مجلة الرسالة/العدد 318/رسالة النقد
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 318 رسالة النقد [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 07 - 08 - 1939 |
معلقة الأرز
تأليف الأستاذ نعمة قازان
بقلم الأستاذ جورج سلستي
ليس (معلقة الأرز) ديواناً شعرياً بالمعنى الذي تؤديه لفظة ديوان - أي مجموعة قصائد تتفاوت فيها المعاني والمباني - وتتباين فيها الخلجات والنزوات، وإنما هو رسالة في الأدب شاء ذوق صاحبها الفني أن يحملها قصيدة واحدة دعاها معلقة الأرز - والأرز رمز لبنان الخالد مسقط رأس الناظم النازح - وأردفها بمقطوعة شعرية صغيرة دعاها (أنشودة الغريب) بث فيها حنينه إلى لبنان مهوى فؤاده، ومثار إلهامه.
وتحميل الشعر رسالة في الأدب بادرة مستحدثة في الشعر العربي، فقد كنا حتى اليوم نقرا رسالات الأدب نثرا لا شعرا، كما أننا نعرف الشعر مستودع النزوات العاطفية والخلجات النفسانية يعتلج بالخواطر والمرائي والصور.
وسيان عندنا أَحمِّل الشعر رسالات أو نزوات وحمِّل الفلسفة والتاريخ والعلم أم اقتصر على تصوير وبثّ خلجات الروح فجل ما يعنينا أن يحتفظ بسموه ومكانته وأن يستوعب الفن الرفيع ولا يضير الشعر أن يؤدي للناس رسالات في الأدب إن استطاع الشاعر أن يسمو فيه ويحلق، وإن تمكن فيه أن يقنع قارئيه بصحة رأيه وصواب فكرته.
والرسالة التي شاء الأستاذ نعمة قازان أن يدفعها للناس في معلقته يتلخص مرماها في إيثار المعاني على الألفاظ، وهي رسالة كثر فيها القول واشتد حولها الجدل.
والأستاذ قازان على كل حال لم يأت في قصيدته بشيء من الحجج الدامغة ليقنع قراءه بفكرته، أو في الأحرى بمذهبة هذا وإنما يعرض عليهم آراءه عرضا وهو يسخر من خصوم المذهب الأدبي الذي يعتنقه سخرية لاذعة فيها التهجم الكثير والتجني الكثير.
يقول حضرته: (لكم وزنات ولي وزنتي).
ولكن أية وزنة هي هذه التي يريد أن يتاجر بها.
إنها وزنة جد راجحة عنده وقد يبلو في سبيلها كل عناء إلا أنه لن يتخلى عنها مهما لاقى من عنت وإرهاق، ولن يستطيع أن يثنيه عن إيمانه بها ثان على حد قوله: (وما تحرجوني فلن تخرجوني).
وسيبقى ذلك الصابر الذي لا يتزحزح عن عقيدته ولو رجمه الناس:
لئن ترجموني غفرت لكم ... وإن تتبعوني ففي ذمتي
فكأنه بطل من أبطال الإيمان الأولين يضحي في سبيل عقيدته حتى بالنفس، ومثل هذا السخاء يقدر ولكنه في غير الأدب، والصبر والإيمان محمودان ولكن في غير هذا الشأن لاسيما وهو لا يعود على الأمة أو على الأدب بخير، حتى ولا على صاحبه بشبه خير أو فائدة.
فالأدب ميدان تقرع فيه الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان ومن قويت حجته رجحت كفته ومشى وراءه تابعوه وإلا خذل وانفرط من حوله حتى عقد المقربين.
وإيثار المعنى مستحب ما في ذلك ريب ولكن الاستهتار باللفظ من اجل المعنى مجتوى مذموم، وإننا لنلوم الأستاذ قازان لوما شديدا عندما نراه يلجأ في أداء معانية إلى اللفظ السقيم لا عن جهل أو قصور ولكن عن سابق تعمد وتصميم، على تعبير أهل القانون، كما يؤكد ذلك صديقة الأستاذ توفيق ضعون عضو العصبة الأندلسية في البرازيل وواضع مقدمة (معلقة الأرز).
