الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 318/الجبرية والاختيار

مجلة الرسالة/العدد 318/الجبرية والاختيار

مجلة الرسالة - العدد 318
الجبرية والاختيار
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 07 - 08 - 1939


في كتاب الفصول والغايات

(مهداة إلى الأستاذ محمود حسن زناتي)

للأديب السيد محمد العزاوي

- 1 -

. . . وقول الحق أمثل من السكون، واستقامة العالم لا تكون، ولذة الدنيا مقطعة، وخبر الميت غير جلي، إلا أنه قد لقي ما حذر، فاسع لنفسك الخاطئة في الصلاح.

من المسائل التي واجهت الباحثين والفلاسفة منذ زمن بعيد مسألة الجبر والاختيار؛ تكلم فيها اليونان والفرس، ونقلها عن اليونان السريان، وخاض فيها النصارى حينما تفلسفت ديانتهم، وتكلم فيها الكلاميون من المسلمين. وكانت تتلون في مراحلها وتختلف باختلاف هذه المدارس. فإذا تكلم فيها الفلاسفة قصدوا إلى غرض فلسفي بحت: وهو تفسير الكون ومظاهره تفسيرا ما؛ وإذا تكلم فيها الأخلاقيون قصدوا إلى غرض اجتماعي: هو النظر في المجتمع ونقده، وإصلاحه أو محاولة ذلك؛ وإذا تكلم فيها أهل الدين فإنما يلتمسون من بحثها تخريجات تبرر مسئولية الفرد عن أعماله، وتقيم فكرة البعث والحساب والعقاب على أسس تختلف قوة وضعفاً.

والفلاسفة يعنيهم أن يتفهموا الكون وحركاته، كل ما يجرى فيه اهو ضروري ناتج عن إرادة مسيطرة متصرفة، أم هو نتيجة اتفاق بحت لا يربطه قانون أو تقيده قواعد. وهم بعد ذلك ينتقلون إلى الإنسان مظهر هذه المشكلة اهو مخير فيما يفعل، بمعنى أن لا شئ يمنعه من إتيان عمل ما، أو يدفعه إلى فعله، بمعنى أن أمره موكول إلى إرادته الخاضعة للمؤثرات الخارجية من ظروف وصدف. أم هو مجبر فيما يفعل بمعنى أن قوة تدفعه إلى أن يفعل ما يأتيه مجبرا، فهو كالعالم منضبط بتلك القوة التي تسيطر عليه، خاضع لنفس القوانين التي يخضع لها هذا الكون.

والأخلاقيون يعنيهم البحث في الأفعال الإنسانية من حيث هي صادرة عن التكوين الخلقي للإنسان فقط ولا أثر لعامل خارجي عليها، أو أن النظم الاجتماعية والظروف الطبيع يعيش الفرد تحت تأثيرها تعينان نوع الأفعال الصادرة عن الإنسان؛ وبأي معنى من المعاني يعتبر المرء حرا على هذا الأساس. وعلى أية فسواء اتفق الأخلاقيون في وجهات نظرهم إلى تلك المسألة أم اختلفوا فهم متفقون في الغرض، وهو إصلاح المجتمع وتهذيبه.

أما رجال الدين والكلاميون من المسلمين فقد خاضوا فيها وكان همهم الأول البرهنة على أن الإنسان إما خالق لأفعاله فهو مسئول عنها أمام الله في القيامة، ويحق عليه الجزاء ثوابا وعقابا؛ أو أن الإنسان وأفعاله من خلق الله فلا يكون ثمة حساب أو عقاب؛ وهمهم الثاني هو البحث في معرفة الله لما يحدث: أهي قبل الحدث أم بعده.

والكلام في القدر لم ينشأ إلا في الشام والبحرين على خلاف في اسبق القطرين إلى الخوض فيه. ثم إنه نشأ دخيلا على الإسلام: أعني أن أول من تكلم فيه كان نصرانيا وأسلم ثم تنصر، وأخذ عنه معبد الجهني وغيلان الدمشقي. كان هذا بدء الكلام في القدر. وقد أتاحت الخلافات السياسية حول الخلافة لهذه الأبحاث أن تروج وتتضخم، وأن تنقسم وتتكاثر. فإن الخلافة كانت مصدر القلاقل والفتن في أيام الخلفاء الراشدين، وإن الفتن أنتجت شيعة وخوارج ومرجئة ومعتزلة وأزارقة وأشاعرة إلى غير هذه الفرق التي تختلف فيما بينها بالرأي في الخلافة والخليفة غالباً. والذي يعنينا هنا فرقتان من هذه الفرق العديدة: المعتزلة، والجهمية. فقد كانت آراؤهما أروج الآراء انتشاراً في هذا الباب.

