الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 322/رسالة النقد

مجلة الرسالة/العدد 322/رسالة النقد

بتاريخ: 04 - 09 - 1939


نظرات في كتاب

(بعث الشعر الجاهلي)

تأليف الدكتور مهدي البصير

للأديب خليل أحمد جلو

الكتاب - كما يحدثنا المؤلف - عدة فصول من كتابه (الأدب العربي قبل الإسلام) الذي نقله إلى الفرنسية وعرضه بشكل أطروحة في السوربون. فأخفق لأن المستشرقين لا يرحبون بكتاب يشيد بالأدب العربي ويحيي ما اندثر منه، فاضطر إلى تأليف كتاب في الأدب الفرنسي البحت فاطمأنوا إليه وأجازوه الدكتوراه!

والكتاب - بتعريف آخر - هو مجموع المحاضرات التي ألقاها صاحبه على طلاب دار المعلمين العالية ببغداد

والكتاب إذا أردت أن يفطن إليه أهل العراق، قلت هو كل ما ألقاه الدكتور من أحاديث في دار الإذاعة اللاسلكية في الصيف المنصرم

ولا تحسبني أيها القارئ الكريم من الكاذبين إذا تفقدته في الأسواق فلم تجده، فإن وزارة المعارف قد اشترته وهو في المطبعة بثمن يدل على عطف وتشجيع، فأنقذت صاحبه من عناء التصريف وحسرة البوار، وأخذت بما يروى: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) وهل أحد من الناس أولى من الأديب بالرحمة والإنعام في هذا الزمان!؟

إن الدكتور كان بخيلاً على أصحاب المكتبات أن يرتزقوا منه، وكان ضنيناً على القراء أن ينتفعوا به. فهل أمن النقد حين استخفى كتابه عن السوق؟ وهل اطمأنت نفسه حين فرضه على طلابه في دار المعلمين العالية فرضاً ألا تذيع نواقصه وتنشر عيوبه؟ وهل نجحت حيلته حين أذاعه في المذياع العراقي ارتجالاً ولم يسمح للصحف والمجلات أن تنشره؟

لقد خابت ظنون الدكتور، ولم يفت النقاد المترصدين أن يصمدوا له ويتناوشوه. فاليوم عليه (البعث) وعلينا (الحساب)

ولأكن عند حسن ظن الدكتور! فلست أبغي التعريض بشخصه ولا المس بذاته وهو م ذوي الماضي المجيد، ومن دعاة الحركة الوطنية، وممن صاول وقارع البغاة المستعمرين، وممن لهم كرسي رفيع في دار المعلمين العالية

اقتضى هذا الإطراء ما أعرفه عن الدكتور من ضيق الصدر بالنقد واحتباس نفسه منه سواء أكان موجهاً إليه أم إلى غيره. واقتضاه أيضاً سوء الظن بالنقاد والارتياب بما يؤاخذون به المخطئين. ألم تلاحظوا الدكتور زكي مبارك لا يفتأ يعلن صداقته وحبه لأحمد أمين في رده عليه، وبعض الناس لا يفتئون يتهمونه بالأغراض والمقاصد، بل وأشركوا معه صاحب الرسالة؟

فليعلم الدكتور - غير معلم - أني لا أضمر له كرهاً وليس لي معه مآرب، وأن الأدباء من حسناتهم النقد النزيه، ولعل ربك يريد أن يسبغ علي بعض حسناته حين قيض لي نقد كتاب (بعث الشعر الجاهلي)

أما بعد فإن كتابك يا سيدي ناقص من عدة وجوه لزم علينا تبيانها واستقصاؤها

أولاً: إنك اقتصرت في بحثك على خمسة شعراء هم امرؤ القيس، وزهير، وعمرو بن كلثوم، والحارث، وعنترة، وتركت الآخرين مقبورين لم تبعثهم. فهل أنكرتهم وشككت في تراثهم؟ وإذا كان ذلك فأين الدليل والبرهان؟ وإذا لم يكونوا من صلب بحثك فلم سميت الكتاب (بعث الشعر الجاهلي) الذي يقتضي ألا تدع ارتياباً في شاعر جاهلي ولا شكاً فيما روي عنه من قريض. هل تعتقد أن ما أغفلته حقيقة مسلم بها لا تحتاج إلى التنويه والإشارة على الأقل؟

إن الذي يطمع أن يبعث الشعر الجاهلي يجب ألا يدع شاردة ولا واردة منه إلا استقصاها وامتحنها، وإن من النقص الفظيع أن تكتفي في بحثك بخمسة شعراء. وهل تناولت غير شرح معلقاتهم كأن لم يكن لهم من دون المعلقات قصائد وأبيات أخر تحتاج إلى التدقيق والتحقيق؟!

ثانياً: لم يخطر على بالك أن تستعرض رأياً من آراء المستشرقين واستدلالات المنقبين الأثريين مثل (نولدكه) و (جويدي) وغيرهما من الذين كانوا الأساس الذي اعتمد عليه الدكتور (طه حسين) والمنبع الذي أخذ منه في إنكار الشعر الجاهلي أو الإغراق في الشك فيه. وركنت إلى المصادر العربية القديمة دون ترو واحتراس ودون جدال ولا مناقشة.