ونحن لسنا من المتزمتين ولا المتعنتين في تمسكنا بقواعد اللغة وأوزان الشعر، ولسنا من دعاة التقيد ولا الجمود إن أهبنا بالأدباء أن يلزموا في بيانهم وجه الصواب، ولكنا من دعاة التجدد مثله إلا أن الفرق بيننا هو في تحديد معنى التجديد. إننا من الأولي يطربهم المعنى الجميل ولكن في اللفظ الجميل، وتهزهم الفكرة الفذة ولكن إذا صيغت في قالب مصقول، لأننا نربأ أن تصبح اللغة فوضى في حين أن لها ضوابط وقواعد يتحتم على من يريد الإبانة فيها أن يتقنها.
إننا نضن بها أن تنحدر من سمتها الرفيع إلى حضيض اللحن الوضيع.
وماذا يحل باللغة لو ترك الحبل فيها للأدباء على غاربة يصوغ كل متأدب ألفاظه على هداه، وينظم كل شاعر أبياته على منحاه يخبط في ألفاظه وفي قوافيه، والألفاظ أكسية المعاني ترفل في المنمق منها وتتيه، وتسمج في السخيف وتشوه.
وإن كان الأستاذ قازان يحسب أن الاستهتار باللغة من دواعي التجديد، فقد أخطأ كل الخطأ.
إن مجال التجديد رحب، وإنه ليستطيع أن يزاوج بين ألفاظه كما فعل البحتري من قبل، ويأتينا ببيان مرموق فيه كل الجدة والطرافة دون أن يلجأ إلى الحوشي الغريب من الكلمات، والبيان نفسه يستنكر استعمال اللفظ غير المأنوس.
والمزاوجة بين الألفاظ وحدها منزلة عليا من منازل البيان ومرتبة سامية من مراتبه يستطيع الأديب أن يرقى إليها إذا جشم نفسه قليلا من التدقيق والتعمق والمران.
ويستطيع الشاعر إن كان من ذوي القدرة على التوليد والابتكار، ومن ذوي المواهب، أن يتعدى نطاق الأوزان المعروفة، على أن يأتينا بشعر سائغ موزون كما فعل بعض شعراء الأندلس من قبل. والشعر كالموسيقى تلزمه الأذن المرهفة، والحس الدقيق والخيال السمح، ومن أوتيها أوتي حظا كبيرا، وتمكنه من غير جهد ولا عنت أن يمهر الأدب بقصائد خالدة تبقى جدتها خالدة على الدهر.
ثم ليس من التجديد في كثير أو قليل، ولا من رعاية حق الأدب وحرمة الأدباء في شئ أن يطعن المعاصر أدباءنا الأقدمين وأن يقول الأستاذ قازان في (شوقي) ومريديه مثلا، وقد حسب فيهم أصنام الأدب:
دعاة الأمير سلام عليكم ... من الخارجين على الدعوة
لقد طلع الفجر من غمده ... وبان اللبابُ من القشرة
ومات الأمير عليه السلام ... فماذا لديكم سوى الجثة؟
عفا الله عنه عفا الله عنه ... فلا يستحق سوى الرحمة
فشاعر له مكانته الرفيعة في الشعر وله أياديه البيضاء على الأدب، شاعر كان من أترابه الشعراء في الطليعة بخياله الوثاب، وأسلوبه الرفيع، لا يجوز أن يقال فيه، وهو الذي مهر التراث الأدبي بحافل من روائعه التي خلفها للأجيال من بعده تنطق عنه، مثل هذا القول!
إننا لا نستصوب الإمارة في الشعر ولا الملكية في الأدب، ولكن عدم مشايعتنا لهذا الرأي لا يمنعنا أن نثبت الحق لذويه ولا يحفزنا للطعن فيهم.
أما تحديد الشعر وكيف يجب أن نفهمه فيعرفنا إياهما الشاعر بقولة:
فلو كان معنى الحياة لعمري ... بخطٍّ تآلفَ في صورةِ وكان جمال الحسان الملاحِ ... بكحل العيونِ وبالزينة
وكان الشبابُ وعزمُ الشباب ... بحسنِ الوجوه وبالبزَّة
وكنتُ وكنتم بأجسادنا ... لقلتُ: هو الشعرُ باللفظة
ولكنه الشعر روحٌ بنا ... ولكنه الشعر في الخلجة
فما الشعر بالكأس براقةً ... ولكنه الشعرُ في الخمرةِ
وفي هذا بعض الحق لا الحق كله. وإننا لنسأل الشاعر: ألا يشين الجمال تستره بالأطمار ويحط من قدر الغانية الرائعة الحسن ارتداؤها الرث الخلق من الثياب؟
أجل، إننا لنجاريه في رأيه ولكن إلى حد، فليست الكأس هي التي تهزنا وإنما الخمر التي فيها.
