الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 32/بين الشك والأيمان

مجلة الرسالة/العدد 32/بين الشك والأيمان

مجلة الرسالة - العدد 32
بين الشك والأيمان
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 12 - 02 - 1934


(شيللر)

للأستاذ خليل هنداوي

تتمة ما نشر في العدد الماضي

- 3 -

في عام 1790 كتب شيللر إلى صديقه (كاربز) الأمين (ما أحوجني إلى رفيق يقيم معي، ويقدر على إسعادي، وتبديد وحشتي ونفي همومي وتجديد أيامي) وكأن الأقدار رغبت في تحقيق رجائه فوهبته امرأة ما كان أدناها من هذا الصاحب الذي تمناه، وفيها يقول (غوته) إن الجمال النقي يرتسم على ملامحها، وأشعة الظهر تلمع في عينها. هي كثيرة الإحساس بكل ما هو خير وجميل في الحياة، وتغلب على مشاعرها الرقة والإيناس. وكان تأثير هذه الصاحبة الأمينة في حياة شيللر شديدا، فقد نفحت روحه بالأمل الذي هو سر الحياة، وكتب إليها قبل زواجه منها (أصبحت أرى نفسي متفتحة لكل ما هو خير وجميل. قد وجدت نفسي. . .) وبعد زواجه كتب (الآن غلب على مزاجي الاعتدال. وأيامي تنقضي خالية من ثورة الأهواء، صافية هادئة. وقد عدت إلى أعمالي بنفس ملؤها الطمأنينة كعادتي السابقة) وهذا الذي عرفناه ثائراً، شاكاً، ناقماً على نفسه وعلى الناس تميل روحه للاستسلام وتغلب عليه السكينة، فإذا ما عراه داء شكر ربه لأن يداً فوقه تبدي له من العطف أضعاف ما يحس من الألم. وقد منحته السماء طفلاً فقال (أحس بأنني أرى مشعل حياتي الذي بدأ ينطفئ، يشتعل في غيري. إنني راض عن القدر) ويتجه قلبه إلى أمه الكهلة التي يضطرم قلبها عليه حباً وحناناً فكتب إليها (كل ما يجعل حياتك سعيدة يجب أن يكون لك يا أماه! وأن الواجب يقضي علي أن أنقذ روحك من كل ملل. بعد تلك الأتعاب التي أرهقتك يجب أن يكون مساء حياتك صافياً هادئاً. . . .)

استشاره رجل يريد أن يقبل على ذلك العلم الخطير (الفلسفة) فراح يصرفه عنه بقصيدة تصف مخاطر هذا العلم وطريقه الملتوية.

هل أنت متأهب مع سلطان برهانك الكئيب؟

هل أنت ناضج الفكر لتظهر في الهيكل الذي يحرس. . . كنزه الخطير.

وهل أنت شاعر بما سترى؟ وبأي ثمن سوف تشتريه؟

وهل أنت موقن بأنك تبذل شيئا لا تملكه لقاء شيء أكيد؟

وهل تحس أن قواك كافية لمعركة هي أشد المعارك هولا! تلك المعركة التي تثور بين القلب والروح والعاطفة والفكر؟

وهل تملك جرأة وشجاعة تسعفانك في قتال (ثعبان) الشك الخالد، الكامن في داخلك؟

ألا فر، وأمعن في الأرض فراراً، إذا لم تكن واثقا كل الثقة بالدليل الذي تحمله في صدرك. فر من هذه الشواطئ المغرية قبل أن تلتهمك الهاوية. . . كثيرون هم أرادوا أن يمشوا نحو النور فوقعوا في ظلمات فوقها ظلمات.

ألا أن الطفولة تؤول حقا بصاحبها إلى نور الشفق!)

أن هذه المقطوعة تبين أن الشاعر قد نقم على الفلسفة وسئم معنوياتها. واستغنى عن هدايتها. وكان موفقا كل التوفيق في ممثليه مخاطرها.

ولكن هل كانت الفلسفة كلها شكا يعذب ويؤلم؟ هل تكون الحياة - وجميع أبوابها مغلقة - إلا هذا الشك المؤلم؟

والشاعر يبدي رأيه أكثر وضوحا في هذا النوع من الفلسفة في مقطوعته (صورة ساييس المحجوبة)

وهذه هي المقطوعة:

هجر الدار، ولم يعبأ بما ... ستذوق النفس من برح الألم

جاعلاً وجهته مصر، لكي ... يفهم الأسرار ممن قد فهم

هذه (ساييس) قد أرخت على ... وجهها ألف حجاب تلتثم

كل من يطلب يوماً ان يرى وجهها ... يبلى بأنواع السقم

لم يزد صاحبنا الا جوى ... زاد في القلب لهيبا وضرم

غافل الكهان عنها ليلة ... وتوارى تحت أسدال الظلم

رفع الأستار عنها ورأى. . . ... (هل رأى حين رأى غير عدم)؟

لم يقل عما رآه وثوى ... بخشوع تحت أقدام الضم

فبراه السقم حتى شفه ... وتردى جسمه حتى انهدم قال: ويل للذي يطلبها ... بطريق منكر: ثم وجم!

