الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 320/دمشقيات

مجلة الرسالة/العدد 320/دمشقيات

بتاريخ: 21 - 08 - 1939


من (الجادة الخامسة)!

للأستاذ علي الطنطاوي

آمنت بالله واستثنيت جنته ... (دمشق) روح وجنات وريحان

اللهم، إن كنت كتبت لي (برحمتك) الجنة، فاجعل جنتي في الآخرة على مثال (دمشق)، واجعل قصري فيها في (الجادة الخامسة)!. . .

ولكن كيف لي بتصوير (الجادة الخامسة) لقراء (الرسالة) وهم منتشرون في أقطار الأرض كلها؟. . . وكيف لي بإقناعهم، ولكل منهم بلده، وكلّ ببلده فخور!. . . إن الشام درّة تاج الكون، وإنها بيت القصيد في (معلّقة) الوجود، وإنها اللذة الكبرى مجسمة، وإنها العاطفة السامية، والحب مصوّراً هضاباً وصخوراً ومروجاً وبساتين. . . وإن (الجادة الخامسة) درة دمشق، وبيت قصيدها، وإن الذي تشرف عليه منظر أقلْ ما يقوله الصادق فيه وأبعده عن المبالغة وألصقه بالحق الصراح أنه أجمل منظر على ظهر الأرض، وأن الله حين وزع الجمال على البقاع. . . فخص كل واحد منها - بنوع واحد منه - جمعه كله لدمشق، ووضع أفضل مجموعة منه في (الجادة الخامسة)!

ولقد كنت في البادية منذ أسبوع آيباً إلى دمشق، أحدق في الأفق علّي أرى خيال دمشق: بلد الحب، بلد اللطف، بلد الكرم، بلد الجمال. . . فلا أرى إلا الصحراء بوجهها الكالح الكئيب الصامت الرهيب، فأفرُ من مرآها وأغمض عنها عيني، أحاول أن أختلس من الزمان إغفاءة، فأقطع هذا الطريق المضني على مطية الكرى. . . فلا أرى في منامي إلا طيف دمشق البلد الحبيب، ولا أكاد أستمتع به حتى تقصيه عني سيارة (نيرن) بهديرها الذي يطرد الأحلام، ودويَّها الذي يطيَّر شياطين الشعر، وثقلها ورزانتها التي تشبه أحلام قوم الفرزدق. . . ولبثت على ذلك حتى جاوزنا (الضمير)، واستقبلنا دمشق من طريق حمص، وكنت في شبه غفوة. . . فما أحسست إلا إخواناً لنا من أهل بغداد كانوا معنا في السيارة ينبهونني ليسألوني. فانتبهت، فإذا أنا أرى حولي طلائع الخضرة تمتد إلى السفوح البعيدة. فقالوا: أهذه هي (الغوطة)؟ فضحكت وقلت: هذه سهول لها نظير في كل أرض. . . فكيف تكون هي الغوطة التي ليس لها في الأرض نظير؟ انتظروا تروا. . . وسرنا خلال السهول ننعم فيها النظر فنرى من جمالها كل لحظة ما لم نكن رأينا. . . حتى بدت أوائل الكروم، كروم (دوما). . . منذا الذي لم يسمع بها؟ تلك التي طارت شهرتها في الآفاق، فأسكرت بمشهدها العشاق وذوي الأذواق، كما أسكرت برحيقها من كان من أهل الرحيق. فقالوا: هذه هي الغوطة؟ قلت: لا. بل هذه كرومها، فانتظروا الغوطة التي فتنت أجدادكم من قبلكم، وفتنت من قبلهم الروم والفرس، وتفتن كل ذي لبَّ إلى يوم القيامة!. . . وسرنا خلال (الكروم)، وهي تمتد عن أيماننا إلى حيث لا يبلغ البصر، و (المناطر)، قائمة على العيدان الرفيعة، منثورة في الأرض، ضاربة في السماء، لا يحصيها العدَّ، كأنها أعشاش العاشقين، أو منارات يؤذن فيها دعاة الغرام، تبعث في النفس ذكريات الحب الدفين (وفي نفس كل إنسان منه ذكريات)، فتعيد الحب حياً. وسرنا خلالها حتى بلغنا (الغوطة)، فسلكنا جانباً منها يحاذي دوما وحرستا. فقلت: هذه هي الغوطة! وسكت فلم أعرفها لهم، ولم أقرظها، بل تركتها تقرظ نفسها. . . ففعلتْ وأربتْ على ما كان في الخيال منها؛ فذهب الإعجاب بالقوم كل مذهب، ونال من نفوسهم كل منال، فسكت اللسان، ونطق القلب، وقالت العينان، وشحّت اللغة، فما تبضّ إلا بقطرة ما فيها ري ولا بلل. . . وهل في اللغة إلا أن تقول: جميل ولطيف ومدهش وعظيم؟ أو ليس الجمال مائة ألف نوع؟ أو ليس للدهشة مثلها من الأسباب؟ فأين الكلمتان الجامدتان من هذا العالم الحيّ؟ إننا معشر البشر ما تعلمنا النطق إلى اليوم

