مجلة الرسالة/العدد 323/جناية احمد أمين على الأدب العربي
→ من ذكريات الحرب الماضية | مجلة الرسالة - العدد 323 جناية احمد أمين على الأدب العربي [[مؤلف:|]] |
المعاملات في الإسلام ← |
بتاريخ: 11 - 09 - 1939 |
للدكتور زكي مبارك
- 14 -
أبدأ حديث اليوم بالاعتذار لفريق من القراء يريدون أن نكثر من الشواهد كما صنعنا عند الكلام عن إحساس ابن خفاجة بالطبيعة والوجود، فالنضال بيني وبين حضرة الأستاذ أحمد أمين يمس شؤوناً لا تهم غير الخواص، وهم في غنى عن سوق الشواهد وضرب الأمثال
أما الأديب الذي كتب من القدس ولم يذكر اسمه ولا عنوانه فأنا أرجوه أن يعفيني من إثبات رأيه في الأستاذ أحمد أمين لما فيه من إيذاء. وأما رأيه في فلا يحتاج إلى إثبات؛ ولعله استقاه من كتاب (ليلى المريضة في العراق) وأنا راض عما شهدت به على نفسي في أكثر مؤلفاتي. وكنت أستطيع أن أقول إن العيوب التي أضفتها إلى نفسي ليست صحيحة، وإنما جعلت نفسي صورة إنسانية أدرس على حسابها ما في الناس من محاسن وعيوب، ولكني في الواقع لا أهتم بأقاويل الناس ولا أقيم وزناً للأراجيف، لأني مؤمن أصدق الإيمان بأن الناس لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، فهم أعجز من أن ينفعوني أو يضروني؛ وأنا فوق ذلك أعرف أن الأساس السليم هو خلوص النية، وسلامة ما بيني وبين فاطر الأرض والسماوات، وهو عز شأنه يعلم ما بينه وبيني، ولولا فضله ورحمته وستره لكنت اليوم من الهالكين
كم تمنيت لو استطعت شكر الله على نعمه وآلائه، ولكن هيهات، فلله نعم تجل عن الحمد والثناء، ومن تلك النعم نعمة الرضا المطلق بما كتبه وقضاه، فما أذكر أبداً أني جزعت أو ضجرت من مكروه يلم بي. وهناك نعمة أعظم تفضل بها علي الله، وهي الأيمان بأنه تباركت أسماؤه هو وحده القادر على الضر والنفع، فما خشيت غيره ولا رجوت سواه
فأن كنت صادقاً فعند الله جزاه الصدق؛ وان كنت كاذباً فالله وحده هو الذي يملك ستر العيوب، وغفر الذنوب، وعليه أعتمد في نجاتي من شر نفسي
مولاي أنا أحب أن أكثر من الثناء عليك، ولكني أخشى الوقوع في مزالق الرياء، فارض مني بالقليل يا من لا يعرف القليل في الإحسان إلى العاصين والطائعين
إن الكافرين بنعمتك لم يفتهم برك وإحسانك، فكيف يفوتني لطفك وعفوك وسترك وأنا ف سريرة نفسي من أخلص عبادك
مولاي، إليك الأمر كله فافعل ما تشاء، ولن تراني إلا حيث تحب في جميع الأحوال
أرجع كارهاً إلى محاسبة الأستاذ أحمد أمين:
صرح الأستاذ بأن الدين له أثر كبير في الأدب (لأنه من ناحية مصدر كبير من مصادر الإلهام الأدبي، ومن ناحية أخرى كان الأديب ذا دين وثني جامد تأثر أدبه بعقليته فخرج مثله مادياً جامداً، وإذا كان دينه ضيق الخيال لاصقاً بالحجارة والأرض كان خياله في أدبه غالباً كذلك، لأن نفسية الإنسان وعقليته وحدة لا تتجزأ، وان اختلفت مناحيها ومظاهرها. من أجل هذا نرى الأدب الجاهلي في الكثير الأغلب مادياً لا معنوياً، ولا روحياً)
