الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 321/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 321/رسالة العلم

بتاريخ: 28 - 08 - 1939


الشقيقان

الإلكترون والبوزيتون أو السالب والموجب

للدكتور محمد محمود غالي

ذكرنا أن المادة مجموعة من الذرات، وأن الكهرباء مجموعة

من الذرات الكهربائية، أسماها العلماء (إلكترونات)، كتلة

الواحدة منها حوالي 20001 من كتلة أخف الذرات (ذرة

الهيدروجين)، وذكرنا أدلة حسية على وجود هذه

الإلكترونات أو الجسيمات المتناهية في الصغر. من ذلك أن

المجال المغناطيسي يجذبها كما تجذبنا الكرة الأرضية، وذكرنا

أن مسار هذه

الجسيمات يدل على أن كهربائيتها سالبة. والآن نخطو بالقارئ خطوة أخرى لنحدثه في نوعي الجسيمات الكهربائية. فكما أن العناصر المادية تبدو لنا مختلفة وفق اختلاف الذرات، كذلك الكهرباء تبدو لنا مختلفة وفق نوع الذرات الكهربائية، ففي المادة - ترى مثلا - الماء المكون الأعظم لسطح الكرة الأرضية، هذا الماء الذي يروي النبات الذي عليه نعيش، وفي المادة نرى المعادن نُكوِّن بتكييفها أعظم معالم المدنية.

وفي الكهرباء نرى نوعين مختلفين من الذرات، الذرات السالبة والذرات الموجبة، والأولى تكوِّن التيار الكهربائي وقد عرفنا أنها مكونة من جسيمات صغيرة جداً تتدفق في المادة كما يتدفق النيل في بلادنا حاملاً أمطار الحبشة سر رخائنا وأصل ثروتنا، والثانية مكونة من جسيمات صغيرة جداً تساوي كتلة الواحدة منها كتلة الأولى تقريباً وشحنتها موجبة. ولقد عكف العلماء البحث عن ماهية هذه الكهرباء الموجبة دون أن يجدوا وسي واحدة لفصل جسيماتها عن المادة التي تحملها كما حدث أن استطاع الباحثون التعرف على الجسيمات السالبة بعيداً عن المادة

حقيقة أمكن الحصول، داخل أنابيب التفريغ الكهربائي على تيارات موجبة نعني تيارات تسير من القطب الموجب إلى القطب السالب، ويصح تسميتها الأشعة الموجبة ولكن اتضح من تعيين كتلة وحدات هذه الأشعة أنها كتلة ذرات الغاز المتبقي في هذه الأنابيب، بحيث أن هذه الذرات تتكون من ذرات الغاز بذاته، ولا تمثل الذرات الكهربائية الموجبة، وهكذا اعتقد الكثير أن الكهربائية السالبة هي وحدها التي تظهر على شكل إلكترونات حرة، بيد أن الكهربائية الموجبة لا تنفصل عن المادة وتكون جزءاً منها.

وعندما أمكن لمليكان العالم الأمريكي المعروف أن يحصل في سنة 1907 على إلكترون حر واحد ويتأكد العلماء كلهم معه كما سيعرف قريباً قارئ الرسالة أن هذا الذي حصل عليه هو ألكترون حر واحد ليس باثنين أو بثلاثة - زاد تعطش العلماء إلى العثور على أثر جسيمات الكهربائية الموجبة حرة طليقة، ومرت السنون طويلة منذ حادث (مليكان) دون أن توجد مناسبة علمية واحدة استطاع الباحثون فيها أن يحصلوا على شقيق الإلكترون التائه كأنه لم يكن من أبناء هذا العالم الذي نعيش فيه

وشاءت الظروف أن يكون كشف الذرة الموجبة في المعهد ذاته الذي أحرز فيه (مليكان) نجاحه المنقطع النظير، وفي المعهد الشهير الذي يديره (مليكان) في باسادينا بكاليفورنيا كشف (أندرسون) حديثاً الذرة الكهربائية الموجبة، هذه الذرة التي أسماها العلماء في بادئ الأمر (البوزيترون) أي الذرة الموجبة والتي فضّل (بيران) شيخ علماء السوربون أن يحذف الراء من هذه التسمية ويطلق على الذرة الموجبة (بوزيتون) وذلك في كتاب (حبيبات المادة والضوء) ولقد كان هذا الكشف من ناحية أندرسون نتيجة لدراسة خاصة بالأشعة الكونية التي كتبنا عنها أربع مقالات بالرسالة وألقينا محاضرتين عنها هذا العام إحداهما في الجمعية الطبية العلمية بكلية الطب، والأخرى في جمعية

المهندسين الملكية. والظاهر أن جزءاً هاماً من هذه الأشعة الجديدة على معارفنا يتكون من الذرات الكهربائية الموجبة كما أن لهذه الأشعة قوة اختراق عجيبة بحيث تستطيع عندما تتصادم مع المادة أن تخرج منها الذرات الموجبة التي اتضح أن كتلتها تعادل كتلة الإلكترونات ذرات الكهربائية السالبة.