وبلغنا دمشق، فقلت للقوم: إن في سفر الطبيعة صفحات مختلفات، في كل بلد صفحة منها. فسهل وجبل وواد وصحراء وبحر ونهر. . . فتعالوا أشرف بكم على صفحة فيها كل الصفحات. تعالوا أطلعكم على دمشق، وقد رأيتم منها سهلها وغوطتها، لتروا جبلها وصحراءها وواديها!. . . فأبوا عليّ، وجنحوا إلى الهرب، وتعللوا بالتعب، وأصررت وأبيت. . . فرأيتهم لانوا كارهين، فاغتنمت لينهم، ولم أبال كراهيتهم، لعلمي أن ما سيرون سيقع منهم موقع الرضا وفوق الرضا. . . وأخذنا سيارة من المرأب (الكاراج) الذي استودعناه حقائبنا، إلى (الدار) التي استأجرها لنا أخي. . . في (الجادة الخامسة). فما انعطفت بنا السيارة نحو (طريق الصالحية)، وشاهد أصحابنا البيوت ترتقي في الجبل، وهو يجلسها في حجره، ويحوطها بذراعيه، وينحني عليها برأسه الهائل المتوج بالصخر، حتى تبدَّل سخطهم رضا، وطفقوا يسألون!. . . فقلت: أما الذي إلى اليمين، حيث البيوت الواطية المتلاصقة، والمآذن الكثيرة السامقة، والقباب، فحيّا الأكراد والصالحية؛ وقد أنشأ حي الصالحية الجد الأعلى لآل قدامة، أو آل المقدسي حين نزح إلى دمشق منذ ثمانية قرون فراراً من فلسطين وما حاق بها يومئذ من المحنة. فأحيا الله به وبأسرته العلم في تلك الديار، ونشروا فيها المذهب الحنبلي، وظهر من أسرته علماء فحول كالضياء المقدسي ويوسف بن عبد الهادي قريع السيوطي وشبيهه في سعة علمه وكثرة تصانيفه. . . ولكن الله قدر للسوطي من نشر علمه، وطوى علم يوسف في سجلات دار الكتب الظاهرية. . . ولا تزال آثار هذه النهضة العلمية العظيمة ظاهرة في المدارس الكثيرة القائمة في السفح وبين البساتين. . . ثم تتالى بناء المدارس في الصالحية، حتى أن شارعاً يدعى الآن: شارع (بين المدارس) في الشركسية يحوي أكثر من عشرين مدرسة باقية قبابها وأبوابها، فضلاً عما اندثر منها. وآخر هذه المدارس وأعظمها المدرسة العمرية، أنشأها الشيخ أحمد بن قدامة المقدسي - في منتصف القرن السادس الهجري - ونمت حتى صارت (جامعة)، ودعيت بالمدرسة الشيخة؛ ثم تضاءلت حتى رجعت اليوم خراباً كأكثر مدارس الشام، واختلس الجيران ما قدروا عليه من ساحاتها وأبهائها، فأدخلوها بيوتهم. . . وأما الذي إلى اليسار فحيّ المهاجرين، وقد كان قبل ثلاثين سنة جبلاً أجرد، فأسكن فيه ناظم باشا (المهاجرين) من (كريت) بعد عدوان اليونان عليها، وبنى لهم أكواخاً صغيرة؛ ثم حال الحال فصارت قصوراً للأغنياء، غير أنها لا تزال بقية من تلك الأكواخ خلال القصور، ولا تزال قطع جرداء من الجبل أو صخور ماثلة بين الدور. . .

