الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 322/مجمعنا اللغوي

مجلة الرسالة/العدد 322/مجمعنا اللغوي

بتاريخ: 04 - 09 - 1939


ماذا يصنع. . . وماذا أثمر؟

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

عرفت الدكتور أحمد عيسى بك لا من طبه - لا جعلت حاجتي إليه، على حذقه وأستاذيته فيه - بل من أدبه وعلمه. وقد كانت له مشاركة في سياسة الأحزاب جنت عليه فيما أعلم ولم يستفد منها إلا العناء الباطل، وإلا الاضطهاد بعد أن دالت دولة الحزب الذي دخل فيه. وما كان له قط عمل في السياسة وإن كان قد حسب من رجالها - وحوسب على ذلك - في وقت من الأوقات. وإنما كان همه العلم والبحث في اللغة، ومازال هذا همه ووكده. وقد زارني مرة منذ بضعة شهور أيام كان الكلام يدور في تخليد ذكرى المرحوم الملك فؤاد، وقال لي: إنه يرى غير ما يرى الناس في وسيلة هذا التخليد، فإنهم يرومون إقامة تمثال هنا وهناك، ولكن الملك فؤاداً كان عالماً محباً للعلم والعلماء، فالأولى أن يخصصوا المال الذي يجمع لنشر الكنوز العربية التي لا تجد لها ناشراً كما فعلت أم المستشرق جيب الكبير. وأراني ديوان شعر عربي طبع في أوربا وعلى الصفحة الأولى منه أنه مطبوع من المال المجعول لتخليد ذكرى هذا العالم المستشرق. وهذا الاقتراح من الدكتور عيسى بك يريك نزعته

ومن أغرب ما سمعت منه في ذلك اليوم أنه رد نحو ألفي كلمة من اللغة العامية إلى أصولها العربية، ورتبها وبوبها وعرضها على مجمعنا اللغوي ليطلع عليها ويطبعها وينشرها إذا وافق. ولكن المجمع آثر أن يهمل الأمر ولم ير أن يصنع شيئاً - على عادته -

وقد عنيت بهذا الخبر لأني أنا أيضاً جمعت طائفة من الألفاظ التي يظنها الكثيرون عامية وهي صحيحة وردت في كتب اللغة وكتب الأدب. وكان الباعث لي على العناية بهذا أني أؤثر أن أستعمل اللفظ المأنوس وأستثقل الحوشي والمهجور، فغايتي شخصية وغايته علمية بحت. وأتيحت لي فرصة فأذعت حديثاً عن العامية والفصحى أشرت فيه إلى بحث الدكتور عيسى بك ورجوت أن ينفض المجمع عنه هذا الغبار الكثيف وان يولي بحث الدكتور عيسى بك شيئاً من العناية التي يستحقها، ولكني احسبني ناديت غير سميع فما عبأ المجمع بالرجل أو كتابه شيئاً

وقد دافعت مرات عن هذا المجمع بمقالات شتى لي في (البلاغ) وفي المجالس وفي لجان شهدت اجتماعها وسمعت فيها حملات شديدة عليه، فلست أتهم باللدد في خصومته حين أتساءل عن هذا المجمع ماذا تراه يصنع. . . إن كل ما أراه يصنعه هو إجازة صيغ لا يحتاج جوازها إلى إذن خاص منه، ووضع ألفاظ لمصطلحات العلوم والفنون سبقه الكتاب والمترجمون والمعلمون إلى خيرها ولا خير في باقيها، ونشر مجلة لا انتفاع لأحد بها، وطبع معجم الدكتور فيشر أو هو يطبعه ولا فضل للمجمع في هذا. وقد سألت مرة أحد أعضاء المجمع عن هذا المعجم هل اطلعتم عليه وراجعتموه واقتنعتم بصحته فكان الجواب السريع: (لا)

قلت ولكن المجمع ينشره فهو يعد مسئولاً عما فيه، وعسى أن يكون فيه خطأ أو اعتساف أو شطط فمن يحمل تبعة هذا غير المجمع الذي ينشره والذي يعتقد الناس - ولهم العذر - أنه أقره. فكان جواب عضو المجمع أن ترحم على الأستاذ السكندري لأنه كان هو الوحيد الذي اجترأ على الاعتراض على نشر هذا المعجم بغير مراجعة أو بحث كاف

