مجلة الرسالة/العدد 318/في بلاط الخلفاء
→ خليل مردم بك | مجلة الرسالة - العدد 318 في بلاط الخلفاء [[مؤلف:|]] |
الله في علاه!. . . ← |
بتاريخ: 07 - 08 - 1939 |
سعد وسعاد في حضرة معاوية
للأستاذ علي الجندي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وتربص سعد أسبوعاً بين يأس يطويه ورجاء ينشره، حتى إذا أذن معاوية للناس يوماً دخل في سرعانهم وغمارهم. فلما أخذوا مجالسهم، نهض بين السِّماطين وأنشد بصوت كحشرجة المحتضر:
معاوي يا ذا العلم والحلم والفضل ... وذا البرّ والإحسان والجود والبذل
أتيتك لمّا ضاق في الأرض مذهبي ... وأنكرت - مما قد أُصِبت به - عقلي
ففرِّج - كلاك الله - عني، فإنني ... لقيت الذي لم يلقه أحد قبلي
وخذ لي - هداك الله - حقِّي من الذي ... رماني بسهم كان أهونه قتلي
وكنتُ أرجّي عدله إن أتيته ... فأكثر تَردادي مع الحبس والكبْل
سباني سعدي وانبرى لخصومتي ... وجار ولم يعدل، وغاصبني أهلي
فطلّقتُها من جدّ ما قد أصابني ... فهل ذا - أمير المؤمنين - من العدل
وكان معاوية متكئاً فاعتدل في مجلسه - وقد اكفهرت على وجهه سحابة من الحزن - وقال: نعوذ بالله من طوارق السوء! لقد أسمعت يا أعرابي، إذن بارك الله عليك! ما خطبك؟ وما طرحك إلى هذه البلاد؟ فدلف إليه شاب في شملة الأعراب، ساكن الطائر، رابط الجأش؛ قد لوحه السفر وتضمر وجهه من الهزال! فقال: أطال الله بقاء أمير المؤمنين! إنني رجل من بني عذرة. تزوجت ابنة عم لي على حب ومقة، وكانت لي إبل وغنيمات فأنفقت ذلك عليها؛ ولبثنا معاً في حياة رافهة وعيش أبله غرير. فلما كلب علي الزمان، ومستني البأساء والضراء رغب أبوها عني، وكانت جارية فيها حياء وكرم. فانقادت له مكرهة خشية أن توصم بالعقوق!. . . فأتيت عاملك مروان بن الحكم مستجيرا به مؤملا نصرته، فأحضر أباها وشكم فاه بالإتاوة إذ دفع له عشرة آلاف درهم! وقال: هذه لك، وزوجني بها، وأنا زعيم بتخليتها من الإعرابي! فمال أبوها إلى المال، وأصبح الأمير لي خصما وعلي منكرا. فانتهرني وطرحني في السجن، وأمرني بطلاقها فأبيت. فبسط علي العذاب وأفتن في إيلامي! فلما اشتد علي الضيق، وأيقنت بالهلكة لم أجد بدّاً من طلاقها، فطلقتها، والعين عبري والقلب موجع!. . . فما انقضت عدتها حتى تزوج بها مروان، وأمر السجان بإطلاق سراحي. وقد أتيتك - يا أمير المؤمنين - صارخا فزعا، متغطيا من الدهر بظل جناحك! وأنت غياث المكروب وسند المسلوب! فهل من فرج؟!. . . ثم أجهش الأعرابي بالبكاء وأنشد:
في القلب مني نار ... والنار فيها استعار
والجسمُ مني نحيلٌ ... واللون فيه اصفرار
والعين تبكي بشجو ... فدمعها مدرار
والحب داء عسير ... فيه الطبيب يحار
حملت منه عظيما ... فما عليه اصطبار
فليس ليلي بليل ... ولا نهاري نهار
وكان لمرأى هذا الزوج الواله وشدة ضراعته وعظم تفجعه ورقة شكاته، أثر أي أثر في نفس معاوية!. . . فأطرق برهة؛ ثم رفع رأسه وقد ازمهر وجهه الأبيض كأنما نضح بالأرجوان فقال: ويلي على ابن الطريد! كيف عزبت عنه حلوم أمية؟ لقد تعامه في طغيانه، وتمادى في أضاليل هواه، وطرفت عينه الدنيا. فما إن يزال في طفش ورفْش، فلعمري لئن بقيت له لأقيمن من صعر خديه!. . .