أما الجهمية فقد كانت تقول بالجبرية المطلقة أي إن الإنسان كالجماد وأن الله يخلق فيه الأفعال كما يخلقها في الجماد، ويجبر عليه الحساب ثوابا وعقابا.

أما المعتزلة فقد تكونت على أثر خلاف في مرتكب الكبيرة اهو كافر خالد في النار. وقد قالوا بأن الله لا يخلق أفعال الناس بل هم يخلقونها، وبان الله لا صفات له غير ذاته. فشاركوا الجهمية في هذا الأصل، وقد أقروا بسلطة العقل وقدرته على الحكم بالحسن والقبح العقليين.

ولو كان الأمر في هذه الفرق قاصرا على حد الكلام والاستعانة بالفلسفة اليونانية وغيرها لما كان لها هذه الأهمية التي شغلتها. ذلك بأنها كانت تريد بسط تعاليمها على الواقع العملي. فالمعتزلة حين قرروا مبدأ حرية الإنسان كانوا يريدون من ذلك أن الناس مسؤولون عما يقومون به من حروب ومنازعات؛ وحين قرروا مبدأ السلطان العقلي كانوا يريدون القياس في الحكم. وذلك أمر لم يقره أهل السنة وكان سبب خلاف كبير. وقد تمكنوا أن يسيطروا على الواقع السياسي مدة من العصر الأموي الأخير؛ فقد اعتنق مبادئهم يزيد الناقص ومروان بن محمد وأخوه إبراهيم.

والمهم أنه ما كاد يأتي القرن الثالث والرابع، حتى كان علم الكلام قد نضج نضجا، وحتى ترجم إلى العربية فلسفات كثيرة، وحتى اختلط ذلك كله بالدين والعقائد. وقد عملت أحداث السياسة وفتن الرأي على إضعاف الدولة واضمحلال الملك. وكان الشام هو مرجل فتن الرأي والدين والفلسفة والسياسة جميعا. كان هو والعراق فقط، أما ما عدا ذلك من أنحاء الدولة الإسلامية فقد كان مستقرا نوع استقرار.

في هذا الوسط المضطرب المحتدم نشأ أبو العلاء، وتنقل بين أرجائه ما بين المعرة وحلب وبغداد، فشارف ما كان بعصره من الفلسفات اليونانية والإسلامية والمسيحية واليهودية والمجوسية وكانت من عناصر ثقافته، هذا إلى نظراته الخاصة ولمحاته الشعرية العديدة.

ولم يحاول أبو العلاء في (الفصول والغايات) أن يسلك هذا المسلك الذي نراه من تقيد فني باللفظ ولزوم ما لا يلزم ونظام الفصول والغايات والنغم والموسيقى، إلى غير ذلك من الفنون النثرية ليدل على مقدرته الفنية، أو يبرهن على سعة اطلاعه ومعرفته بأخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم، وذكاء فؤاده اللماح، بل أنا أوشك أن أقول بأنه قد سلك ذلك حتى يصرف الناس إلى ظواهر الأشياء، حتى لا يصيبه أذى من السفهاء، وحتى يأخذ كل من معانيه ما يلائمه وما يستطيعه عقله ويقبله ذهنه. فهذا أمر يوجب الجذر حين نتلقى عن المعري آراءه. وأمر ثان هو أن المعري كان منعزلاً لا هم له إلا تقرّي نفسه وملاحظتها ملاحظة دقيقة. وقد يحتاج أحيانا إلى الترويح والتسلية، وكان يعمد إلى هذا النوع من اللهو بالمعاني والألفاظ، وذلك واضح جدا في فنه اللفظي على الأقل. فعندما نسمع قول المعري يجب أن نحتاط قليلا، فربما حمله العبث باللفظ على شئ من الاعتساف في المعنى، أو اندفع إلى معنى غريب غير مقصود في سبيل أن يستقيم له فنه اللفظي الذي أخذ نفسه به أخذا عنيفا، وكثيرا ما شط به المعنى عن اللفظ. يجب أن نحتاط إذن حينما نسجل على المعري آراءه، فنحن لا نعرف متى كان المعري هازلا، ومتى كان جادا في عبثه بالألفاظ والمعاني. وأمر ثالث يجب أن نلتفت إليه: فهو قد يرى آراء يحرص عليها فيدونها على أنها من فلسفته، ويمكن أن تكون آراء لغيره دونها للتصوير والافتنان، ويمكن أن تكون بين بين: أعني أنها خواطر عرضت له كما تخطر الخواطر لأي شاعر سواء تعارضت مع مبادئه العامة أو اتفقت. فلا عجب إذا رأيته يحدثك بان الإنسان مجبور في كل أعماله وتصرفاته، ثم يأتي فيذكر لك أن للمخلوق في الأقدار تصريفا! فهذا لا مرد له إلا ما قلت من أمر عبثه بتلك الخواطر السوانح له في خلوته، وحرصه على تدوينها متفننا مبتدعا مستعينا على ذلك بما علم من شعر الأقدمين وأخبارهم وعلومهم.

