الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 316/النبوة - الوحي - المعجزة

مجلة الرسالة/العدد 316/النبوة - الوحي - المعجزة

مجلة الرسالة - العدد 316
النبوة - الوحي - المعجزة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 24 - 07 - 1939


للأستاذ عبد المنعم خلاف

- 2 -

معذرة من طول الفترة بين مقالي الأول - في هذا الموضوع

- ومقالي هذا؛ فان أعمال الامتحان في المدارس وشواغل

السفر من بغداد إلى القاهرة أمور لا يستقيم معها فكر ولا

يصفو فيها خاطر.

كلما فكرت في صمت الطبيعة المطبق تجاه الإنسان، وثبات السماء والأرض أمام حواسه، وعدم اكتراث الأشياء له، وعدم وجود ثغرة ينحدر منها إلى أفق آخر غير هذه المناظر الهائلة الثابتة. . اعترتني رهبة من وضع الإنسان هذا الوضع المغلق عليه فيه كل شيء! وأقامني الفكر بين العجز والتعب كما يقول المتنبي:

ومن تفكر في الدنيا ومهجته ... أقامه الفكر بين العجز والتعب

ولكني أفرض في بعض الأحيان أن الإنسان استطاع أن يرقى أسباب السماء بسلم، وأنه طار كالريح، وانتقل كالبرق، وصار الكون كله مَزْويّاً بين عينيه. فهل يفيده ذلك شيئاً في حل شيء؟ كلا! فيما أتخيل. . . لأن الذي ينتقل من متحف أعاجيب صغير إلى متحف أعاجيب كبير، لا يزيده ذلك إلا دهشة ورغبة في معرفة الأسباب!

وهبوا الإنسان حلل كل شيء في الطبيعة وركبه. . . فهل تذهب قدرته تلك من حيرته ودهشته في إدراك العلاقة بين فكره وبين الأشياء، وفي إدراكه نفسه وقدرتها؟ كلا! فيما أتخيل. . . فهو سوف لا يدرك من نفسه إلا أنه آلة خالقة تفعل الأعاجيب. فنحن مهما أدركنا ومهما فعلنا فسنظل حائرين في معرفة كيف ندرك وكيف نفعل ما نفعل. . . ويبقى وجود كل شيء بعد ذلك لغزاً مغلقاً كما هو!!. . .

ومن هذا المدخل أدخل إلى بحث (المعجزة الحسية)، التي هي أعظم عقبة يصطدم بها أكثر الباحثين المتشككين في طريقهم إلى الإيمان بالنبوة. لأنهم يرون في إيجادها خرقاً للناموس العام الذي ينتظم الطبيعة، وخروجاً على سنن اطرادها؛ ويرون أن الإيمان بالنبوة لا يكون إلا بالإيمان أيضاً بهذا النوع من الأفعال الخارقة لسنة الطبيعة. فيقفون مترددين محجمين عن الإيمان بالنبوة والوحي، إذ يجدون في منطقة الإيمان بهما عقبة المعجزات الحسية. فيذهبون إلى تأويل النبوة والوحي بتخريجات لا تتفق مع الإيمان الصحيح ولا مع نصوص القرآن الصريحة، ولا مع منطق النبي نفسه؛ ومعنى النبوة التي أدركها هو في روحه وفكره، وحدثنا عنها، ووصفها لنا. فهم يحاولون أن يفهموا الوحي على أنه فيض ذاتي في النفس الإنسانية، وحالة إلحاح من فكرة الصلاح والحق على قلوب بعض محبي الإصلاح من البشر بعد إدراك تام للاتجاه العام في الطبيعة. فيخيل إليهم حين يدركون ذلك أن إرادة رب الحياة معهم ومنطقه في أفواههم وعقولهم؛ فيصدعون بالدعوة، وليس هناك وراء هذا اتصال بينهم وبين الله ولا حديث ولا شيء. وأما الخوارق التي كانوا يجرونها فهي أعمال ناشئة من يقظتهم وإدراكهم علماً من الطبيعة لم يدركه غيرهم. فيستخدمون ذلك في إقناع الناس.

هذه هي خلاصة مقالة منكري النبوة في العصر الحديث. وقد ألححت في مقالي الماضي في بيان النبوة كقانون من قوانين النشأة العقلية والروحية، وأنها أشبه بالعلاقة بين الأبوة والبنوة في الترتيب والإرشاد، وأنه ليس من المعقول أن تمضي الحياة الإنسانية من أول رجل إلى آخر رجل من غير سماع كلمة غير إنسانية مما وراء الطبيعة، وإلا لزم أن تهدر قيمة الإنسان أمام نفسه لأنه لم يسمع حديثاً من الحياة يحدد له قيمته ومكانه. . .