ذلك كلام أحمد أمين. وهو بهذا الكلام يضع قاعدة أدبية: هي تأثر الأدب بالدين
فدين الجاهلية في رأيه دين أرضي وضيع، وكذلك كان أدبهم، لأن الأدب من صور الدين
ولكن العرب لم يطل عهدهم بالوثنية فقد أنعم الله عليهم بالإسلام، وهو دين سماوي رفيع، فكان الواجب أن يتأثر أدبهم بذلك الدين فيسلم من تلك الصبغة الأرضية الوضيعة
منطق الأستاذ أحمد أمين يقضي بذلك
ولكن الرجل يصر على رأيه في تحقير العقلية العربية فيجزم بأن الشعر العربي لم يتغير بعد الإسلام، وإنما ظل في أسر العقلية الجاهلية
فهل يكون معنى ذلك أنه كان مخطئاً حين قال بتأثر الأدب بالدين؟
أم يكون معنى ذلك أن الإسلام لم يستطع أن يمحو تلك العقلية الجاهلية
لا هذا ولا ذاك
فالعرب في جاهليتهم تأثروا بالوثنية، وتأثروا في إسلامهم بالإسلام، ولكن أحمد أمين يمزح في مواطن لا يقبل فيها المزاح
وإلا فمن الذي يقول بأن الشعر العربي لم يتغير ولم يتطور بعد ظهور الإسلام؟
هل كان في الجاهلية شاعر كأبي العتاهية في الزهديات؟
هل كان فيهم شاعر كالشريف الرضي في الحجازيات؟
هل كان قيهم شاعر كأبي نواس في الخمريات؟
كان فيهم شاعر كابن المعتز في التشبيهات؟ هل كان فيهم شاعر كابن الفارض في الوجدانيات؟
هل كان فيهم شاعر كابن خفاجة في الورديات؟
هل كان فيهم شاعر كشوقي في التاريخيات؟
هل كان فيهم شاعر كحافظ في الاجتماعيات؟
وهل استطاع الشعراء الجاهليون أن يصنعوا ما صنع الشعراء الإسلاميون في تنويع القوافي والأوزان؟
هل عرفوا الابتكار الذي ابتدعه الأندلسيون والمصريون والعراقيون؟
هل عرفوا تسجيل التاريخ بالشعر كالذي صنعه بعض شعراء مصر والأندلس؟
إن أحمد أمين يشهد على نفسه بما لا أدري حين يحكم بأن الشعر الإسلامي صورة من الشعر الجاهلي؛ وإلا فإن ضاق ذرعاً بهذا الوصف فليدلنا على باحث يؤيده في هذا الرأي الغريب
وهل في الدنيا كلها رجل يجرؤ على القول بأن الشعر الإسلامي في مختلف عصوره ليس إلا نسخة ثانية من الشعر الجاهلي؟
إن احمد أمين افتتح مقالاته في مجلة الثقافة بتلخيص كتاب الموشي، وهو كتاب يشرح أفانين الشعراء في وصف حياة القصور وملاعب الترف واللين
فهل كان في شعراء الجاهلية من يعرف تلك الأفانين؟
ومن هم العرب بعد الإسلام في ذهن أحمد أمين؟
