتى أقر أو أنكر كلام أحمد أمين، فقد لا يكون فيها غير الظباء الإنسية، وإنما أستطيع أن أحكم بأن أحمد أمين ينكر الواقع المحسوس حين يقول بأن أهل بغداد لا يرون الظباء، فقد رايتها بعيني تباع وتشترى في شارع الرشيد ولا يزال البغداديون يذهبون لصيد الغزال في نواح كثيرة منها سامراء. وعفا الله عن السيد حسين النقيب الذي مناني بالخروج لصيد الغزال ثم اعتذر بشواغل مجلس النواب
ومن تقاليد أهل بغداد أن يربّوا الظباء في دورهم كالذي رأيت في دار الشاعر ناجي القشطيني، أراني الله وجهه الأصبح في خير وعافية!
ومن أطعمة أهل بغداد لحم الغزال، وقد أكلته بشهية في دار ظمياء أعزها الحب!
والبصريون يرون الغزلان حين يشاءون، فمنها أسراب تمرح وتلعب بالقرب من بلدهم الجميل
والشاميون يعرفون الغزلان معرفة أكيدة لأنها تجاورهم في الصحراء الشامية
أم المصريون فهم يعرفون الظباء، وهي كثيرة جداً في الصحراء الغربية، وهم يطاردونها من وقت إلى وقت، وقد حدثنا الأستاذ محمد خالد بأنه اشترك في مطاردة غزال، وتلك إحدى الأعاجيب، فقد كنت أحسبه من طراز الأستاذ أحمد أمين
وكلمة (طراز) تدخل في الموضوع، فهي في الأصل علم الثوب، كما يعبر صاحب القاموس، ثم نسى ذلك الأصل وصار الغرض هو المماثلة في الشمائل والخصال ومن حقنا أن نقول: إن أحمد أمين ينسج على منوال طه حسين في نكران الحقائق
وليس لأحد أن يعترض بأن المنوال لا تراه العيون إلا في قليل من الأحايين، لأننا حين نعبر بمثل هذه العبارة لا نفكر في ثوب ولا منوال، وإنما نسوق التعبير حيث وقع في كلام الأسلاف ونفهم المراد منه بلا عناء
وفي اللغة العربي تعابير لا نكاد نفهم الغرض منها بالتحديد، ولكنها في غاية من الانسياغ
ومن شواهد ذلك ما وقع بين الأستاذ سعد اللبان والدكتور هيكل باشا في مجلس النواب. فقد هجم الأستاذ سعد اللبان على إحدى كليات الجامعة المصرية هجوماً عنيفاً، فقال الدكتور هيكل باشا: هذا كلام يلقى على عواهنه!
ومن المؤكد أن أكثر النواب لم يفهموا المراد بالعواهن، ولكن هذه العبارة وقعت منهم موقع القبول، لأنها خير عبارة تقال في ذلك المقام الدقيق، وهي على عنفها لا تجرح الذوق
واعترض الأستاذ أحمد أمين على قولهم: (فلان يعرف من أين تؤكل الكتف) وعدها عبارة بدوية لا يجوز لحضري أن يدونها في مقال أو ينطق بها في حديث
والظاهر أن الأستاذ أحمد أمين يظن أن أهل الحضر لا يأكلون الحُملان إلا مقطعة بأيدي القصابين فهو لذلك يتوهم أنهم لا يحتاجون إلى الاحتراس عند أكل الكتف
فليعرف (إن شاء) أن الناس لا يزالون يدركون هذه العبارة في أصلها الأصيل، وقد رأيت الرجل البدوي الحضري عبد الستار بك الباسل يداعب أحد ضيوفه بتسليط تيار الكتف عليه، وهو تيار قد يسلَّط مرة على الأستاذ أحمد أمين فيعرف من أين تؤكل الكتف!
من حق أحمد أمين أن يرى الناس جميعاً مقلدين في الأخيلة والتعابير، لأنه من أبعد الناس عن مواجهة الحياة، وأكاد أجزم بأنه لا يساير الحياة الأدبية والفنية والاجتماعية إلا عن طريق القراءة أو السماع، وإلا فمن الذي رآه مرة يشهد رواية سينمائية أو يشهد حفلة من حفلات التمثيل؟
وأعيذكم أن تظنوا أني أتجنى على الأستاذ أحمد أمين، فهذا الرجل على فضله قليل الخبرة بألوان الوجود، وقد تقع منه أحياناً عبارات تضحك الحزين. أليس هو الذي يقترح أن (نميت العَرار ونحيي الزنبق، ونميت الكمأة ونحيي ألمانجو، ونميت القوس ونحيي القنابل، ونميت اُلخرثي ونحيي ما يدل على الموبليا)؟ ذلك كلامه بالحرف، وهو يدعو إلى النظر في الألفاظ المتماثلة أو المتقاربة، لنميت القديم ونحيي الجديد، ومن كلامه هذا تفهمون أن (الكمأة) نوع من الفاكهة، بدليل أنه يقابلها بألمانجو!
فهل سمعتم أن الكمأة اسم فاكهة قبل أن يحدثكم بذلك الأستاذ أحمد أمين؟
إن الكمأة معروفة لأهل الشام والعراق، ومعروفة لبعض أهل مصر من الذين يتصلون بالأُسر السورية واللبنانية والفلسطينية. وقد عرفتها في القاهرة قبل أن أعرفها في بغداد، فكيف جاز للأستاذ أحمد أمين أن يظنها من الفواكه؟ تلك والله إحدى الغرائب!
أما بعد، فقد كنت أرجو أن يترفق الأستاذ أحمد أمين بسمعته الأدبية فلا يعرَّضها لهذه المزالق، وكنت أتمنى أن يكف عن السخرية من ماضي الأمة العربية، ولكنه أراد أن يمضي في العناد وفي اللجاجة إلى آخر الشوط فيزعم أن شعراء العرب وكتابهم لم يعرفوا الثورة على المظالم، ولم يعرفوا تحليل المقاصد والأغراض في الشعر والإنشاء
وذلك كله ظنٌّ وترجيم، وسنحاسبه أشد الحساب، عساه ينتهي عن اللجاجة والعناد
وإني لواثق بأنه يطرب لهذه المباحث التي تكشف له آفاقاً من الحقائق الأدبية، وتعينه على فهم ما خفي عليه من مكانة العرب في التاريخ
(للحديث شجون)
زكي مبارك