ولكن ألا يعرض عن احتساء تلك الخمر إذا أديرت على الشاربين في كؤوس لا تهفو إليها النفوس وتتأبى منها الشفاه!
إننا لنميز الجمال حين يتشح بالأطمار ولكنه سرعان ما تصدر من قلوبنا لدى رؤيته آهة ملؤها التحسر والتمني، آسفين أن تدفنه تلك الأطمار متمنين لو يسبغ عليه كساء يلائم سناه ليبدو بما هو جدير به وأهل له، فتنة للناظر ومتعة للخاطر.
وإننا نود أن نحبس تلك الآهة ونكبت ذلك التمني لدى مرأى الحسن، ولن نستطيع ذلك إلا إذا كان رافلا في حلله الزاهية القشيبة.
والديباجة المشرقة لابد منها للشعر السامي؛ والديباجة المشرقة هي التي تعوز صاحب معلقة الأرز، وخلو القصيدة من الكبوات والهفوات هو ما يتطلبه الشعر العالي، والهفوات وقع فيها شاعرنا كذلك.
ولئن غفرنا له سناد التأسيس في قولة:
وبت ولي مقلة الجائعين ... كأعمى يفتش عن إبرة
فلا في القديم ولا في الجديد ... (مسكت؟) طريقي إلى غايتي
وسناد التأسيس من عيوب القافية. أو سناد الردف في قوله:
فلو كان معنى الحياة لعمري ... بخط تآلف في صورة
وكان الشباب وعزم الشباب ... بحسن الوجوه وبالبزة وسناد الردف من عيوب القافية أيضا. أو الجوازات الشعرية المستهجنة كقطع همزة الوصل في قولة:
إذا صار أمسي ويومي غدا ... فيارب اضرب على مقلتي
أو الأخطاء في استعمال الألفاظ كقولة:
وسبحان ربيَ معين العطاءِ ... يخصُّ النباهةَ بالنملةِ
وصوابها: يخص النملةَ بالنباهة.
أو أخطاء اللغة كقوله:
ربيتُ طليقاً على فطرتي ... ويا ما أُحيلى طفوليتي
وصوابها: طفولتي، ومثلها ألوهيتي في قوله:
فترتُ وثارت أنانيتي ... فضعتُ وضاعت ألوهيتي
وصوابها ألوهتي. الخ
أجل، لئن غفرنا له هذه الأخطاء وأمثالها مما قد يقع فيه كل متأدب، فلن نغفر له تساهله في استعمال الأخطاء وحشرها في أبياته بين قوسين دلالة على معرفته لها وتعمده استعمالها.
وتعمد استعمال الأخطاء خطيئة مضاعفة يلام عليها صاحبها أشد اللوم وأعنفه وما نحسب أنفسنا مغالين في هذا أو مسرفين.
وإنه ليعز علينا أن يتجنى بعض المجددين على ما يعدونه قديما فتعمى بصائرهم لا عن جمال البيان وروعة الأداء فحسب، بل عن روعة الأفكار التي يريدون حمل لوائها؛ كما يعز علينا كذلك أن يتجنى بعض المحافظين على القائلين بالتجدد والآخذين بأسبابه.
وقول الأستاذ قازان إنه لم يعثر في قديم الشعر على معنى طريف يستوقفه، وإنه غاص فيه إلى أعماقه، فلم يرو نفسه العطشى:
(فكنت وبي عطش قاتلٌ ... كمن يشربُ الماَء بالشوكة)
خطل ما في ذلك ريب بل ضلال عن وجه الحق والصواب.