يجب أن نعرف أولاً من هم العرب في ذهن هذا (الأديب) فظاهر كلامه يدل على أنهم سكان البوادي العربية، وسكان البوادي يتطورون تطوراً بطيئاً جداً، وقد تظل أحوالهم متقاربة الأشكال والأوضاع ألوفاً من السنين. ومع ذلك لا يمكن القول بأن الإسلام لم يغير سكان البوادي ولم ينقلهم من حال إلى أحوال في العقائد والتصورات، لأن الإسلام رجّ البوادي العربية رجة عنيفة وحول سكانها إلى رجال مؤمنين يتابعون ما في القرآن من صور النعيم والعذاب. ولو أن أشعار سكان البوادي دُوِّنت وعرفت مغازيها ومراميها لاستطعنا أن نعرف إلى أي حد أثر الإسلام في تلوين الصور الشعرية عند سكان البوادي العربية ولكن أحمد أمين قد لا يرضى بظاهر كلامه فيقول إن العرب بعد الإسلام هم الأمم التي تكلمت لغة القرآن في الشرق والغرب بعد ازدهار الحضارة الإسلامية
إن قال ذلك فقد حق عليه الخطأ فيما ادعاه من ضعف سيطرة القرآن على الأخيلة الشعرية في تلك الشعوب
إن أحمد أمين لم يدرس الشعر الإسلامي دراسة جدية، وماضيه العلمي يشهد بذلك، فأعماله كلها كانت محصورة في الدراسات الشرعية والأخلاقية، ولو شئت لذكرته بالأساس الذي أقيم عليه كتاب فجر الإسلام، فقد كان مفروضاً أن يدرس أحمد أمين تطور التأليف، وأن يدرس طه حسين تطور الأدب، وأن يدرس عبد الحميد العبادي تحول السياسة. فالرجل في نفسه وفي أنفس زملائه مؤلف لا أديب
وما يعيب أحمد أمين ألا يكون أديباً، فله مواهب في شؤون غير شؤون الأدب تعوض عليه هذا النقص. ولو وقف حياته على دراسة الفقه والتوحيد لظفر بنصيب من التفرد والتفوق
ولكن يعيب أحمد أمين أن يحاول فهم سرائر الشعراء والكتاب والخطباء، وهو ليس بالشاعر أو الكاتب أو الخطيب
وشاهد ذلك موجود: فهو يحكم بأن الشعراء لم يتأثروا بالقرآن، مع أنه لو نظر في كتب البلاغة وكتب الأدب لعرف أن تضمين آيات القرآن كان من الأغراض الملحوظة عند الشعراء، ولعرف أيضاً أن حفظ القرآن كان من الفرائض التي يتواصى بها الشعراء
لو درس أحمد أمين تاريخ الأدب لعرف أن في الشعراء من كان يقيد نفسه حتى يحفظ القرآن، ولعرف أن أبا إسحاق الصابي وهو على غير الملة الإسلامية كان يقرأ سوراً من القرآن قبل أن يسرع في النظم أو الانشاء، حتى صح القول بأن بلاغة القرآن كانت تجري على سنان قلم أبي إسحاق
ولما اتهم أبو تمام بأنه يشبه ممدوحة بأجلاف العرب ارتجل فقال:
لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلاً شروداً في الندى والياس
فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلاً من المشكاة والنبراس
وهذه البديهة تشهد بان أخيلة القرآن كانت تلاحق ذلك الذهن الفنان
واتفق مرة أن اعترض أحد الأدباء على الاستعارة في قول حبيب: لا تسقني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ماء بكائي
وأرسل خادمه يقول: إن مولاي يرجوك أن تملأ هذه الكأس من ماء الملام! فقال حبيب: قل لمولاك يتفضل أولاً بإرسال ريشة من جناح الذل!