ولقد استطاع الباحثون باستعمال أشعة جما الراديومية أن يحصلوا على البوزيتون. وهكذا اتضح أن عملية إخراج الذرات الموجبة من المادة أصعب بكثير من إخراج الذرات السالبة، هذه الذرات الأخيرة تظهر في الأحوال العادية كجسيمات حرة، فهي التي تحدث كل الظواهر الكهربائية المعروفة بالظواهرالإلكترونية التي تعد من بينها الأشعة الكاثودية وتعد من بينها كل هذه الإلكترونات المهاجرة والسريعة التي تكون الأساس في فن الراديو حيث تعد هجرة الإلكترونات في الفراغ من سلك (الأمبول) حتى (الأنود) العمل الأساسي في نجاح هذا الفن

على أن معرفة هذه الحالة الذرية للكهرباء التي ابتدأت بمعرفة الإلكترون وانتهت بمعرفة شقيقه (البوزيتون) وفصلهما عن المادة وقياس كتلة كل منهما، كل هذا صحح في الأذهان الصورة الحقيقية التي عليها ظاهرة الكهرباء، وبعد أن كانت التيارات الكاثودية معتبرة عند العلماء حالة خاصة لظاهرة الكهرباء، فهم الباحثون أن الهجرة الحرة للجسيمات الكهربائية هي الحالة العامة الطبيعية، فالإلكترون مهاجر حر يسافر في كل مكان وفي أي اتجاه بسرعة كبيرة تعادل سرعة الضوء، وما المادة عندما تجري الكهرباء فيها إلا وسط مقاوم لطبيعتها الحرة، وسواء اعتبرنا (الأمبول) للفرغة مكاناً تسبح فيه الكهرباء أو اعتبرنا الأسلاك النحاسية مكاناً تروح وتغدو فيه، فالكهرباء في الحالتين ظاهرة واحدة. . . الكهرباء شخصيات مهاجرة وعوالم متنقلة، وليس ثمة فارق بين هجرتها في الأنابيب المفرغة وهجرتها في الأسلاك إلا أنها في الأخيرة تعمل لها طريقاً بين ذرات المادة المتراصة في هذا السبيل ما نسميه المقاومة الكهربائية

عندما تحادث من القاهرة صديقاً لك بالإسكندرية وتستمر المحادثة بينكما ست دقائق في المساء كما هو المعتاد، فإن كل لفظة تسمعها تُترجم في الواقع من بلايين البلايين من الشخصيات المهاجرة في السلك النحاسي الذي مدّه العمال بين العاصمتين. عندما تقول لصديقك في التلفون (كيف حالك) فقد حدث في هذه اللحظة من جراء صوتك بضع مئات الآلاف من الذبذبات التي تمثل صوتك والتي يمكن تسجيلها والتي كان لها أثر على التيار الكهربائي بينكما، وفي كل حرف نطقت به وقعت حرب عوان لا تقارن بها مواقع فردان والمارن، فإن ملايين الملايين من المهاجرين كانت تدفع طريقها بصعوبة وسط ملايين ملايين الذرات المادية كجيش محارب اضطر أن يجتاز صفوف العدو أو أن يخترق مدينة مزدحمة بالسكان وكان لا بد له في الحالين من مجهود مضنٍ قبل أن يكون قد اخترق كل ما أمامه

هذه العلاقة بين عدد المهاجرين وشكل الذبذبة ثابتة لدرجة أنه أمكن التوسع أخيراً في طريقة نقل المكالمات التليفونية، بحيث أنه يمكن الآن على سلك واحد أن يتكلم حوالي 350 متكلما في وقت واحد بحيث يمكن في الحال تحليل الأصوات أو بالأحرى الذبذبات عند خروجها من السلك الذي يضمها جميعاً فيسمع كل متكلم صاحبه في الوقت ذاته الذي حدثت فيه المكالمات جميعاً، وقد تمت مثل هذه الخطوط بين كثير من البلاد الكبيرة نذكر منها على سبيل المثال الخط الرئيسي بين لندرة وبرمنجهام وبين هذه ومانشستر. وقد قدر العلماء أنه في الأحوال العادية يهاجر في واحد على الألف من الثانية حوالي كانتيليون من الإلكترونات

ولقد درس العلماء ما يحدث في التوصيل الكهربائي وكشفوا ظواهر غاية في الأهمية، وعرفوا ما ينتج من ضعف المقاومة الكهربائية عند تبريد الأسلاك الموصلة تبريداً بلغ في هذه التجارب درجة الهواء السائل، وقد وجدوا أن التيار الكهربائي يستمر عند هذه الحالة عدة ساعات دون أن يُغذّي الأسلاك التي يولد التيار فيها أي منبع كهربائي، طيلة هذه المدة، وفي حلقة معدنية محاطة بهيدروجين سائل كون الباحثون بطريق التأثير تياراً كهربائياً، وذلك بتقريب مغناطيس من الحلقة؛ ومن جامعة ليد الشهيرة نقل الباحثون بالسكك الحديدية الوعاء المحتوي على الحلقة إلى جامعة أيترخت حيث اتضح بواسطة الجالفانومتر أن التيار المتكون بالتأثير لا زال موجوداً وأن الإلكترونات لا زالت تدور دورانها في الحلقة ولعل ذلك راجع إلى هدوء نسبي في التهيج الذري المستديم والواقع في الحلقة المعدنية بحيث وجدت الإلكترونات طريقاً سهلاً بين هذه الذرات التي اقتربت بهذا التبريد من السكون وعليه فثمة ثلاثة أنواع رئيسية من الجسيمات:

(أ) الجزيئات وهي المكونة للحوادث الطبيعية

(ب) والذرات وهي المكونة للتغييرات الكيميائية (ج) والإلكترونات ومعها البوزيتونات المكونة للظواهر الكهربائية

أما أن يكون الجزيء مركباً من ذرات فهذا لا جدال اليوم فيه إلا إذا أزلنا من العلوم علم الكيمياء. وأما أن تكون الذرة مركبة من مكونات أصغر منها أهمها الإلكترون والبوزيتون فهذا أيضاً أمر لاشك فيه وإلا جاز لنا أن نستغني عن كل معارفنا في الكهرباء

هذان الشقيقان يلعبان دوراً هامً في معارفنا، وسنحاول مع القراء أن نتعرف عليهما أكثر من ذلك.

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون

ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم

المهندسبخانة