مجلة الرسالة/العدد 317/مشكلة اليهود في العالم
→ حول كتاب: | مجلة الرسالة - العدد 317 مشكلة اليهود في العالم [[مؤلف:|]] |
جناية أحمد أمين على الأدب العربي ← |
بتاريخ: 31 - 07 - 1939 |
للأستاذ عبد الرحمن شكري
إن الذي يدرس تاريخ اليهود من قديم الزمن يعرف أن العوامل التي تتنازع سياستهم ليست حديثة العهد، وأن مواقف الأمم الأخرى منهم في هذا العصر كانت لها أشباه ونظائر في عصور التاريخ المختلفة في عهد قدماء المصريين والبابليين والآشوريين والفرس والإغريق والرومان. فمسألة اليهود كانت موجودة حتى قبل أن يفقدوا استقلال شعبهم وقبل أن يخرب طيطوس ابن الإمبراطور الروماني فسباسيان معبدهم وقبل أن يقضي على أورشليم، وقبل أن يتشتت اليهود في العالم. بل هي كانت موجودة قبل ذلك عند أسرهم، ونقل الكثير منهم إلى بابل وهو المعروف في التاريخ باسم أسر بابل وكانت موجودة عندما سمح لهم قورش ملك الفرس بالعودة وإعادة بناء أورشليم، وعندما شجعهم في أعمالهم المالية كي ينشط التجارة في دولته. ويتنازع نفوس اليهود من قديم الزمن عاملان: النزعة العالمية، والنزعة الشعبية المصطبغة بصبغة دينية. وقد كانت متاعب اليهود قديماً وحديثاً ناشئة من استفحال النزعتين وتنازعهما نفوسهما؛ فتارة يوقعهم الغلو في المحافظة على تقاليد النزعة الشعبية الدينية في نزاع مع الدول الأخرى، وتارة يوقعهم الغلو في النزعة العالمية في ذلك النزاع. وقد كانت النزعة العالمية تظهر في نفوسهم في بعض الأحايين بمظهر اقتصادي مالي فيحاولون السيطرة على أسواق العالم المالية، وتارة تظهر النزعة العالمية بمظهر الدعوة إلى مُثُل عليا. وكان بعضهم يريد قصر تحقيق هذه المثل على اليهود، وهؤلاء هم الذين كانوا يناصرون النزعة الشعبية الدينية، وبعضهم لا يريد قصرها على اليهود بل تعميمها في العالم. والغريب في أمرهم أنه بالرغم من المشاحنات والاقتتال الذي كان يحدث قديماً بين اليهود من أنصار المحافظة على تقاليد النزعة الشعبية الدينية وبين أنصار النزعة العالمية، وبالرغم من أن النزعة العالمية في نفوس بعضهم كانت تتخذ مظهر الأثرة المالية والطباع الدنيوية الراغبة في الربح المالي قبل كل شيء، وهي طباع تخالف نزعة المثل العليا وتخالف التضحية في سبيل تحقيقها، فإن كثيراً منهم كان يحاول التوفيق في نفسه بين النزعتين المتناقضتين أو يحن تارة إلى هذه وتارة إلى تلك، كما أن بعضهم كان يحاول الاستفادة لنفسه أو للشعب اليهودي من النزعتين المتناقضتين معاً.
فاليهودي الذي يميل إلى المثل العليا أو الذي يميل إلى المحافظة على تقاليد النزعة الشعبية الدينية لا يرى حرجاً في أن يلتجئ إلى صاحب النزعة العالمية المالية والطباع الدنيوية لاستخدام ماله وسلطته في سبيل تحقيق مثله العليا أو في سبيل المحافظة على التقاليد الشعبية الدينية لضيقة التي ترفض النزعة العالمية، كما أن صاحب الطباع الدنيوية والأثرة المالية لا يرى تناقضاً في خطته إذا حن إلى المثل العليا التي قد تخالف نزعة أثرته الدنيوية، أو إذا ساعد في المحافظة على تقاليد النزعة الشعبية الدينية الضيقة التي تخالف نزعته العالمية الدنيوية، وربما حن إلى المثل العليا ذلك الحنين الذي يدعو إلى التضحية في سبيلها في الوقت الذي يستثمر الدعوة إلى تلك المثل العليا لكسب المال وزيادة نفوذه الاقتصادي. واجتماع هذه النزعات المختلفة في النفس الواحدة ليس مقصوراً على اليهودي فهي طباع النفوس البشرية عامة، ولكن هذا التناقض أظهر ما يكون في اليهود لغلوهم في النزعتين المتناقضتين غلواً يظهر الفرق بينهما في نفوسهم أكبر منه في نفوس غيرهم. وقد ظهر اليهود قديماً وحديثاً ظهوراً كبيراً في مناصرة النزعتين المتناقضتين، وهذا أدى كما ذكرت إلى مشاحنات بين طوائفهم وإلى مشاحنات بينهم وبين الأمم. وقد ظهرت النزعة العالمية في حياة اليهود على اختلاف مظهري تلك النزعة أي المظهر المالي الاقتصادي ومظهر المثل العليا قبل أن يفقد اليهود كل سلطة سياسية في حكم فلسطين. فظهرت في دولة الفرس وظهرت في دولة الرومان