فهل هناك أبلغ من هذه الشواهد في الدلالة على أن الشعراء كانوا يتأثرون أشد التأثر بأخيلة القرآن؟
وهنا مسألة دقيقة قد ينتفع بها الأستاذ أحمد أمين، وهي مسألة لم تدرس قبل اليوم، وسيكون لها صدىً في البيئات التي تهتم بدراسة الشعر الجاهلي
وتلك المسألة هي تأثير القرآن في الشعر الجاهلي نفسه
ولكن كيف؟ إن هذا لو صح لكان من الغرائب. وهل يؤثر القرآن في الشعر الجاهلي مع أن الشعر الجاهلي أسبق؟
نعم، القرآن أثر في الشعر الجاهلي تأثيراً شديداً فقد وضعه في الغربال ولم يستبق منه غير ما كان بلغة قريش، وهي لغة القرآن
فالأشعار الجاهلية التي شرقت وغربت بعد الإسلام هي الأشعار التي تساير القرآن من الوجهة اللغوية والنحوية، بغض النظر عما أثر من الشذوذ القليل الذي احتاج إليه اللغويون والنحويون والصرفيون
وهذا (التوجيه) الذي صنعه القرآن كانت له يد في (توحيد) اللغة العربية. فلولا القرآن لظل الشعر الجاهلي مختلف الصيغ والأوزان والأشكال، ولكان باباً إلى (بلبلة) الذوق العربي باختلاف اللهجات والأذواق
فالقرآن هو الذي ساق العرب على اختلاف قبائلهم ومواطنهم ولهجاتهم في تيار واحد. وهو الذي جعل من الشعر الجاهلي سناداً لما فيه من ألفاظ وتعابير، بحيث لم يبق من ماضي الجاهلية غير ما أراد به القرآن أن يعيش
فلا تقل يا أحمد أمين أن الشعر الجاهلي قد استبد بالعقلية الإسلامية، ولكن قل إن الإسلام هو الذي استبد بالأشعار الجاهلية وصيرها من شواهد القرآن
وهناك مسألة أدق، وقد ينتفع بها من يؤرخون الأدب العربي، وهي سبق القرآن إلى غزو الأذواق والقلوب في البلاد التي فتحها المسلمون. فالمعروف عند المؤرخين أن الحياة الدينية كانت تسبق الحياة الأدبية في كل بلد يدخله الإسلام، لأن الإسلام شريعة مدنية واجتماعية، قبل أن يكون شريعة أدبية وذوقية. فالفرس والهنود والمصريون والأندلسيون سمعوا القرآن قبل أن يسمعوا الشعر الجاهلي. وكذلك كان القرآن أسبق إلى تلوين ما صار عند تلك الأمم من شمائل وأذواق
وأحمد أمين صرح بأن الأدب يتأثر بالدين فكيف جاز عنده ألا يتأثر السلمون بأدب القرآن وهم يقرءون سوره في الصلوات ويتدارسونه صباح مساء؟
إن البيت الواحد من الشعر قد يؤثر في نقل الذوق من وضع إلى وضع، فكيف يجوز أن يحرم القرآن هذه المزية وهو يحمل مئات من الأخيلة والتعابير والمعاني؟
إن القرآن هو أساس ما عرف المسلمون من المذاهب التشريعية والفلسفية، وهو عندهم المرجع في الشواهد اللغوية والنحوية والبلاغية، فكيف يمر سحره القاهر بدون أن يؤثر في أذواقهم الأدبية؟
أليس من العجيب أن يقع هذا القول من أحمد أمين وهو يعرف أن وزارة المعارف المصرية توجب على معلم اللغة العربية أن يحفظ القرآن؟
إن كلية الآداب التي يتشرف بالانتساب إليها أحمد أمين قد اعترفت بخطر حفظ القرآن، ورضيت بألا يكون لخريجيها حظ في تدريس اللغة العربية بالمدارس الأميرية إلا إن كانوا في الأصل من طلبة الأزهر الشريف
فما معنى ذلك؟
أليس معناه أن الأمم الإسلامية قد توارثت الاعتقاد من جيل إلى جيل بأن القرآن له تأثير شديد في تكوين الذوق اللغوي والأدبي؟
ألم يسمع أحمد أمين بأن الأستاذ مكرم باشا حفظ القرآن ليروض لسانه وذوقه على الفصاحة العربية؟