ثم التفت إلى سعد فقال: طب نفسا وقر عينا - يا أخا عذرة - فقد سألتنا النَّصف، وستبلغ ما رجوته إن شاء الله!
ودعا من فوره بدواة وقرطاس، وكتب إلى مروان كتابا صدره بكلام أخشن من مس الحجر، وأزره بشعر أبرق له فيه وأرعد:
ركبتَ أمراً عظيماً لستُ أعرفه ... أستغفر الله من جور امرئ زاني!
قد كنت تشبه صوفياً، له كتب ... من الفرائض أو آيات قرآن
حتى أتانا الفتى العذري منتحباً ... يشكو إليّ بحقٍّ غير بهتان
أعطي الإله عهوداً لا أَخيس بها ... أولاً، فبُرِّئتُ من دين وإيمان إن أنت راجعتني فيما كتبتُ به ... لأجعلنّك لحماً بين عِقْبان
طلّق سعادَ وجهِّزها مُعجلة ... مع الكميت ومع نصر بن ذبيان
فما سمعت كما بُلِّغت من عجب ... ولا فعالك حقاً فعلُ إنسان
ثم طوى الكتاب وختمه ودفعه إلى الكميت ونصر ابن ذبيان، وأمرهما أن يذهبا إليه!
فجد الرسولان في السير حتى بلغا مروان، وسلما إليه كتاب أمير المؤمنين. فلما قرأه عرته رعدة واصفر كأنه جرادة ذكر! ثم أرسل زفرة عميقة كاد يتفسأ لها حجاب قلبه. وقال: ودِدت أن - أمير المؤمنين - خلى بيني وبينها سنة ثم عرضني على السيف!
ولبث مدة يؤامر نفسه في طلاقها فلا يستطيع! فاشتد عليه الرسولان وأزعجاه، حتى طلقها وأسلمها إليهما بعد أن أحسن جهازها!
ولكنه أراد أن يثأر لنفسه من سعد، فلجأ إلى حيلة من حيله الشيطانية التي كانت سببا في قتل الخليفة الثالث، وشق عصا المسلمين!. . . فأرسل إلى معاوية كتابا يصف فيه مفاتن سعاد وصفا يثير صبوة الجماد! راجيا أن يقع الخليفة في شرك الحسن فيستبد بالفتاة ويرجع الزوج بخفي حنين! ثم تأسى بمعاوية في قرض الشعر فختم الكتاب بأبيات من الوزن والقافية:
لا تحنثَنَّ - أمير المؤمنين - فقد ... أُوفي بعهدك في رفق وإحسان
وما ركبتُ حراماً حين أعجبني ... فكيف سُمّيتُ باسم الخائن الزاني
أعذر! فإنك لو أبصرتها لجرت ... منك الأماني على تمثال إنسان
وسوف تأتيك شمس ليس يعدلها ... عند البرية من إنس ومن جان
حوراء يقصر عنها الوصف إن وصفت ... أقول ذلك في سرّ وإعلان
فلما ورد كتابه على معاوية وقرأه قال: لقد أحسن في الطاعة ولكنه أطنب في وصف الجارية. فإن صح أنها جمعت بين جمال الصورة وطيب النغمة فهي أكمل البرية طرّاً!
وعقد معاوية مجلسا من خاصته، ودعا إليه سعدا. ثم تقدم بإحضار سعاد، فطمح الحضور بأبصارهم إلى الباب ليروا محيا البدر المنير على قامة الغصن النضير!
وبعد قليل أقبلت الفتاة تتأطر في مشيتها، ساحبة أذيال الأضريح وقد حف وجهها إطار من شعرها الفاحم، فبدا كأنه قمر يطل من فتوق سحابة دكناء، أو لآلاء فجر في بقية من غبش الظلام!!