وأبو العلاء يقول بالجبر المطلق في أفعال الإنسان وأعماله، ويرتب على ذلك نتائج اجتماعية خطيرة، وآراء فلسفية خطيرة كذلك.

ونحن إذا أردنا أن نلتمس نظرية الجبر عنده فلن نجدها مجموعة في مكان وأحد، ولا هو يعالجها بأسلوب وأحد، وإنما أنت تقرا الكتاب جميعا فتجده ينطق جبرية، إذ لا يكاد فصل من الفصول يخلو من الجبر تلميحا أو تصريحا أو رمزاً. فهو ساخر مرة، ثائر أخرى، هادئ أحيانا، ممجد قنوع في اكثر الكتاب. على أن تقريره الجبر المطلق أوقعه في حيره وارتياب كبيرين، فمن الناحية الدينية لا تستطيع أن تستبين رأيه في التكليف ولا في البعث فهو مضطرب فيهما أشد اضطراب، ذلك لان الجبرية إما أن الله يقدر عليك العمل ويقدر عليك الجزاء كما تقول الجهمية، وهو عبث يأباه المعري على الله؛ وإما أن تقدر عليك العمل ولا جزاء، وهو ما يلائم المعقول حالة تقدير العمل، ولكنه يخالف الدين صراحة. والمعري في كل أحواله آخذ بما يرى العقل. والعقل هو الذي هداه إلى أن الجبر مسلم به، لأن كل شئ في هذه الحياة إنما هو نتيجة لشيء كان قبله ومقدمة لما يأتي بعده، وإلا إذا كان الأمر اختيارا فإما أن يكون متصلا بما قبله وما بعده، اتصال العلة بمعلولها فيكون الجبر بعينه، أو أن يكون الأمر فوضى واضطرابا وهو ما لا يثبته الواقع الخارجي.

ولست بسبيل أن أدافع عن نظرية الجبر، أو أتكلم عنها مطلقة، ولكني أثبت صفات الفلسفة العلائية صحت أو لم تصح. وأقرر أنه اعتمد على العقل في كل أحواله، وعلى العقل فقط؛ فما قام عليه دليل العقل احترامه واعتنقه، وما لم يقم عليه دليل أو خرج عن حيز العقل وقف منه المعري موقفا يختلف رفضا وشكا، لا يصلان إلى درجة الإنكار المحض، ولا الإيمان المسلّم، وخاصة إذا كان الأمر يمس الدين والقدرة الإلهية من قريب أو بعيد.