ألم يسمع أحمد أمين بأن الدكتور يعقوب صروف كان يملك خمس نسخ من القرآن ليستطيع الأنس بالبلاغة القرآنية في كل وقت؟
ألم يسمع أحمد أمين بأن من المبشرين من عاش متنكراً في الأزهر بضع سنين ليتذوق بلاغة القرآن لكي يتسنى له أن يواجه الجماهير بلسان عربي مبين؟ ما معنى ذلك أيها الناس؟
معناه أنه صار مفهوماً عند كل مخلوق أن القرآن أس متين من أساس الفصاحة العربية، فكيف جوز القول بأنه لم يؤثر في أخيلة الكتاب والشعراء والخطباء؟
أقول هذا وذهني خال خلواً تاماً من العصبية الدينية، فليس من همي أن أخلق أصدقاء للقرآن، وان كان ذلك مما يشرفني لو تساميت إليه، وإنما أنا رجل أشتغل بتدريس اللغة العربية، وفي تلاميذي مسلمون ونصارى ويهود، ومن واجبي أن أرشدهم جميعاً إلى الحرص على تذوق البلاعة القرآنية، لأنها بلغت الغاية في الدقة والعذوبة والجمال
وأريد أن أستقصي هذا الموضوع بعض الاستقصاء، فقد تضيق الفرص عن درسه بالتفصيل فيما بعد
إن أحمد أمين يقف عند الشعر في درس تأثير القرآن، لأن الوقوف عند الشعر ينجيه قليلاً من المعاطب، إن كان من الممكن أن يعرف سبيل النجاة بعد أن وقع منه ما وقع وهو لنفسه ظلوم
وللأستاذ أحمد أمين أن يسلك من مذاهب النجاة ما يشاء، أما أنا فسأطوقه بطوق من حديد فلا يعرف سبيل الخلاص وإن بالغ في التشكي والتوجع، واستعدى علينا بفلانة وفلان
لابد أن يكون أحمد أمين قد سمع بتأثير الإنجيل في الأدب الفرنسي، ولا بد أن يكون سمع بأن شاتوبريان تأثر في أدبه بأخيلة الإنجيل
فهل يمكن القول بأن أثر القرآن في اللغة العربية أقل من أثر الإنجيل في اللغة الفرنسية؟
إن أحمد أمين يقتل نفسه عامداً متعمداً، إن قال بذلك؟
وأتحداه أن يقول، أتحداه، أتحداه، إن وجد السلامة في غير الصمت!
اسمع أيها الصديق
إن القرآن قص على الناس أخبار الأنبياء، فهل تعرف ما ابتدع المسلمون من الأقاصيص حول الأنبياء؟
وهل تعرف كم مرة تعرض المسلمون لشرح ما في القرآن من أخبار وأقاصيص؟
وهل تعرف عدد التفاسير التي ظفر بها القرآن المجيد؟
حدثنا القرآن عن بعض أخبار يوسف مع فرعون، فهل تعرف أن هذا الحديث كان له مئات أو ألوف من الحواشي والذيول
ألا تصدق أن هذه الثروة القصصية أثر من آثار القرآن؟
وهل يعرف أحمد أمين أن جميع العلوم التي عرفها المسلمون كان لها ثمرة هي تأييد القرآن
لقد استطاع القرآن أن يؤثر في كل شيء حتى العلوم الرياضية فهي عند أهلها تأييد لآيات القرآن المجيد
والذي يراجع أحوال العرب والمسلمين في حياتهم العلمية والأدبية يراهم يدورون حول القرآن في أكثر الشؤون
وفي مطلع كل علم نرى الأبيات التي تقول:
إن مبادئ كلِّ فنّ عشرة ... الحدّ والموضوع ثم الثمرة
و (الثمرة) في أغلب العلوم ترجع إلى تأييد القرآن من الوجهات التشريعية واللغوية والعقلية. فعلوم الفقه والتوحيد والصرف والنحو والمعاني والبيان والبديع يراد بها جميعاً فهم ما يشتمل عليه القرآن من أغراض علمية أو أدبية
وقد نقدت ذلك في كتاب النثر الفني حين تكلمت عن مذاهب كتاب النقد الأدبي، ولكن ذلك النقد لم ينسني خطر الحرص البادي من المتقدمين على فهم دقائق القرآن