وسلمت على الخليفة من بعيد، فرد عليها السلام ثم استدناها منه واستنطقها فإذا بيان عذب جلي في صوت كأنه غنة الظبي أو خفق الوتر!
فسبح معاوية البارئ العظيم! وأراد أن يعجم منزلتها عند سعد فقال: يا أعرابي، هذه سعاد، ولكن. . . هل لك عنها من سلوة بأفضل الرغبة؟ فأجاب الأعرابي: نعم! وكأن معاوية شك فيما سمع فقال متثبتا: نعم يا أعرابي؟ فقال: نعم. نعم، إذا فرقت بين جسدي وروحي! فقال معاوية: أعوضك منها يا أعرابي ثلاث جوار أبكار حسان - مع كل جارية ألف دينار - وأقسم لك من بيت المال ما يكفيك في كل سنة ويعينك على صحبتهن!
فشهق الأعرابي شهقة ظن معاوية انه لفظ روحه فيها!. . . فارتاع وقال له: ما بك يا أعرابي؟ قال: شر بال وأسوأ حال! واستجرت بعدلك من جور ابن الحكم فعند من استجير من جورك؟ ثم أنشأ يقول:
لا تجعلنِّيَ - والأمثالُ تُضرَب بي - ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
أردد سعاد على حيرانَ مكتئب ... يمسي ويصبح في هم وتَذكار
قد شفّه قلَق ما مثله قلق ... وأُسعِر القلب منه أي إسعار
كيف السلوّ وقد هام الفؤاد بها؟ ... وأصبح القلب عنها غير صبّار
وكأن معاوية استخشن هذا الكلام فغضب، أو قل: إنه تظاهر بالغضب، فما كان للغضب عليه من سبيل! فقال: يا أعرابي الحق بيّن. أنت مقر بطلاقها، ومروان مقر بطلاقها. ونحن نخيرها، فإن اختارتك أعدناها إليك بعقد جديد، وإن اختارت سواك زوجناها به. . .
ماذا تقولين يا سعدى؟ أيهم أحب إليك: أمير المؤمنين في عزه وشرفه ونعمته وترفه، أم مروان في عسفه وجوره، أم هذا الأعرابي في خشونة عيشه وسوء حاله؟
ألقى معاوية هذا السؤال وهو أعرف الناس بجوابه! فإنه لا يزال يذكر قول زوجه ميسون بنت بحدل الكلبية حينما نقلت إلية من البادية:
لبت تخفق الأرواح فيه ... أحبّ إليّ من قصر منيف
وخرْقٌ من بني عمي نحيف ... أحبّ إليّ من علْج عنيف
فقال: ما رضيت حتى جعلتني علجا؟! وما أشبه الليلة بالبارحة! فلم تكد الفتاة تسمع قوله حتى ماست كالفنن المروح، وتخازرت إلى الخليفة حتى التقت أهدابها ثم أنشدت بصوت يشبه المناغاة:
هذا - وإن كان في فقر وإضرار - ... أعزُّ عنديَ من قومي ومن جاري
وصاحب التاج أو مروان عاهله ... وكل ذي درهم عندي ودينار
وكأنها أدركت أنها في حضرة ملك العرب وخليفة المسلمين. فافترت عن مثل وميض البرق! وقالت وهي تغطى وجهها بأطرافها المخضبة استحياء: والله يا أمير المؤمنين، ما أنا بخاذلته لحادثات الزمان وغدرات الأيام! وإن لي معه صحبه لا تنسى ومحبة لا تبلى! وإني لأحق من صبر معه على الضراء، كما نعمت معه في السراء! فقضى العجب كل من كان حاضرا! وضحك معاوية حتى انقلبت شفته العليا وشكر لها وفاءها وإخلاصها لأبي عذرتها! ثم أمر بها فأدخلت مقاصير الحرم، حتى انقضت عدتها من مروان. ثم أعادها إلى ابن عمها بعقد جديد، ووصلها بألف دينار.
وأخذ سعد بيد سعاد، ومضى يؤج في سيره أجه الظليم وهو يترنم بقوله:
خلّوا عن الطريق للأعرابي ... ألم ترقوا ويحكم لما بي؟
علي الجندي