ولخصت حياة الشعراء متجنباً كل ما يدعو إلى الشك والارتياب ويعوزه التدليل والبرهان. وشرحت المعلقات ولم تر حاجة أن تستهلها ببحث يقرر أنها جاهلية وأنها ليست في مجموعها أو بعضها من انتحال الرواة أو اختلاق الأعراب، أو صنعة النحاة، أو تكلف القصاص، أو اختراع المفسرين والمحدثين والمتكلمين. وهل يصح لكاتب يريد أن يبعث الشعر الجاهلي بعد أن حامت حوله الشكوك والأوهام أن يغفل عن ذلك؟ وهل يبعث الشعر الجاهلي بسرد حياة الشعراء وشرح معلقاتهم كما يدرسها طلاب المتوسطات

ولابد أن اروي لك نماذج من بحثه لتستدل على صدق ما أقول ولؤمن أن البحث العلمي الصحيح يمقت ذلك

يقول الدكتور البصير مقرراً وجود عمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة اليشكري: (إن منابع التاريخ العربية في القرون الوسطى تذكرهما وتروي لهما. إذن فلا سبيل إلى إنكار وجودهما ولا إلى الشك في شاعريتهما) (ص 48 - 49). ويعتقد أن القارئ قد أقنعه هذا البرهان، وأنه لا يمكن أن يقال أكثر من ذلك في إثبات الشاعرين، فيصدر أمراً عسكرياً (بالشروع بالبحث حالاً) عن شرح معلقتيهما

مهلاً يا دكتور! إن قولك لا يطمئن إليه اشد الناس سذاجة حتى تنفي عن ذهنه ما أحيط به عمرو بن كلثوم من أساطير جعلته أقرب إلى أبطال القصص منه إلى أشخاص التاريخ. وحتى تقنعه بالنص التاريخي أو الأدلة المنطقية التي تقرب إلى عقله صحة ما وقع بين آل المنذر وبني تغلب من ناحية، وبين ملوك الفرس وأهل البادية من ناحية أخرى. وحتى تدحض شكوك الرواة في بعض المعلقة واختلافهم في الأبيات الأولى: أقائلها عمرو بن كلثوم، أم قالها عمرو بن عدي بن أخت جذيمة الأبرش. وأنت مضطر أيضاً، إذا أردت أن تفهم أشد الناس سذاجة، أن تعلل ما في قصيدته من تكرار في الأبيات والحروف، وشذوذ عن سلامة الطبع البدوي

وجدير بك وأنت تبحث في قصيدة الحارث التي آمنت بصحتها أن تقنع القارئ بأنها ارتجلت ارتجالاً، ولم يفكر فيها الشاعر تفكيراً طويلاً ويرتب أجزاءها ترتيباً دقيقاً.

تراني أيها القارئ الكريم أطيل عليك فيما يجب أن يتناوله الدكتور مهدي البصير في بحثه عن الشاعرين: عمرو والحارث ومعلقتيهما. ولكن الحق معي فإن كتابه يدعى (بعث الشعر الجاهلي) لا (بحث في الشعر الجاهلي)، وإن الكتاب ألقي على طلاب دار المعلمين العالية ولم يلق على طلاب المتوسطات. وإني منتقد يجدر به أن يدلي إلى الدكتور بما لاحظه من نقص وإغفال ويرشده إلى طريقة البحث العلمي الصحيح لعله ينتصح ويتلافى هذه الأغلاط

ولندع ابن كلثوم والحارث ولننتقل إلى زهير وامرئ القيس

أما زهير بن أبي سلمى فإن الدكتور لا يجد صعوبة ولا مشقة في إقرار شخصيته التي تتناقلها المصادر العربية القديمة وأشعاره التي ترويها، فيحدثنا في مستهل حديثه عن زهير: (إننا لسنا بحاجة إلى إقامة الأدلة التاريخية على أن زهير بن أبى سلمى قد وجد حقيقة وقرض الشعر) (ص 31) ثم يقتصر (على درس معلقة زهير) ويقصد بالدرس هنا تفسير الغريب من ألفاظ المعلقة وشرح بعض المعاني فقط. ولا أظنك ترميني بالغلو إذا قلت إن الذي يريد أن يبعث الشعر الجاهلي ملزم في كلامه عن زهير أن يبحث عن نسبته إلى مزينة، وإقامته في غطفان، وكونه من أسرة معروفة بقرض الشعر؛ وحظوته عند هرم، ورأي النقاد الحديثين والرواة الأقدمين فيه، وعلاقته بالإسلام مع ذكر الأدلة والشواهد التي تقنع القارئ بصحة ما يقول. وهل يثبت ما ذكره في مستهل حديثه أن قصيدة الشاعر جاهلية وأنها لزهير وأن ليس للمنتحلين يد فيها؟ وهل يصح له أن يغفل ما يتحدث به الرواة عن زهير: أنه تنبأ بالإسلام قبل البعثة، وأنه أوصى ابنيه كعباً وبجيراً أن يسلما، وأن له شعراً فيه أصول دينية إسلامية، وأن النبي رآه فاستعاذ بالله من شيطانه فانقطع زهير عن الشعر حتى مات؟

أما حديثه عن امرئ القيس فهو غاية في الظرف والفكاهة وجهل أفهام الناس. فهو يلخص تاريخ امرئ القيس تلخيصاً خالياً من كل ما ترويه الكتب العربية من أساطير وأعاجيب لينجو من عناء المناقشة ومشقة الدحض والإثبات. ثم يستجهل القارئ معرفة غير ما يروى عن الشاعر، ثم يقول: (ولا نزاع أنه (أي تلخيصه) منسجم مطرد. . وظاهر أنه لم يكن أكذوبة من أكاذيب القصاص) (ص 10)

(يتبع)

خليل أحمد جلو