مجلة الرسالة/العدد 316/محمود صبح
→ رسالة الفن | مجلة الرسالة - العدد 316 محمود صبح [[مؤلف:|]] |
رسالة العلم ← |
بتاريخ: 24 - 07 - 1939 |
من الوجهة الفنية
للأستاذ محمد السيد المويلحي
قد يحمد الفنان إذا اعتز بنتاجه وسما به عن الابتذال والعرض والمقارنة؛ وقد يحمد إذا عرف لنفسه قدرها لأنه أدرى الناس بعبقريته وقوته، وأشدهم إيماناً بإلهامه وتوفيقه
ولكنه لا يحمد ولا يثنى عليه إذا تدرج اعتزازه وإيمانه بقدرته إلى الأنانية التي تحمله على تقديس نفسه وإنكار الجميع. . . الجميع دون استثناء. . .!
ومحمود صبح موسيقي مرهوب موهوب يلم بفنه إلماماً تاماً ويجيد العزف على العود والناي والبيان، وله لون خاص ينفرد به ويعجب جمهرة كبيرة. . . ولكنه يعتقد بل يؤمن إيماناً عميقاً أنه مبعوث العناية الإلهية لإنهاض الرسالة الموسيقية. فعلى كل من ينتمي إليها بوشيجة أن يؤمن به إيمان العجائز فلا نقاش ولا جدال (لأن الذي يستطيع أن يناقشه أو يجادله لم يخلق بعد، ولأن الله سبحانه لا يخلق رسولين في عصر واحد وإلا فسدت الرسالة). هكذا يقول الرسول (محمود صبح) الذي يذكرني (بروبسبيير) الذي آمن بعصمته فكان يعدم كل من يظن فيه المعارضة لآرائه ومبادئه لا لشيء إلا لأنه كافر بالعصمة والفضيلة!
قامة ربعة وإن كانت تميل إلى القصر، تشبه (شوال) الملح لوناً وشكلاً وثقلاً، وإن كانت تمتاز بظرف عجيب. قامة وإن حرمت نور البصر، فقد وهبت قوة هرقلية تستطيع (بفضل الله) أن تجندل من تشاء بضربة فنية قاضية. قامة تجيد كافة الألعاب الرياضية من ملاكمة ومصارعة وحمل أثقال. . .
رأس أودع الله فيه كنزاً غنياً من الفن الأصيل المكين المقتدر المبتكر. حاجبان كثيفان لو وزع شعرهما على عشرة رؤوس (صلعاء) لأصبحت غنية بالشعر القوي. أنف كأنف الصقر يهبط في هدوء وتقوس حتى يستقر عل شكل (هلب كبير). . .!!
وجه ممتلئ طالما زينته العمامة حتى ثار عليها وأبى إلا أن (يتطربش) لتكمل أناقته ورشاقته. . . فم وإن كان يذكر الله كثيراً ويجيد تلاوة كلامه. . . إلا أنه لا يحب أن يغضب الشيطان فيهجر أوامره وإغراءه بل يندفع في سبيل ترضيته فيصف (إخوانه) وزملاءه بوصف (مزخرف) مصنوع في معامل (بولاق) وحوش بردق. . .
أذنان حادتان صارمتان لا تعترفان إلا بنتاج صاحبهما، أما غيره. . . ف (صوء. . . صوء أعوذ بالله، يا ستار العيوب، إيه ده؟؟)
يدان قديرتان ساحرتان إذا صفا صاحبهما أسرتا وسحرتا، وخلقتا قوة وقدرة وفناً أصيلاً نبيلاً. يدان تسجد لهما الموسيقى العربية (البحتة)، ويخضع لهما الفن العالي الذي لا يخضع إلا للقليلين.
صوت هائل كامل شهد له الجميع بالقدرة والقوة والعذوبة وقوة التأثير. أروع من يؤدى (الباص) وأبدع من يحسن (البريتون)، وأرفع من يجيد (التيتور). يتكون من ديوانين ونصف تقريباً لا عيب فيه إلا خلوه من العيب. . . صوت لو استطاعت محطة الإذاعة أن تهيئ له الجلسة الفنية المضبوطة أمام (الميكروفون) لكان آية، ولخلا من تلك العواصف التي تكاد تصم الآذان.
