الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 315/في بلاط الخلفاء

مجلة الرسالة/العدد 315/في بلاط الخلفاء

بتاريخ: 17 - 07 - 1939


حماد وهشام بن عبد الملك

للأستاذ علي الجندي

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

كان هشام بن عبد الملك من الخلفاء الذين يُؤثرون أن يتمتعوا بالطيبات من الرزق، ويظهروا نعمة الله عليهم، ويوفّروا الأبهة والجلال لمقام الخلافة! فلم يكن في آل مروان من كان أسرَى منه ثوباً، ولا أعطر رائحة، ولا أكثر زينة، حتى إنه حين خرج حاجا حُمِلت ثيابه على ستمائة جمل!

فماذا رأى حماد حين دخل إليه؟

رأى داراً قوراء مفروشة بالرخام، تضم مجلساً فرش كذلك بالرخام بين كل رخامتين قضيب من ذهب!

وفي بُهْرة المجلس فوق طِنْفِسة حمراء جلس هشام عليه ثياب من الحزّ الأحمر، وقد تضمّخ بالمسلك الأحمّ والعنبر الأشهب! وبين يديه آنية من ذهب فيها مسك مفتوت يقلبه بين يديه فتعِجّ رائحته في المكان فتفَغم الأنوف!

فاستطير عقل حماد، واعتاقت الهيبةُ جنانه، فثقُلت خُطاه ورَبا لسانه في فمه! ولكنه استنجد بكل قواه، وسلّم على هشام بالخلافة، فرد عليه السلام واستدناه منه، فدنا حتى قبل رِجْله!

ثم نظر بِمُؤْخِر عينه فإذا جاريتان كأنما التمستا غِرّة من رضوان، فهبطتا من فراديس الجنان! في أذنيْ كل منهما حَلْقتان تُطِلّ منهما لؤلؤتان لامعتان يَرِفّ سناهما على تلك الوَجَنات البضّة رفيفَ سقيط الطلّ على أكمام الورود!

فأخذ حماد يُسارقهما النظر وهو مشتَرك اللب موزَّع الفؤاد! ولكن الخليفة لم يلبث أن هتف به: كيف أنت يا حماد وكيف حالك؟

فاسترجع عازب عقله، وأجاب ومتلعثماً: إني بخير يا أمير المؤمنين

- أتدري لم بعثت إليك؟

- لا يعلم الغيب إلا الله - بعثت إليك بسبب بيت خطر ببالي لا أعرف قائله

- ما هو يا أمير المؤمنين

- قول القائل:

ودَعوْا بالصَّبُوح يوماً فجاءتْ ... قَيْنةٌ في يمينها إبريقُ

- هذا يقوله عَدِيّ بن زيد العِبادي من قصيدة له

- أَنشِدِنيها

فأنشد حماد:

بكَر العاذلون في وَضح الصُّبح (م) ... يقولون لي: ألا تستفيقُ

ويلومون فيك يا ابنةَ عبدِ الله (م) ... والقلبُ عندكم موثوق

لستُ ادري إذ أكثروا العَذْلَ فيها ... أَعَدُوٌّ يلومني أم صديق

زانَها حُسنها وفَرعٌ عَميم ... وأَثِيثُ صَلْتُ الجبين أَنيق

وثَنَايَا مُفَلّجاتٌ عِذَابٌ ... لا قِصار تُرى ولا هنَّ رُوق

ودَعوْا بالصَّبُوح يوماً فجاءت ... قَيْنةٌ في يمينها إبريق

قدَّمَتْه على عقارٍ كعين الدِّيك (م) ... صَفّي سُلاَفَها الرَّاوُوق

مُرَّةٌ قبل مَزجِها فإذا ما ... مُزِجت لَذَّ طعمَها مَن يَذوق

وطَفَت فوقها فقاقيع كالدُّرِّ (م) ... صِغارٌ يُثيرها التصفيق

ثمَّ كان المِزاجُ ماَء سحابٍ ... لا صَريً آجنٌ ولا مطروق

فاستخفّ الطرب هشاماً! فصاح بإحدى الجاريتين: اسقيه فسقته شَرْبة ذهبت بثلث عقله!

