مجلة الرسالة/العدد 319/مطاعم الأغنياء
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 319 مطاعم الأغنياء [[مؤلف:|]] |
كتاب مستقبل الثقافة في مصر ← |
بتاريخ: 14 - 08 - 1939 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
مطاعم الأغنياء. . .؟
لعلك تقصد مطاعم الفقراء
كلا. بل مطاعم الأغنياء اقصد لأنهم، أو لان أكثرهم، في حاجة إلى مطاعم يتعلمون فيها كيف يأكلون، كاحتياج الفقراء إلى مطاعم يجدون فيها ما يأكلون
فمن البدائية في رأيي إن الفقير يجب إن يأكل، وأن أحداً من الناس في هذه الدنيا لا يعجز عن عمل يساوي بضعة أرغفة وقليلاً من الأدم في كل نهار. فأن عجز فذاك وزر الأمة بحذافيرها وليس بوزره الذي يجزي عليه بالجوع والموت، وعلى الأمة إذن إن تكفل له قوته بعمل تتولى تدبيره له ولأمثاله، أو بمطاعم تكفيه مؤنة الغذاء في انتظار العمل والصناعة
ذلك شأن الفقير المحروم، فما بال الغني الميسر الأرزاق تدبر له المطاعم ليأكل فيها وعنده المطبخ وعنده الطاهي وعنده المآكل والمشارب؟
في مصر أزمة طعام سفلية وعلوية في وقت واحد: فأما السفلية فتلك أزمة الفقير، وأما العلوية فتلك أزمة الغني الذي يجد الطعام ولكنه لا يجد الغذاء
إذا قيل في مصر: (فلان يعرف يأكل) فذلك على الأرجح الأعم رجل يجهل صناعة الأكل ولا يزال على خطر مما يأكل. لأن تعريف الطعام النافع عنده أنه هو الطعام اللذيذ أو الطعام الذي يثقل على الجوف، ويملأ الأحشاء
وقد يكون الطعام لذيذاً وهو ضار، وثقيلاً على المعدة وهو خفيف الوزن فيما يؤول إلى صحة الجسم وانتظام الأعضاء.
وقد يحسب انه يعوض جسمه مما فقد فإذا هو يضيف إليه خسارة على خسارة، وجهداً على جهد، ثم كلالاً على كلال، وفتوراً فوق فتور.
سمعت إن (محدثاً) تزوج، ثم سمعت بعد أشهر قليلة أنه أصيب بداء السكر، ثم سمعت حكايته فعلمت انه قد أصيب بالداء من حيث طلب السلامة، وأنه لولا طلبه السلامة من حيث طلبها لكان أقرب إلى العافية وابعد من الد ظن صاحبنا إن الزواج - أو الزواج الحديث على الأقل - عمل دائم لا يتخلله انقطاع، فمن لم يكن متزوجاً في الصبح وفي الظهر وفي الأصيل وفي المساء فهو أعزب أو نصف أعزب على اقل تقدير. وكيف يستطيع الإنسان إن يجمع بين الزواج وعدم الزواج في آن؟ هما نقيضان لا يجتمعان؛ وقد يكون في الجمع بينهما بعض معنى الطلاق إبان شهر العسل والعياذ بالله.
فتزوج وتزوج وتزوج، ولم ينس واجب الحيطة والوقاية لأنه رجل حازم بصير وقاك الله شر الحزم والبصر من هذا القبيل.
فمع الزواج الدائم شرب دائم من السمن والعسل على الريق وبين الطعام والطعام، وكلما وجد السمن والعسل وهما موجودان.
وهل غذاء أوفر من السمن والعسل؟ وهل انفع منهما للبدن وارد منهما للعافية أطيب منهما حلالا معيناً على حلال؟
هكذا قدر صاحبنا فجاءه الضرر من حيث قدر، لأن عناء الكبد في هضم كوب من السمن والعسل أشق عليه من عناء الزواج الدائم، فلم يكن عوضاً ما تعوض به واستعانه على حلاله، بل كان كما أسلفت كلالاً على كلال، وفتوراً فوق فتور.