صوت يقلد القطار أدق تقليد، ويحاكي صوت (القلة) أنم محاكاة. ومن ظرف محمود أنه إذا صفا أسمعك بفمه صوت العجين عندما (يلت) حتى لتخاله امرأة منهمكة في (ماجورها). . . أقدر من يلحن الموشحات، ويكفيه فخراً وسمواً وخلوداً أن أعظم مغن بالغاً ما بلغ من القوة والقدرة لا يستطيع أن يحاكيه بواحد من موشحاته لتشعبها، وكثرة أنغامها، ووفرة حركاتها، ودقة تركيبها، وإن حاول فالفشل له بالمرصاد. . .!
فنان موهوب مبتكر بصير بما يصنع، خبير بفنه لا يحاكى ولا يقلد بل له لونه الخاص المعروف لأنه كما قلنا قبلاً لا يؤمن إلا برسالته. لا يعرف شيئاً في القواعد الغربية مع أن علم (التحسيس) قد تقدم وأصبح يدرس في كل مكان
يجيد العزف على العود، واللعب على البيان والنفخ في الناي. إذا سألته عن (فلان) المشهور قال: (طز) وعن فلانة المعروفة قال: (طزين يا سيدي).
الويل لك إذا سمعته وأعلنت سرورك وتقديرك بقولك (يا سلام يا شيخ محمود! الله يزيدك) لأنه يلتفت إليك متهكماً متحفزاً صارخاً (هو لسة يا أخينا حيزيدني. . . حيخليني إيه أكثر من كدة؟) والويل لك أكثر وأكثر إذا أخذتك النشوة فنسيت أن تحييه لأنه يسكت فجأة ويخاطبك: - حضرتك مش سامعني يا فندي؟
- سامع يا أستاذ دي حاجة عظيمة جداً
- أمال ساكت ليه؟ ساكت ليه يا فندي؟ ودانك بتوجعك؟ والله مانا قايل حاجة إلا لو خرجت من هنا. أتفضل يا فندي وخدها وهيّ حلوة. . .!
كان في الحسينية من خمس عشرة سنة يعزف بعوده أمام حشد من مريديه ومحبيه فلما أخذته النشوة رمى (بعوده) وصرخ متمدداً قائلاً:
- أغيثوني. . . أدركوني. . .!
- مالك يا مولانا. . . مالك يا مولانا. .؟
- أغيثوني. . . أدركوني. . . أمسكوني جيداً. . . سِدُّوا (وداني). . . سِدُّوا (وداني). . .!
هرع إليه هذا الجمع الحاشد وكله لهفة وإشفاق فإذا بالشيخ محمود يقول:
الجن عاوزة تخطفني، رئيسهم كلمني في (أذني) وقال: احنا عاوزينك يا محمود عشان بنتي حتتجوز. . . امسكوني ليخطفونني!
عصبي إلى درجة بعيدة. لا يطيق النقد. ومن ظريف أمره أيام كان يذيع في المحطات الأهلية أنه كان يجلس في محطة (فؤاد) قائلاً لهؤلاء الذين يكتبون عنه أو يتكلمون بما لا يحب:
يا ليل، يا ليل، سامع (يا فلان) يا ابن. . . شايف الشغل ازاي. . . يا ليل، يا عيني يا ليل، (فلان) نحن محمود صبح، اتائب يا بن الـ يا ليل يا عيني، لاح بدر التم أمان. أمان دوس يا لاللي. . . يا بتوع (. . .) يا أولاد. . . اتعلموا وخلوا عبد الوهاب بتاعكم يتعلم!؟
وبعد فمحمود صبح شخصية عظيمة ظريفة انحدرت من بيت عريق؛ ومن أصل طيب. لا يعتمد في معيشته على فنه بقدر ما يعتمد على إيراده الخاص الذي يكفل له عيشه رغداً، ولولا مغالاته بقدره واعتداده بنفسه لكان عظيماً نافعاً
محمد السيد المويلحي