وفي هذه القصيدة غموض يحاكي غموض الحقيقة. والفقرة الأخيرة منها تدل على ما ساور الشاعر من الندم الممض والألم العنيف. ولكن لماذا الندم؟ هل على معرفة الحقيقة؟ ولكن هل هي الحقيقة الكامنة وراء الحجاب عرفها؟! كنا نود أن نعرفها كما عرفها، ونتذوق بعد ذلك ما تذوق الرجل في سبيل معرفتها - ولكنني أخشى من إن الرجل لم ير - وراء التمثال_إلا ما يحمل عادة التمثال! والوثنيون إنما يعبدون من التمثال ما نسجت قلوبهم وراء ملامحه من أقداس وطهارة. ولو أنهم تمثلوا ما يعبدونه بعقولهم لما رأوا إلا حجارة مسندة لا تضر ولا تنفع. وهؤلاء وغيرهم ممن ينشأون في كل عصر إنما يعبدون ما تصوره لهم قلوبهم وترسمه نفوسهم، وهل تساوي اثنان من شريعة واحدة في عبادة واحدة؟ ذلك يتمثل في صلاته شيئاً لا يتمثله الآخر، مع أن الصلاة واحدة والوجهة واحدة. وسر هذا الخلاف يعود إلى ما يتمثله هذا القلب المباين لذلك القلب في كثير من ضروب التفكير والشعور. وما أكثر أولئك الذين إذا منعتهم عن عبادة تمثالهم المقدس! وأريتهم حقيقة عارية، تقتل أمانيهم وتهدم حياتهم، فيودون لو بقوا في جهالتهم سادرين ناعمين!!

هذه الحقيقة التي تكاد تمثلها هذه النقطة هي حقيقة العدم! ولكن هل أراد الشاعر أن يصل إلى هذه الحقيقة؟ انه وصل إليها طوعاً أو كرهاً، ولكنه ندم لانه أضاع قيمة حياته! وهو إنما يريد أن يعرف شيئا من الحياة هو أقدس وأسمى من حقيقة الفناء!

ما كان أدنى شيللر بهدوئه وكآبته الصامتة في أيامه الأخيرة من هذا الرجل الذي أخذ يتلاشى بعد معرفته الحقيقة، فقد أخذت حوادث الدهر وصور الموت تجوز إلى نفسه، وهذه مقطوعة (الناقوس)

(في فناء الكنيسة تتهادى رنات الناقوس! تلك الرنات العالية التي ترافق أغاني القبر. تنبئ عن عبور المسافر الذي مضى إلى ملجئه الأخير. وا أسفاه!! هذا المسافر هو زوجة عزيزة! أو أم اختطفها الموت من حضن زوجها، ومن بين أولادها الذين منحتهم السعادة والغبطة، وأرضعتهم بمحبة ورفق. هذه الروابط الجميلة تقطعت إلى الأبد

لأنها نزلت إلى مثوى مظلم عميق. . . هذه الأم!)

كانت هذه القصيدة بعد ثلاثة أعوام لسان حال شيللر في الحوادث التي تتالت عليه، فقد غادرت أمه الوجود، هذه الأم التي كانت كلما ازدادت عمرا، ازدادت عطفاً على ولدها. كتبت له في كتابها الأخير (لا يوجد ولد - كمثلك - في الوجود) وأخذت صورة ولدها قبل أن يغتالها الموت وضمتها إلى صدرها ضماً شديداً، وأشبعتها لثماً وتقبيلاً، وماتت يشرف على قبرها صليب حجري نقش عليه هذه الكلمة (أم شيللر)

أما الشاعر فقد تسرب إليه اليأس، وزادت عليه الأسقام حتى خرب صدره وخارت قواه وفسدت رئته. وهو_برغم ذلك_يريد أن يغلب على هذه المحن ناظراً إلى غده الزاهي. ولكن المرض المبرح ضن عليه بكل شيء حتى بنعمة الأمل. ففي شتاء عام 1805 استسلم للألم صامتاً راضياً هادئاً. ولكن ثورة الشك في اللحظات الأخيرة طغت على نفسه وروحه، أقلقها تساؤلها عن العالم الثاني، سمعه بعض عواده في أغرأقة من إغراقات الحمى يهتف (أهنالك جحيمك؟ أهنالك سماؤك؟ ولكن السكون المغمور بالملل والتعب غلب عليه فاستسلم، وما الموت إلا استسلام، وفي الأمسية الأخيرة سألته أخته القائمة على سريره (والآن كيف أراك؟ فأجابها بصوت خافت: (أراني دائما أكثر هدوءاً) فكانت هذه الجملة هي آخر ما لفظت شفتاه، ثم سكنت ملامحه، وارتعش رأسه ارتعاشة واحدة، ثم سكن منه كل شيء وهو في الخامسة والأربعين.

ما كان أقدس هذه الكلمة؟ وما كان أكبرها باعثا للهدوء في النفوس المضطربة. ولكننا لا نعلم: أهو هدوء الإيمان، أم هدوء الملل والقنوط.

هذه الكلمة وحدها تمثل كل حياة الشاعر وهي:

(أراني دائماً أكثر هدوءاً)

دير الزور

خليل هنداوي