وذهبت السيارة ترتقي في الطريق الصاعد إلى (المهاجرين)، وكلما علونا فيه شيئاً، بدت لنا من دمشق والغوطة أشياء، حتى إذا بلغنا نهاية الطريق الذي يمشي عليه (الترام) انكشف لنا أعظم منظر تقع عليه عيني: من ورائنا الجبل الفتان (قاسيون)، وهو في الجبال كالفتى الغرانق في الرجال، قوي ولكنه وديع، وحلو ولكنه عظيم؛ وعن أيماننا جبل المزة ووادي الربوة، ذاك الذي يجري فيه بردى في السبعة الأنهار: يزيد وتورا وبردى وبانياس وقنوات وعقربا والديراني؛ تتسلسل كأنها أطواق اللؤلؤ على أحلى جيد، تمتد من صلب هذا الجبل حيث يجري (يزيد) إلى سفحه، حيث يمشي (تورا) من تحته، إلى أسفل الوادي، إلى سفح الجبل الآخر، إلى صلبه؛ والأشجار على ضفاف الأنهار كلها، والشلالات تنحدر من الأعلى إلى الأدنى تتكسر على الصخور، وتنحط، تخالطها أشعة الشمس فيكون لها بريق ولمعان كلمعان الماس، وأين منها لمعان الماس؟. . . وعن شمائلنا الفضاء الرحب، تملؤه الغوطة كبحر ما له آخر، أمواجه خضر. . . وتقوم في وسطه دمشق، دمشق الجميلة، دمشق القديمة، دمشق الخالدة! والجامع الأموي في وسط البيوت تظلله قبة النسر، كأنه رجل طوال واقف بين صبية صغار؛ ومن الدور التي شبهناها بالصبية ما فيه سبع طبقات، ولكنه الأموي معجزة البناء الإسلامي. . . ومناراته الثلاث الهائلة. . . يا لدمشق ومناراتها السبعين والمائة، وغوطتها وبرداها!. . .

قلت: هل بقى من الطبيعة لون لم تحوه دمشق؟ هذا الجبل، وهذا الوادي، وهذه السهول، وهذه البساتين، والصحراء صحراء المزة. . . وأنت تجوز بهذا كله ماشياً على قدميك في نصف ساعة. . . وهنالك البحيرة تبدو لكم من وراء الغوطة. فهل بقى من الطبيعة لون لم تحوه دمشق؟

قالوا: لا والله، إلا أن يكون البحر، وهذا بحر من الخضرة شهدنا أنه لا إله إلا الله، وأن دمشق أجمل بلاد الله!

قلت: شهدتم وأنتم في (الجادة الأولى) فكيف إذا صعدتم إلى (الجادة الخامسة)؟

وبعد. . . فيا أسفي على أيامي التي قضيتها ساكناً في (البلد) ويا عجبا من قوم عندهم (حيّ المهاجرين) ويقطنون في غيره، وعندهم قاسيون ونيامون (تحت) في السهل! وكيف يؤم الناس المصايف، ويذهبون إلى بلودان ولبنان، وهنا (الجادة الخامسة) لو حلف رجل بأوثق الأيمان على أنها أجمل من لبنان، وأعذب ماء، وأطرى هواء، لما أثم ولا حنث؟

اللهم عفوك! فإني والله لا أستحق هذه النعمة، وما لي على أداء شكرها طاقة!

ينظر ساكن البلد فلا يرى حوله إلا قليلاً مما يُرى. فيحس أنه في دنيا صغيرة تافهة، فإذا قطن (الجادة الخامسة) تكشفت له الدنيا، وتعرت، فرآها في زينتها وفتنتها، فأحسّ انه مع رفيق يؤنسه وحبيب يسليه، حبيب تراه في الصباح كغادة جميلة في جمالها طهر، وفي عينها صفاء، توحي إليك التأمل، وتسمو بك فوق الشهوات، وتراه في ضوء القمر كآنسة مغرية فتانة تهيّج في نفسك الحب، وتشعل في أعصابك النار؛ وتسمع من الجادة الخامسة: كلمة الخلود في دنيا الفناء، تتجاوب بها مآذن الحيّ، وتبصر المنارات تضيء في الليل من كل جانب فيسمو بك النداء حتى تحسّ أن هذه (الدنيا) قد سمت كلها، حتى صارت هي (العليا). . .