على أن فقدانهم كل سلطة سياسية في حكومة فلسطين لم يوهن النزعة الشعبية الدينية في نفوسهم وإن كان قد ساعد على استفحال النزعة العالمية. وتحريم الكنيسة المسيحية على المسيحيين تقاضي الربح عند تسليف النقود واعتباره ربا أدى إلى ما يشبه احتكاراً من اليهود للمعاملات المالية وإلى سيطرتهم على الأسواق المالية في أوربا، وهذا قوى النزعة العالمية في نفوسهم كما أدت النزعة الشعبية الدينية إلى مناصرة بعضهم بعضاً؛ وزادت هذه المناصرة إذ وجدوا أنفسهم قلة يهودية في وسط كثرة غير يهودية من الشعوب التي هاجروا إليها. وشأن القلة من الطوائف التعاون حتى لا تغمرها الكثرة ولا سيما إذا كانت الكثرة كثرة تبغض القلة. وزاد البغض الديني في نفوس الكثرة أولاً استيلاء اليهود على الأسواق المالية بالتسليف؛ وثانياً عواقب مناصرة اليهود بعضهم لبعض من استيلائهم على كثير من المهن التي تحتاج الأعمال الفكرية والاستعداد العلمي والفني. وبالرغم من أن بعض اليهود حاول معالجة هذا البغض والقضاء على الكره الذي كان غير اليهود يشعرون به نحوهم بالاندماج في الأجناس الأوربية اندماجاً تاماً، فإن الكثرة من اليهود بقيت محافظة على تقاليد النزعة الشعبية الدينية. ولو أن النزعة العالمية غلبت على نفوسهم كل الغلبة لتمكنوا من الاندماج في الشعوب التي استوطنوا أرضها. وهذا الاندماج كان ينسي تلك الشعوب أن اليهود في أصلهم أجانب، وهذا كان يزيل البغض الذي كانت آحاد تلك الشعوب تشعر به نحوهم، وكان يستطيع اليهود أن ينعموا بميزة القدرة على كسب المال، ولكن ربما كانت تلك القدرة تقل لو تم ذلك الاندماج لأنه كان ينسيهم اختلاف جنسهم عن الأجناس الأخرى؛ فكان يقضي على مناصرة بعضهم لبعض، وعلى تعاونهم للسيطرة على الأسواق المالية، وعلى المهن الفكرية والعلمية.
وبقاء النزعة الشعبية الدينية في نفوسهم أدى إلى فكرة الصهيونية التي تدعو إلى العودة إلى حكم فلسطين. وهذه الفكرة كانت في أول أمرها مثلاً أعلى كالمثل العليا تحلم بها الإنسانية ولا تحقق. وهذه الفكرة الصهيونية زادت اعتقاد آحاد الشعوب الأوربية أن اليهود بينهم - وإن تجنسوا بجنس غير جنسهم، وإن ضحوا في الحروب وفي غير الحروب لمناصرة الجنس الجديد الذي تجنسوا به - إنما هم أجانب بالرغم من ذلك، وأنهم يعدون أنفسهم أجانب.
وهذه الفكرة الصهيونية مخالفة لمصالح اليهود الاقتصادية؛ فإن قطراً كفلسطين ربما كان يصلح لاستيطانهم قديماً عندما كانوا قليلين وعلى حالة قريبة من البداوة، وعندما كانوا هم الكثرة الغالبة فيه. أما الآن فقد زاد عددهم في العالم وتعددت فوائدهم ومنافعهم العالمية، وصار في هذا القطر كثرة غير كثرتهم من العرب الذين وراء كثرتهم في فلسطين كثرة عربية أخرى في الأقطار المجاورة. ولو خلت فلسطين لليهود لما استطاعت أن تؤوي غير عدد قليل من الملايين العديدة من اليهود. وفي العالم بقاع شاسعة أكثر خصباً تحكمها إنجلترا وغيرها من الأمم المناصرة لليهود. فلا يمكن أن يقال إذاً إن الضرورة والأسباب الدنيوية هي التي تقضي بإسكان المهاجرين اليهود في فلسطين. . . لا، بل تشبث اليهود بفلسطين هو تشبث بتلك النزعة الشعبية الدينية التي تفضل التقاليد القديمة والتي تحاول أن تعكس دورة الزمن وأن تعيد العالم كما كان في بدايته وأن تتجاهل حقائق الحياة. وهذا من قبيل التشبث، في أمور الحياة لا في عواطف النفس وحدها، بمثل أعلى لا يمكن تحقيقه. وهذا التشبث كما قلنا طالما أوقع اليهود قديماً وحديثاً في قتال ونزاع مع الأجناس المجاورة، وطالما أدى إلى ضياع فائدة اليهود الدنيوية الحقيقية. ولكن حقائق الحياة والضرورة قد تغري اليهود بقبول الاستيطان في بقعة أخصب من فلسطين وأقل سكاناً وأوسع رقعة. ويمكن إرضاء العاطفة الشعبية بأن يسمي ذلك الوطن الجديد (فلسطين الجديدة) أو (صهيون) وأن ينشئوا فيها مدناً تسمى بأسماء المدن القديمة في فلسطين القديمة. ويمكن إرضاء النزعة الدينية بأن ينقلوا من الأحجار والآثار المقدسة، ومن تربة أرض فلسطين القديمة إلى فلسطين الجديدة ما يقدس به الهيكل الجديد وما هو ضروري للدفن الديني المقدس. وهذا الحل يجمع بين إرضاء العاطفة وبين الفائدة الاقتصادية
عبد الرحمن شكري