وآخرون يبارى بعضهم بعضاً في (كلفة) المائدة و (تسبيك) القدور واصطناع (الجيد) من الأصناف: عندهم الخفة على المعدة رديف التفاهة، والثقل على المعدة رديف المتعة والغزارة.
ولكل منهم صنف يشتهر به ويولم عليه؛ وهم بينهم متبادلون متعارضون، متسابقون في الكرم متساجلون، حتى لا تحرم المعدات نصيبها من الكظة والنصب يوماً أو بعض يوم، ولا يتخلف واحد منهم في مضمار السباق: السباق إلى القبور.
أفي البلد أمثال هؤلاء لا يزالون مع الاحياء، وتستغرب عنواني: مطاعم الأغنياء؟
ما أعجبه مطعما يساق إليه أصحاب الضياع والكراع شهراً من كل سنة يتعلمون فيه (الأكل) وينفقون عليه من أموالهم مكرهين!
وما أعجبه ديواناً من دواوين الحكومة يهجم على المطابخ الفاخرة كما يهجم على المحظورات والمهربات، ويصادر الدسم كما يصادر السم!! وهو السم بعينه وليس السم في الدسم كما قال صاحب البردة رحمه الله.
على أن الآفة الكبرى أن يحرم المرء الغذاء لأنه لا يجده ولأنه لا يعرفه كما هو شأن الكثرة العظمى عندنا من سواد الفقراء.
فاكثر فقرائنا لا يفرقون بين التغذية وبين إسكات الجوع، وكأنما ينظرون إلى المعدة الصارخة نظرتهم إلى الكلب النابح الذي لا يراد منه إلا السكوت. . . فأن أسكتوه بعظمة فذلك حسن، وإن أسكتوه بحجر فذلك أحسن، ولا ضير عليهم بعد أن يسكت ويكف عن النباح.
أللبطن عيار أم خيار؟
ذلك جوابهم كلما (شبعوا) من طعام غث كثيف لا خير فيه، وكأنهم يحسبون من الصغار والمجانة أن يحفلوا بالمعدة الصارخة إذا استطاعوا أن يضحكوا منها بالقليل، فليس العجز عن خداعها والاحتيال عليها بالأمر الذي يليق بدهاء الرجال.
وربما رأيت هؤلاء المسكتين للمعدات بين أناس يعلمون الناس، ولا يعدون في مصلحة الإحصاء من زمرة الجهلاء.
كان لنا ولصديقنا صاحب الرسالة أيضاً زميل في التدريس يقبض ثمانية جنيهات في الشهر، ويشتري نصف فدان في العام، ويغمى عليه مرة أو مرتين في الأسبوع.
وعرضه ناظر المدرسة على طبيبها فاسر هذا إليه أن الرجل صحيح كأصح ما يكون الجسد السليم، وأن آفته كلها قلة الغذاء قلة الغذاء؟ كيف يكون هذا وهو يأكل ويشبع ولا يجوع؟
وأصر الرجل على طعامه، وخاف الناظر على تلاميذه أن يفوتهم من الحصص بمقدار ما يعتري الأستاذ من نوبات الإغماء. . فأذن له، بل آمره أن يأكل من طعام الغداء بغير ثمن، وفيه على الأقل ضمان وجبة نافعة في النهار. .!
كان القديس أوغسطين يقول إذا تكلم عن جسده: أخي الحمار. لأنه في حكمه حيوان كسائر فصائل الحيوان.
أما الجسد عند هؤلاء الذين يطعمونه وهم يسقمونه، ويسمونه وهم يحسبون أنهم يسمنونه، وينفقون المال ولا يعرفون كيف يأكلون، ويشبعون وخير لهم لو يجوعون، فهو الأحق بان يقول وهو يتكلم عن صاحبه: أخي الحمار. . . فهما في الواقع حماران اثنان في جسم إنسان.
ولمثل هؤلاء تشرع مطاعم الجهلاء، من القراء والأغنياء!
عباس محمود العقاد