ولقد وقع في مثل خطأه من قام بالأمس يجرد المنفلوطي من أدبه في إحدى المجلات الأدبية البيروتية. وصدور مثل هذه الآراء عن أدباء الجيل الطالع من الشباب تجن ما بعده تجن، ولا يقل عن هذا بعدا عن الحق قول الدكتور عمر فروج في (جبران خليل جبران) في العدد 33 من مجلة (الآمالي) البيروتية الصادر في 14 نيسان في مقال (الخالدون في الأدب) حيث قال فيه بعد أن عدد مزايا الأديب وعناصر أدبه:
(هذه هي العناصر الأولية التي لا يجوز لنا أن نطلق لفظة أديب على رجل إلا بها وجبران مجرد منها جميعا)
وقوله في المقال نفسه: (للأدب كما قدمنا مقاييس مشهورة لا يتمتع جبران بواحدة منها)
فنفي الأدب عن أديب كبير كجبران كنفيه عن أديب كبير كالمنفلوطي. وإن ما فيه من التجني والظلم، إن وقع فيه الأدباء الناشئون فلا يصح أن يقع فيه أديب كالدكتور عمر فروخ له من ثقافته العالية وذوقه الأدبي الممتاز ما يعصمه عن مثل هذا الشطط.
ومعلقة الأرز ما عدا ذلك فيها شاعرية وثابة يحق لنا أن نستبشر منها بالخير فإن من يقول:
إذا الشعر سُخِّر في أمة ... فصلِّ ورّحم على الأمَّة
ومن يقول:
(فلا لفني الليل في برده ... إذا لم أمزّق به بردتي
ولا طلعَ الفجرُ يوماً عليَّ ... إذا لم يلدني مع الطلعة)
ومن يستشهد بقول النبي:
(إن تحت العرش كنوزاً مفاتيحها ألسنة الشعراء)
لشاعرٌ لن يكبل نفسه بأوضاع المناسبات، ولن يسخر ضميره لما لا يشعر به ولا يحس؛ شاعر طموح نأمل أن يأتينا بالعذب المبتكر من الشعر النابض الحي، وأن يفتتح بخياله الوثاب بعض الكنوز المغلقة تحت عرش السماء.
ومعلقة الأرز تزخر بعد هذا بالحنين، حنين المغترب إلى وطنه الحبيب، وله في ذلك أبيات رقيقة صادرة عن نفس صهرتها الأشواق، آثر فيها بلاده وأمته على بلاد العالم وأممه جميعاً.
أقول بقاع الدنى حلوة ... وأحلى بقاع الدنى بقعتي
فلا، أريد سوى موطني ... ولا، لا أحب سوى أمتي
وقوله في (أنشودة الغريب) وفيها رقة وعاطفة، يخاطب لبنان:
رويت من (دمي؟!) ... غذيت من لحمي يا حاضناً أمي ... يا ثرى لبنان
هل يرجع الغريب ... للوطن الحبيب
وتهتف القلوب ... مرحباً لبنان
الأرز والوادي ... يا مهد أجدادي
يا أرض ميعادي ... يا ثرى لبنان
ثم لا أرى بدأ قبل أن أختم مقالي من أن أقول إن لشعر قازان ميزة أخرى هي الصدق في التعبير عن خلجات نفسه تعبيراً لا مداورة فيه ولا رياء وذلك عائد إلى ما يتراءى لنا من حبه الحق ولو كان عليه ولثقته بنفسه ثقة كبيرة، ومن ثم جاء شعره خالياً من كل بهرج وكل طلاء وتجلت فيه مزايا النفس الجريئة الأبية كقوله عن نفسه:
وليس التملق من شيمتي ... وليس التأنق من نزعتي
فإني ترعرعت بين الجبال ... على البأس والفقر والشدة
ومن عاش مثلي على جرأة ... فلا يستلذ سوى الجرأة
فإما نطقت نطقت بحق ... وإما سكت فعن عفة
وما نخاله فيما قاله عن نفسه إلا صادقاً، والصدق على ما نعتقد من أجل ميزات الأديب؛ وصاحب معلقة الأرز عنده من المزايا الأدبية ما يفسح له في دولة الشعر مجالاً رحباً يمشي فيه إلى غايته المثلى، ولا يعوزه إلا صقل ديباجته وتهذيب بيانه، وليس ذلك على مثله بعزيز. فإن له من ملكته الفنية خير مسعف ومن خياله الوثاب خير معوان.
فليوطن النفس على إجادة مبانيه لتوافق معانيه إن كان يريد أن يتبوأ المنزلة الرفيعة التي تصبو إليها النفس الطموح.
(بيروت)
جورج سلستي