أما المعجزات الحسية فلو لم يحدثنا عنها القرآن حديثه القاطع بوجودها لكان لنا معها موقف آخر. ولكن القرآن المعجز الدائم يحدثنا عن ناقة خرجت من صخرة، وعصا انقلبت حية، وطير خرج من طين، وعن كثير من الآيات بحديث صريح لا يقبل تأويلاً ولا تخريجاً غير ما يحتمله لفظه. ولم يشر القرآن بأي إشارة إلى أن الأنبياء الذين جرت على أيديهم هذه الخوارق كانوا على علم بأسرار ما يفعلون، بل بالعكس يحدثنا أن موسى خاف وفر وولى مدبراً حين رأى عصاه تنقلب إلى ثعبان مما يدل على أنه ما كان يدري بسر ما يجري أمامه

إذاً فقد حبط قولهم إن تلك الخوارق ناشئة من إدراك النبي سراً من الطبيعة لم يدركه غيره وينبغي أن نتذكر دائماً أن كل شيء في الطبيعة معجز ومحير. وأن إضافة شيء إلى الطبيعة من أعمال الإيجاد والخلق في ظروف استثنائية تقضي الضرورة بإحداث حجة حسية دامغة فيها، تلك الإضافة لا تزيد عجباً ولا تستحق دهشة أكثر من غيرها من الموجود قبلها

وينبغي أيضاً أن نمنع خيالنا من تصور الله تعالى خاضعاً لطرق صناعتنا. . . فهو لا يحتاج إلى مخابير ومعايير ومنافيخ وآلات ومعامل حتى يخرج شيئاً وإنما المسألة بالنسبة إليه بسيطة هينة. . وقد وهم إبراهيم عليه السلام حين قال له: (رب أرني كيف تحيي الموتى) إذ أنه ظن أن هناك كيفية وأسلوباً محسوساً لإيجاد الله للأشياء فقال له الله: (أولم تؤمن؟ قال: بلا، ولكن ليطمئن قلبي. قال: فخذ أربعة من الطير فصُرْهُنَّ إليك (أي اذبحهن) ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادْعُهُنَّ يأتينك سعياً) فلم ير إبراهيم من كيفية الخلق أكثر من هذا. وهو هو نفسه الأسلوب الذي نراه كل يوم وكل ساعة في وجود الأشياء من نبات وحيوان، وفي تجدد المادة والقوة والطاقة

فالأمور والأشياء من أولها إلى آخرها معجزات وآيات محيرات. ولو خلقناها بأيدينا لم يذهب ما بنا من حيرة ودهشة كما قدمت في أول هذا المقال

أقول هذا وأطيل فيه لأبين للذين تصدمهم المعجزات الحسية المنسوبة إلى الرسل السابقين قبل محمد وتصدهم عن الإيمان بالنبوة بمعناها عند جمهور الناس أن أمرها أهون في التقدير مما يتصورون وأنها لا تستلزم هذه الحيرة والدهشة لأن الله يفعل مثلها في كل دقيقة ملايين الملايين

ثم إن الله تعالى لم يضع قوانين الخلق ليتقيد بها كالأغلال والأصفاد فلا مانع أن يحطمها في جزئياتها التي يدركها الناس عن قرب في ظروف استثنائية حتى لا نتوهم - كما توهم بعض فلاسفة اليونان - إن الله لا يقدر على مخالفة سنن الطبيعة

ما قدمناه من الحديث يدور حول علاقة المعجزة بالطبيعة وسننها المطردة وحول علاقتها بالله موجد الطبيعة. ويبقى حديث حول علاقتها بالناس وعقولهم وآثارها في الدعوة

هل هناك ضرورة قاهرة على أحداث المعجزة؟

للجواب على هذا ينبغي أن نستحضر صور المجتمع الإنساني في عصوره الأولى البدائية الجاهلة المحدودة الإدراك الواقفة عند المحسوسات الغارقة في الجهالات الموزعة عقليها بين السحر والمخرقة. كل أمة في عزلة عن الأخرى لا ترى إلا قطعة محدودة من الأرض وأفقاً ضيقاً من السما. . . ترى ظواهر الطبيعة ولا تستطيع لها تعليلاً، تأكلها الفواجع وتحصدها الأوباء ويستبد بها الكهنة والرؤساء وتسير كقطعان سائمة هائمة في بيداء الحياة ليس لها علوم وآداب إلا ما هو في نطاق ضرورة العيش والارتفاق