ومعنى هذا الكلام بطريقة صريحة أني كنت أحب أن تكون العلوم اللغوية والأدبية مقصودة لذاتها، بغض النظر عن جعلها وسيلة لفهم أسرار الإعجاز في القرآن المجيد، ولكني ما كنت أعلم أن سيجيء رجل كالأستاذ أحمد أمين يحكم بأن القرآن لم يؤثر في الحياة الشعرية، ويقول إن ما وقع من العرب لا يصح وقوعه إلا (في الطبيعة القاصرة، والملكات المحدودة) مع أن العرب قد استوحوا القرآن في جميع الشؤون وجعلوا الأدب كله وسيلة لفهم ذلك القرآن
وخلاصة القول أن حفظ القرآن وفهمه كان من الوسائل التي يتذرع بها الشعراء والكتاب والخطباء للتفوق في البيان، فكيف يجوز القول بأن الشعراء لم ينتفعوا به في تطور التعابير والأغراض؟
ولنذكر دائماً أن العرب بعد الإسلام لم يكونوا أمة واحدة، فقد انتشرت اللغة العربية في أقطار كثيرة مختلفة المشارب والأذواق، وكان المتعلمون بها يشارفون المائتين من الملايين، فهل يمكن الحكم بأن تلك الأمم جميعاً أصابها العقم فلم تنتفع واحدة منها بأسلوب القرآن؟
وهل هذا يعقل إلا عند من يسارعون إلى ارتجال الأحكام بلا مراجعة ولا استقصاء؟
إن مؤرخي الأدب الفارسي ومؤرخي الأدب التركي نصوا على أن القرآن أثر في هذين الأدبين تأثيراً بليغاً، فكيف يجوز ألا يتأثر الأدب العربي بالقرآن وهو به ألصق، واليه أقرب، ومن أخيلته وألفاظه وتعابيره يستمد القوة والحيوية؟
أنا لا أستسيغ القول بأن الأدب العربي وصل إلى ذلك الحد من الجمود في الاستفادة من القرآن مع أنه استفاد من كل ما وصل إليه من ثمرات الآداب الأجنبية، وقد استطاع بالفعل أن يؤرخ الحضارة التي عرفها في الشرق والغرب، بحيث صار مرآة لما رآه العرب في الممالك الأسيوية والإفريقية والأوربية
ولا ينكر ذلك إلا رجل يكابر فيما تلمسه الأيدي وتراه العيون
وأختم كلمة اليوم بعرض فكرة لا يختلف فيها اثنان
وتلك الفكرة هي تأثير القرآن في وحدة اللغة العربية، فبفضل القرآن امتدت الحياة في لغة قريش نحو خمسة عشر قرناً. ولو أن العرب خلت حياتهم من الدعوة الإسلامية لكان من المستحيل أن يكون في الدنيا إنسان يفهم ما أثر من لغة قريش قبل الإسلام بقرن أو قرنين
وإنما استطاع القرآن أن يحفظ وحدة اللغة القرشية، لأنه كان مفهوماً في كل أرض أنه نموذج عال للبلاغة العربية، فكانت البلاد الإسلامية ترجع إليه في صيانة لسان العرب من البلبلة والانحراف.
والكتاب الذي تسود لغته فيما اختلف وائتلف من الأقطار الإسلامية لا يبقى بينه وبين أذواق الشعراء حجاب
وماذا يريد هذا الأستاذ المفضال؟
أيريد أن يُلغي الناس عقولهم ليصدّقوا أحكامه الخواطئ على ماضي الأدب العربي؟
إن جميع القراء قد اتفقوا على أن قدمه زلت وهو يحاول تزهيد الجمهور فيما ورثناه عن الآباء والأجداد من الثروة اللغوية والأدبية. ولو أنني استبحت نشر ما سمعت من أصدقائه الأوفياء في نقد ما انزلق إليه، لمادت الأرض تحت قدميه، وعرف أنه يتعلق بخيوط الأوهام حين يظن أن في القراء من ينظر إلى أحكامه الأدبية بعين الاستحسان
إن الأستاذ أحمد أمين يعاني اليوم أزمة أخلاقية، لأنه يعرف أن الاعتراف بالخطأ من مكارم الأخلاق. فإن لم يعترف بخطئه طائعاً فسيتولى القراء هدايته إلى الحق. وهو يجني على نفسه إن كان يتوهم أن قراءه ليس فيهم من ينصب الميزان للتمييز بين الحقائق والأباطيل
وسنرى في المقال المقبل شواهد جديدة من أحكام ذلك الرجل المفضال.
زكي مبارك