ولكن ذلك قد يدفع المرء إلى أن يتساءل هل أخذ أبو العلاء بهذا الأصل في كل فلسفته؟ قد يكون أخذ به في اللزوميات من بعد، ولكنه في (الفصول والغايات) يصرح بأنه (يدرك العلم بثلاثة أشياء: بالقياس الثابت، والعيان المدرك، والخبر المتواتر. فأما الحس فزجر طير هي خليقة بالكذب، وإن صدقت فباتفاق؛ والعلم لله كملا) وقد توفر للمعري اثنان من مدركات العلم، ولكنه أهمل المتواتر حرصا منه على الحقيقة، واحترازا مما قد يكون أصابها من خطا أو تحريف. فإذا خُبِّر خبر الجرادتين اللتين غنتا لوفد عاد تساءل: (ما قالت الجرادتان لوفد عاد؟ قالتا ما الله به عليم، طال الزمن فلم يعلم القيل. . .) فعلمها عند الله وحده؛ وسواء سلم بصحة الحادث، ورفض المروى، أو رفض الخبر أصلا فهو لا يعتمده في شئ مصدرا من مصادر العلم أو اكتسابه، فلم يبق له إلا القياس الثابت: حكم العقل، فهو يهتدي به ويتخذه نبراسه في كل أموره وشؤون فكره، وهو مع ذلك كثير الشك كثير التساؤل كثير الحيرة، يحس ذلك من نفسه فيعترف به اعترافا صريحا إذ يقول (أدلج وأدلج، وإذا سئلت فأنا ملجلج، والله للمنصف ظهير). . لا يجزم بشيء ولكنه مؤدب اشد الأدب، يتساءل في عجب بدل أن يعترض أو يثور. وهو منطقي النهج في التفكير يقدم المقدمات، ويستنتج النتائج ويقيس عليها قياسا منضبطا. فانظر إلى هذا القياس المنطقي الدقيق (المدمن على اللهو، خدن الغفلة والسهو، المنتقل من بهو إلى بهو، ملئ من الكبر والزهو، يسبح في عيش رهو، يسأل عن الطعام والطهو، أخسر صفقه من شيخ مهو) هذا قياس منطقي سليم؛ فهو يؤكد أن الشاب المرح خاسر، وهو لا يعفي الشيخ من الخسر كذلك، ولكنه لا يدري أتؤيد الحقيقة هذا القياس فيقول (فدلني ربي على الرباح).

وحين تتعارض وسيلته هذه مع الحقيقة أو الواقع يتحير فيقول: (هكذا يقول المعقول ولله نظر في العالم دقيق). وهو يوصيك بأنك (إن سمعت أن الرقيع أمطر جندلاً، وأنبتت البقيع حنظلا. فقل: أما في المعقول فلا، وأما في القدرة فبلى) فهو هنا يثبت بان الله حكمة وقدرة أعظم من أن يتصورها العقل أو يدركها، ويسجل أن الله قدير لا تتقيد قدرته بمعقول أو غير معقول، ولكن ذلك لم يمنعه أن يعمل عقله فينتهي به هذا إلى استحالة ذهنية، فهو يقر بهذا العجز المطلق عن إدراك أغراض القوة الخفية؛ وهو إذا ما فكر وأطال التفكير في الجبر والاختيار والثواب والعقاب فدان بالجبر وأنكر الثواب والعقاب كما يرشده إلى ذلك عقله استدرك وكر متراجعا في حيطة وحذر (فسُبحان الخالقِ غافِراً ومُعذِّباً، آلرّشدُ دفينٌ، أمْ أنا أفينٌ؟ قَدْ عشتُ زمناً فما رِشتُ، ابْرِكي يا مَطِيّة فهذا المناخُ).

ولعل عجزه عن أن يقيم أقضيه العقل على حكمة الله قد دفعه في يسير من وقت أن يقر الخيرة للإنسان. فنجده يمجد الله تعالى (مَنْ خارَ لِعبادِهَِ وهُمْ للخيرَةِ كارهون) ويسأل الإنسان متعجبا أن (ما يَمْنعكَ أنْ تَتَّخذَ الْقِسِيَّ وأنتَ في بِلادِ الضَّالِ)، ويحض المرء أن (دَعْ ما ضَرَ وصَعُبْ عَلَى مَا نَفَعَ وَهانَ، وَخلِّ ما غَمَرَ إلى ما غَمَّرَ واتركْ المِضلَّة إلَى المرشدةِ، فَإن طُرَقَ الخيرِ كثيرٌ) ولكننا سنرى المعري في كل الكتاب يقرر ويقرر (أنَّ رَبَّنَا المُوَفِّقَ لجَمِيعِ السَّدَادِ) وأنك (لَنْ تَقْضِيَ أَمْراً إلاّ بِالْقَضَاءِ).

وحيرته هذه ناشئة من طبيعة وسيلته إلى العلم. ذلك بأنه مؤمن بان العقل وحده هو الموصل إلى العلم، وهو واثق من أنه ما دام قد أوصله العقل إلى الطبيعة فلا بد أن يصل به إلى ما بعد الطبيعة. وهو مؤمن كذلك بان الله خلق هذا الكون عن حكمة.

(للبحث صلة)

السيد محمد العزاوي