ثم قال هشام: أَعِدْ يا حماد؛ فأعاد الأبيات. فازدهاه السرور حتى نزل عن فراشه! وصاح بالجارية الأخرى: اسقيه!

فسقته شربة طاحت بثلث عقله الباقي! فقال في نفسه: إن سقتني الثالثة حقت عليَّ الفضيحة!.

ثم التفت إليه هشام قائلاً: سل حاجتك يا حماد. فأجاب: كائنة ما كانت؟ قال: نعم.

وهنا نحبّ أن نقول: إنه كان من عادة الخلفاء والملوك إذا استطاع النديم الظريف أو المسامر البارع أن يحرّك فيهم ساكن الطرب، ويهزّ كامن الأريحية، أن يعلنوا رضائهم عنه بالاقتراح عليه أن يسأل ما يشاء، وهي على كل حال فلتات نادرة يسوقها الحظ لمن أراد الله أن يرزقهم من حيث لا يحتسبون!

ولهذه التمنيات آداب معروفةُ يعدّ تجاوزها سفها وحماقة وسوء أدب تلحق أصحابها بالسوقة والإغفال، فلا يصح لمن واتته هذه الفرصة الغالية أن يتمنى على الخليفة ما يحرج به أو يندم عليه أو يقدح في مروءته، فإن ذلك جرأة قد يكون من ورائها رَدى النفوس واستئصال النعم ولو بعد حين!.

فمن أمثلة ما حدّثوا به: من أن الهادي كان عنده يوماً ابن جامع وإبراهيم الموصلي ومعاذ بن الطيب، فقال: مَن أطربني منكم اليوم فلهُ حكمه! فغنّاه ابن جامع غناء لم يحركه؛ وكان الموصلي قد فهم غرضه فغناه في هذا الشعر:

سُلَيمى أجمعتْ بَيْنا ... فأين تقولها أيْنا

فطرب الهادي حتى قام عن مجلسه! ورفع صوته: أعد بالله وبحياتي. فأعاد. فقال الهادي: أنت صاحبي فاحتكم! فقال الموصلي: حائط (بستان) عبد الملك بن مروان، وعينه الحرارة بالمدينة! فغضب الهادي حتى اتقدت عيناه! وقال: يا ابن اللخناء أردت أن تسمع العامة أنك أطربتني وأني حكمتك فاقتطعت! أما والله لولا بادرة جهلك التي غلبت على صحيح عقلك وفكرك، لضربت الذي فيه عيناك! وعبرت فترة قال فيها الموصلي: لقد رأيت ملك الموت قائماً بيني وبينه ينتظر أمره!

ولما سكت عنه الغضب دعا بالقيم على خزائن الأموال، فقال: خذ بيد هذا الجاهل ودعه يأخذ ما يشاء! فلما بلغ بيت المال قال له القيم: كم تأخذ؟ قال: مائة بدرة! قال: حتى أؤامره. قال: تسعين. قال: حتى أؤامره. قال: ثمانين. قال: لا. فعرف إبراهيم غرضه. فقال: آخذ سبعين، ولك ثلاثون! قال: شأنك. قال الموصلي: فانصرفت بسبعمائة ألف درهم وانصرف ملك الموت عن الدار!

ومن ذلك أيضاً: أن دجمان المغني غنى الرشيد يوماً:

إذا نحن أَدْلجنا وأنتِ أماَمنا ... كفى لمطايانا برؤياكِ هاديا

ذكرتك بالدَّيرين يوماً فأشرفت ... بناتُ الحشا حتى بلغن التراقيا

إذا ما طواك الدهر يا أمَّ مالك ... فشأن المنايا القاضيات وشانيا فطرب الرشيد طرباً شديداً واستعاده مرات! ثم قال له: تمنّ عليَّ. فقال: الهنيء والمريء، وهما ضيعتان تُغِلان أربعين ألف دينار في السنة. ولم تكن للرشيد شراسة الهادي وشكاسة خلقه وضيق صدره، فأمر له بهما على كره منه!