ولست أحاول أن أغض من قدر الدكتور فيشر أو أن أنتقص من قيمة معجمه الذي يقال إنه قضى أربعين عاماً في وضعه فما اطلعت عليه - كما لم يطلع المجمع - وإنما قرأت وصفاً له في الصحف ورأيت أمثلة لما يقال إنه فيه وهي أقل وأضأل من أن تجيز لي الحكم عليه أو الذهاب فيه إلى رأي معين. وإنما ذكرت هذا الحديث على سبيل التمثيل لطريقة المجمع في العمل ومبلغ تقديره لتبعته

وقد قيل لي إن خير ما ينتظر من المجمع هو وضع معجم حديث لهذه اللغة وإن هذا عمله الأكبر؛ وقال لي غير واحد من أعضائه ومن غيرهم إنه معني بدرس اللهجات العامية في أقطار العربية مثل عنايته بوضع الألفاظ لما لا لفظ له في العربية وإن هذا وذاك بسبيل مما يجب أن يضطلع به من وضع المعجم العربي. ولكني لا أراه يضع معجماً بل أراه يطبع معجماً تاريخياً للألفاظ وضعه الدكتور فيشر المستشرق. ولا أراه يصنع شيئاً يذكر في وضع الألفاظ للجديد من المعاني والتعابير؛ ولو أراد كاتب أو مترجم أو مؤلف في علم أو فن أو أدب أن ينتظر حتى يعد له المجمع ما عسى أن يحتاج إليه لما جنى سوى طول الرياضة على الصبر. ولا أراه يدرس اللهجات العامية بل أراه يرفض أن ينشر بحثاُ للدكتور عيسى بك في العامية رد به آلافاً من ألفاظها إلى أصولها؛ فهل كان ينبغي أن يكون الدكتور عيسى بك مستشرقاً أولاً وعضواً في المجمع ثانياً ليجامله الأعضاء بنشر كتابه بلا بحث أو نظر أو تفليه. . .

ورحم الله الفيروزبادي وابن منظور وابن سيدة وأمثالهم، فما كان أحدهم مجمعاً طويلاً عريضاً ذا أعضاء من الغرب والشرق ومال تكفله له الدولة

وعسى أن يتوهم البعض أني أحاول أن أحمل المجمع على نشر هذا البحث للدكتور عيسى بك، ولهذا أقول إن هذا ظن لا محل له فقد نشر الدكتور كتابه وانتهى الأمر ولا حاجة به إلى معونة المجمع. وأقول أيضاً إن الدكتور الفاضل ما كان يبغي أجراً على عمله أو منفعة أخرى يصيبها من وراء ذلك وإنما رأى أن المجمع أليق جهة بنشر كتابه لأن بحثه يعد بعض عمله

سمعت مرة من رجل مسئول - أو كان من المسئولين يومئذ - وقد قال لمسئول آخر إنه يرى إنشاء مجمع أدبي لخدمة الأدب لا اللغة وحدها كما يصنع المجمع القائم، فقيل له إن التريث واجب في إنشاء هذه المجامع فقد أنشأت الدولة مجمعاً للغة العربية وكان الأمل فيه كبيراً فمضت سنوات طويلات وهو لا يصنع شيئاً يستحق الذكر أو يستحق به ما أنفق عليه من مال الدولة وهذه تجربة لا تشجع على المضي في إنشاء المجامع

فأما إنشاء مجمع حكومي للأدب فقد كنت لا أرى رأي صاحب الاقتراح فيه لأني على شعوري بحاجة الأدب إلى التشجيع وحاجة الأدباء إلى التفرغ للإنتاج أكره أن يكون للحكومة دخل في ذلك وأخشى أن يجني دخولها في هذا الأمر على الأدب. فما يرجى للأدب خير إلا في ظل الحرية، والحكومات بطبيعتها نزاعة إلى السيطرة والتحكم وتسخير الأقلام لها

كان هذا هو اعتراضي على ما اقترح من إنشاء مجمع أدبي على مثال المجمع اللغوي. أما المسئولون فكانوا ينظرون إلى الأمر من ناحية التجربة المخفقة وما تشير به من ضرورة التريث اتقاء لبعثرة المال في غير غرض صالح، ولست أروي هذا إلا ليعرف المجمع رأي الحكومة نفسها فيه لعل هذا يستحثه قليلاً إذا كان رأي غير الحكوميين من أمثالي لا يعنيه

إبراهيم عبد القادر المازني