مجلة الرسالة/العدد 322/كتاب الأغاني
→ أوراق مبعثرة. . . | مجلة الرسالة - العدد 322 كتاب الأغاني [[مؤلف:|]] |
نقل الأديب ← |
بتاريخ: 04 - 09 - 1939 |
لأبي الفرج الإسكندراني
رواية الأستاذ عبد اللطيف النشار
صوت
إصرفوا عني طبيبي ... واتركوني وحبيبي
جسدي راض بسقمي ... وفؤادي بالنحيف
فاصرفوا عني طبيبي
الشعر (لليلى المريضة في العراق)، وفيه لحن للجاحظ لم تدون نغمته
حدثنا الأستاذ أحمد أمين قال: إن (ليلى المريضة بالعراق) ليست إلا كناية عن الآداب العربية. فهي شخصية خيالية: كماريانا الفرنسية، وجون بول الإنكليزي. وقد تعلق بها في كل جيل كبار أدبائه، وإنما أمرضها كثرة العشاق.
قال: وقد كثرت هداياهم إليها، وكان معظم الهدايا من الأدب الجاهلي، وهو كما تعلمونه ثقيل على المعدات الرقيقة، فأصيبت بعسر الهضم، وما يتلوه من ضعف الكبد ومرض السكر وسائر الأمراض التي تحدث عنها الأستاذ العقاد في مقاله عن (مطاعم الأغنياء).
قال: وكان ممن افتتنوا بها العلامة الجاحظ الذي كاد يشفيها بطبه الناجع، وما طبه إلا العلاج بنبات الأرض التي نشأ فيها المريض، وبالإقامة مدة ما في الجو الذي كانت فيه النشأة، فاستحدث لها من ملابسات الحياة الحاضرة إلى عهده أدباً غير مخزون ولا غريب فأبلت وكادت تعود إلى عهدها من الغضارة والنضارة، حتى ابتلاها الله بطبيب اسمه خلف الأحمر فأعاد لها هدايا الجاهلية، وعاودها المرض من أجل ذلك. فلم تزل مريضة إلى اليوم.
قال: وقد وفقني الله سبحانه وتعالى إلى دواء ناجع فاعتزمت الجامعة أن تنشئ فيها كرسياُ للأدب المصري، وليلانا المريضة في العراق مصرية بلا ريب. فأعددت لها دواء من أعشاب الحياة المصرية، وبعثت إلى أخوالها في بغداد أن يرسلوها.
قال: لكن الرسول الذي بعثت به إليها تطبب وكان كرسول المتنبي الذي يقول فيه: ما لنا كلنا جوٍ يا رسول ... أنا أهوى وقلبك المتبول
كلما قد بعثت طيفاً إليها ... غار مني وخان فيما يقول
قال: وهذا الطيف المتطبب لما لقيها في بغداد استبقاها هنالك وأهدى إليها هدية من الأدب الأندلسي. ففي ذلك تقول:
اصرفوا عني طبيبي ... واتركوني وحبيبي
جسدي راض بسقمي ... وفؤادي بالنحيب
فاصرفوا عني طبيبي
وهذا اللحن قديم، كانت تقوله من عهد الجاحظ الأول، وأعادته في عهد الجاحظ الثاني؛ وكل الفارق بين الجاحظين أن أحدهما ذو لون حائل، وشق مائل، ولعاب سائل؛ وأن الثاني ذو يراع صائل، ولسان جائل. . . وقد نسيت السجعة الثالثة!
وحدثنا الدكتور زكي مبارك قال: (هذا اللحن لليلى المريضة في العراق، ما في ذلك شك، وأنا الطبيب، وأنا الحبيب؛ وإنما أرادت صرفي من الباب لكي آتي من النافذة بعد قليل، وهي القائلة على لسان عمر بن أبي ربيعه:
إذا جئت فامنح طرف عينيك غيرنا ... لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظر
ولكنني لا أنظر إلا إليها، ولا أنظر إلا وعيناي مفتوحتان إلى أقصى حد تستطيعان. وماذا علي في ذك:
يقولون لا تنظر وتلك بلية ... وما فتحت عيناي إلا لتنظرا
وفي الحق أني أهديت إليها هدية من الأدب الأندلسي وهي موشح من موشحات الهجاء فيمن يتعرضون للأدب الجاهلي. وهاأنذا أرشح نفسي لكرسي في الجامعة للأدب الأندلسي بان أسرف في مدح الأدب الجاهلي. وماذا علي في ذلك؟ أليست الأندلس قد تأثرت بالأدب الجاهلي أكثر مما تأثرت به بقعة أخرى من بقاع العروبة؟ صحيح أن أهل الأندلس كانوا مزيجاً من البربر والأوربيين والعرب؛ وصحيح أنهم كانوا يستقون أدبهم من حياتهم في مناخ بعيد عن المناخ الجاهلي، ولكن، هل الأدب أدب لغة أم الأدب أدب قوم؟ هذه هي المسألة كما يقول الشيخ عبد العزيز البشري نقلاً عن شكسبير؟
اللغة الإنكليزية في أمريكا قد طبعت العقلية الأمريكية بطابع إنكليزي. من ذا الذي يشك في ذلك؟ ولكن هل يجرؤ أمريكي أن يقول إنه أمريكي؟ أليس عليه أن يقول إنه إنكليزي وإنكليزي قبل كل شيء، وإنكليزي ثم لا شيء؟!