فقيل له: يا أمير المؤمنين، إن هاتين الضيعتين من جلالهما ما يجب ألا يُسمح بمثلهما! فقال: لا سبيل إلى استرداد ما أعطيت. فاحتالوا في شرائهما منه بمائة ألف دينار! فأمر الرشيد له بها. فقالوا: يا أمير المؤمنين، إخراج مائة ألف دينار من بيت المال طعن. فدفعوها له منجمة خمسة آلاف وثلاثة آلاف حتى استوفاها

ونعود إلى حماد فنقول: لقد فتح له هشام باب التمني على مصراعيه فهل يقع في السفه والجهل؟

لقد كان الرجل زنديقاً، والزنادقة في هذا العصر كانوا مضرب المثل في الظرف حتى كان الرجل يتعمّل الزندقة ليوسم بهذه السمة المستملحة!

ثم هو بعد ذلك يعرف جيداً أنه لم يأت خليفة مثل هشام الأموي والمنصور العباسي في ضبط المال وحسن القيام عليه والضن به إلا في حقه. بل لعله لا يجهل أن هشاماً رمى بالبخل الشديد إن صدقاً وإن كذباً، وأنه كان أبغض الأشياء إلى نفسه أن يبتدئه إنسان بمسألة، فمن فعل ذلك فأدنى جزائه الحرمان!

أترى أيستطيع الظرف أن يعصم حماداً من الانزلاق إلى الطماعية المردية؟

لم تخُنَّا فراستنا في الرجل! فالحق أنه كان مهذباً وكان قنوعاً

لقد رفع رأسه إلى الخليفة وعلى فمه ابتسامة حيية حائرة فقال: إحدى الجاريتين يا أمير المؤمنين

وكأنّ هشاماً أُعجب بهذه القناعة التي لا تنتظر في مثل هذه المواقف! ولعله أعجب أكثر بهذا الذوق الرقيق الذي شاء أن يمنحه نصيباً من هذا الجمال الفريد!

فضحك وقال: هما جميعاً لك يا حماد بما لهما وما عليهما!

وأراد أن يتوِّج ذلك بعطفه عليه ورضائه عنه! فهتف بالجارية الأولى: أن اسقيه! فمشت إليه الجارية بكأس دهاق، وعيناها الساجيتان تفعل بنفسه ما لا تفعل الخمر والسحر! فطار ما كان باقياً من عقله، وخر لليدين وللفم صريع الكأس والأعين النُّحل وحُمل - وهو ما يَبتُّ سكراً - إلى دار أعدت له. فلما تنفس الصبح أفاق من غشيته الطويلة! فإذا الجاريتان عند رأسه تمسحانه وتروِّحانه، فيصافح وجهه النسيم الرطب مشوباً بأنفاس الغالية والملاب!

وإذا عدة من الخدم يحمل كل واحد منهم بَدْرة وهم وقوف ينتظرون صَحْوته من خُماره!

فتقدم أكبرهم في أدب واحتشام فقال: أمير المؤمنين - أطال الله بقائه - يقرأ عليك السلام! ويقول لك: خذ هذه البِدَر فأصلح بها شأنك

فبالغ حماد في الدعاء! وأستنفد الوُسْعَ في الثناء! ثم قفل راجعاً إلى بلده بثلاث غنائم: بالأمان والجمال والمال! وقد أدركته المنية سنة خمس وخمسين ومائة، فرثاه ابن كِناسة الشاعر يقول:

لو كان يُنجي من الرّدى حذَرٌ ... نجّاك مما أصابك الحذرُ

يَرْحُمك الله من أخي ثقة ... لم يك في صفو ودّه كدر

فهكذا يفسد الزمان ويفنى العلم (م) ... فيه ويدرُس الأثر

علي الجندي