فما أعظم (الأذان) عند من يسمعه من (الجادة الخامسة)!

ينادى في الفجر الساكن الخاشع، لا يشغلكم سكونه وسحره عن عبادة الله والاتصال به!. . . وينادي في النهار الكادح العامل لا تصرفكم الدنيا عن صلاتكم ودعائكم!. . . وينادي والشمس تغيب من أعالي الجبل فيدرك ذروته المساء والبلد والغوطة سابحة في نور الشمس، وينادي حينما يعم الدنيا سحر الغروب، وينادي حين يبدأ الليل، وتستعد الفضيلة للنوم، وتتهيأ الرذيلة للسهر!. . .

في (الجادة الخامسة) يشعر الإنسان أنه يندمج بهذا الكون فيأنس به، ويطمئن إليه؛ ثم إذا هبط إلى البلد فكر فيه واشتاق إليه!. . .

كل شيء في (الجادة الخامسة) ساكن حالم، أما (البلد) فكل ما فيه مضطرب متوثب. . . هنا الشعر والتأمل؛ وهناك. . . هنالك تحت هذه السقوف التي تظهر خاشعة في ضباب الصباح، ووهج الظهيرة، وظلمة الليل. . . خلاف وتنازع على الرياسة، وانقسام وفشل. . . هنالك هبطت قيم الأخلاق وأمحى الإيثار، فالأخوان يصطرعان، والعدو - عدوهما معاً - واقف يصفق لهما ليهيجهما، لتخور قواهما ويسقطا من الإعياء، فيقبل ليفعل بهما ما يشاء. . . هنالك التاجر المفلس من أقطاب السياسة، والتلميذ الراسب من أقطاب السياسة، والعامل المطرود من أقطاب السياسة، وكل الناس من أقطاب السياسة وزعماء البلد. . . لم يبق تلميذ لدرسه، ولا تاجر لدكانه، ولا محام لمكتبه، ولا طبيب لعيادته، ولا رجل لما خلق له، لكنهم جميعاً للخلاف والتنازع، كل حزب يهدم الأحزاب فتنهدم جميعاً، ويبني العدو ما يبتغي. . . أرى هذا كله من (الجادة الخامسة) فأتألم ولكن لا أتكلم، لم يبق لمثلي مجال للكلام. . .

أرى هذا فأذكر بغداد، وما خلفت في بغداد. . . خلفت فيها النظام والاتحاد والطلاب الذين جعلهم نظام الفتوة جنداً، ونحن المدرسين الذين صرنا ضباطاً لهم شارات الضباط وحياتهم وقانونهم خلفت الاستقلال الذي لا تشوبه شائبة، والشعب المتوثب، والجيش القوي، والاستعداد لنصرة كل قطر عربي. . .

أشهدوا أني أحب بغداد. . . أني أحبها، ولكن دون حبي دمشق. . .

أحب بغداد وأفخر بها، وأحب دمشق حبًّا أكبر آسي عليها، وأرجو لها مثل ما أعطيت بغداد على أن تتم لبغداد نعمتها

اللهم! إن تحت كل شجرة من أشجار الغوطة جثة شهيد مات دفاعاً عن هذه الأرض الطاهرة التي سقيت بالدم؛ ثم إنها لم تخلص لأهلها، ولم تنج من الغاصب الدخيل. . . اللهم كما جعلت دمشق درة الكون، ومنحتها ما لم تمنح بلداً، أكمل عليها نعمتك وهب لها الحرية والمجد، فالحرية والمجد أجمل من كل شيء!

اللهم! متى أطلّ من شرفة داري في (الجادة الخامسة). فأقول:

الحمد لله! كل هذا الجمال لنا، هذه ديارنا لنا، وهذه أمتنا متحدة ناهضة، تمشي في طريق العلاء. . .

متى يا ربّ. . . متى؟!. . .

علي الطنطاوي