قال الدكتور زكي: ثم إن اللغة العربية لغة عالمية، والصفة العالمية هي أبجدية الإنسانية. فلا يكون الإنسان وطنياً إلا وفيه من الصفات الإنسانية العالمية الشيء الكثير. ثم تتفرع عن الصفات العالمية الأبجدية في حياتنا صفات القومية. فلماذا لا نقف عند الأبجدية؟ ولماذا ندرس الأدب المصري كفرع من فروع الأدب العربي ولا ندرس معه الأدب الأندلسي؟
صحيح أن الأدب الأندلسي قد ضاع معظمه إحراقاً وإغراقاً ولكن لماذا لا ندرس الأدب الذي ضاع؟ ألم أقل إن هناك نثراً جاهلياً، وإن هذا النثر الجاهلي قد ضاع، وإن علينا أن ندرس هذا النثر الجاهلي وإن كان قد ضاع؟ ألا نستطيع دراسته على طريقة المتصوفة بالتسبيح بآلائه والاكتفاء عنه بأسمائه؟
على أني سألزمهم الحجة الدامغة. . . أليس الأدب المصري هو العصر الثاني من الأدب الأندلسي؟ ألم يبدأ الأدب المصري بالأندلسيين الذين هاجروا إلى الإسكندرية، وأقام أكبرهم شأناً فيها عشرين عاماً أنشأ فيها أولى المدارس الأدبية؟ ألم يقرءوا شيئاً عن ابن زهر ومقامه في الإسكندرية أميناً لمكتبتها في نفس الوظيفة التي يشغلها الآن الشيخ بشير الشندي، والتي شغلها السيوطي مدة من الزمن؟
أو ليس ابن زهر هو أستاذ ابن قلاقس وابن الحداد والوجيه؟ ثم أليس ابن الحداد نفسه أندلسياً. . . والمدارس الدينية كمدرسة أبي الحسن الشاذلي ومدرسة أبي العباس المرسي ومدرسة الشاطبي؟ ألم يكن هذا كله هو الأساس الأندلسي الذي بنى عليه الأدب المصري، وشعراء الإسكندرية المعاصرون؟ أليسوا من نسل أندلسي؟ أليس لقب أحدهم آخر شعراء بني الأحمر؟ وأنشد
صوت
عجباً يا قوم قولوا عجباً ... جحدوا الفن وخانوا الأدبا
جعلوا جِدّيَ فيهم لعبا ... بلغوا الذروة في الصيت وما
أنصفوا الآداب في الأندلس يا أبا العباس يا مرسي ويا ... شاطبيٌ باركا نقدي ويا
سيدي موسى بن ميمون ويا ... أولياء الثغر بالله أما
تسمعون القدح في الأندلس
قال: وسيدي موسى بن ميمون كان عالماً عربياً في الأندلس، ثم صار الحاخام الأكبر للطائفة الإسرائيلية في الإسكندرية. فكيف يبدأ أستاذ الأدب المصري بتعليم الأدب المصري قبل أن أنتهي أنا من تعليم الأدب الأندلسي!
حدثنا الأستاذ ساطع الحصري بك قال: فيم يختصم هؤلاء؟ أفي دواء لمريضة عندي ولن أبعث بها إليهم؟ إن ليلى هنا وستظل ليلى هنا، فلا دواء من الأدب الأندلسي ولا من الأدب المصري ولكن من المركب العربي بمقادير ونسب. أما لهؤلاء المتخاصمين من ينشدهم شعر العقاد؟
صوت
ما في يدي منه لا عين ولا أثر ... ولي عليه مغاليق وأعيان
قال أبو الفرج: وقد انتهت الخصومة في شان كرسي الأدب المصري وكرسي الأدب الأندلسي إلى صلح عقده الأستاذان المتخاصمان، وأهم شرائطه أن يشتركا في نشر كتاب الأطباء لابن أبي أصيبعة، ففيه سير الأطباء الشعراء من الأندلسيين الذين كانوا نواة للأدب المصري في القرن السادس الهجري ثم يضيفانه إلى قائمة الكتب العشرة المختارة.
قال: ولقد نشأت عن هذه الخصومة ذيول تمت هي أيضاً بزيادة القائمة زيادة عظيمة!
بارك الله في هذه الخصومات، حتى تستمر أمثال هذه الزيادات
عبد اللطيف النشار