ثم يفاجئ أحد هذه المجتمعات رجل يحاول أن يحطم كل وثن معبود ويذب كل شر ويحمل على كل خير ويخلع أمته من ماض وتاريخ وسيرة آباء ويقول - وهنا الهول والدهشة - أنا رسول من الله رب السماء والأرض اختصني الله من بينكم وألقى عليَّ روحاً من أمره وكلمني! نعم كلمني! وهذا الرجل في الغالبية المطلقة من الأحيان يكون فقيراً لا مال ولا جاه له مما يفتن العامة ويدعوا إلى احترام الخاصة

فمن ذا عساه أن يؤمن مع هذا الرجل من مثل هذا المجتمع المنحط الخاضع لمنطق الطفولة، الذي لم يدرك الحق بنفسه؟

أظن أنه لا جدال في أن من يستجيب سريعاً لهذا الرجل هم العدد الأقل ممن يلبي كلمة الحق لأول سماعه بها، وهؤلاء حتى في زماننا زمن العلم والحرية والديمقراطية لا يكادون يبلغون عدداً تصلح معهم شؤون الأرض ويستقر العمران ويتحقق نمو حركة الفكر والخلق. فلابد لصلاح الأرض من صلاح جماهير العمال والزراع وهؤلاء هم القطيع الذي يملأ بقاع الأرض ولا يستطيع المصلحون أن يحققوا مثلهم العليا إلا إذا تسلطوا عليه وملكوا قياده، وهؤلاء هم موضع عناية الله ووصاياه لأنهم لا يستطيعون أن يتفرغوا لإدراك كماله وجلاله إذ أنهم مشغولون بالسعي إلى الرزق والضرورات المادية ويخيل إليَّ أن الله تعالى لاحظ في وضع النبوات الأولى منطقهم ووجدانهم أكثر من غيرهم من الخواص لأنهم هم جمهور الإنسانية لا تستقيم أمورها إلا بإرضائهم وإصلاحهم أما الفلاسفة والحكماء فقليلون كما قدمنا. ولو راعى الله منطقهم المعقد وإدراكهم المتشعب فأرسل الرسالات بأسلوبهم وحدهم فجاءت كتب الدين ككتبهم إذا ما استجاب للإيمان غيرهم وهم في جسم الإنسانية كنسبة شعرة في جسم فيل

فلابد أن نفهم هذا لنفهم أنه كان لابد من وسيلة أخرى غير وسيلة المنطق والعقل لإخضاع جماهير الناس في تلك الأزمان التي كانت أغلب علومها تدور حول البحث في قلب أشياء الطبيعة كقلب الرصاص إلى ذهب وحول علوم التخييل كالسحر والسيميا وكيفية شفاء المرض بالتمائم والتعاويذ وتحضير الجن والاستهواء وراء القوى الخفية والتحايل على تزويق الأصنام وإنطاقها وخلع معاني الحياة وحركاتها عليها إمعاناً من الكهنة في بسط سلطانهم وسعياً من العامة وراء غيبوبة الأحلام وبدوات الأماني والأوهام

ولا تزال بقايا كبيرة من السحر والمثنوية راسبة في أذهان الجماهير في عصرنا هذا (فعيادات) كثير من الدجالين والمشعوذين أحفل بالزائرين من عيادات كثير من الأطباء الذين يعتمدون على العلم والاختبار، وقبور كثير من المشايخ تقصد الاستشارة والاستخارة أكثر مما تقصد مجالس العقلاء المجربين الذين يعطون الرأي والمشورة التي لا تخطيء. فكيف يهمل الله هذه النزعات الطفلية في نفوس أكثر القطيع الإنساني من غير أن يحملهم على الإيمان به من طريق الحس وإقامة الحجة الدامغة - في رأيهم - حسب ما يقترحون! وإذا علمنا أن الغاية من المعجزة غاية عظيمة بل أعظم غايات الحياة وهي حمل كثير من الناس على الإيمان بالله وإنقاذهم مما يهدر كرامتهم ويسفل بهم إلى أقل من درجة البهائم وهو السجود لصنم واللياذ به وبيع الحرية الفكرية والشخصية. . إذا علمنا ذلك تبين لنا أن المعجزة أمر محتم لتكملة السعي في سبيل إنقاذ الإنسان

وإذا لم يهتم رب الحياة بأمر الفصل بين أكبر الحق في الحياة وهو الإيمان به وأكبر الباطل فيها وهو الكفر به فمتى يهتم؟ وما هي غايته من خلقنا إذاً؟ فلقاصري الإدراك أن يطلبوا ذلك ممن يتحدث باسمه تعالى حتى تقوم الحجة الحسية أمامهم

(البقية في العدد القادم)

عبد المنعم خلاف