الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 315/ضريبة الجمال

مجلة الرسالة/العدد 315/ضريبة الجمال

بتاريخ: 17 - 07 - 1939


للأستاذ عباس محمود العقاد

الشاطئ عامر ولكنه ليس بالمزدحم، والبحر مائج له زئير، والهواء هائج له صفير، والراية السوداء كالقافية المحزنة تتكرر على مسافات متساويات أو متقاربات؛ قافية محزنة والقصيدة مفرحة تضج بالحركة والحياة!. . . وهذا من عجيب النظم في شعر البحار والحمامات!

وإذا اتسع الأفق أمام العينين حتى كأنهما تنظران إلى مكان واحد، وتجاوبت الأصداء على الأذنين حتى كأنهما قد كفَّتا عن السماع بعد طول التكرار، فهنالك تنطلق الخواطر شتاتاً كما تنطلق خواطر الأحلام بعد تعطيل السمع والنظر، فهي تارة تستقصي إلى ما وراء الأعماق، وتارة تستقرب فلا تتجاوز أدنى المحسوسات، مما علق بالذهن قبيل لحظات معدودات

وهكذا جلست أرقب الشاطئ وكأنني أحلم بما أراه. ومن حق الشاطئ وايم الله أن يحسب في عداد الأحلام

هاهنا وهاهناك تماثيل من خلق الله في المعرض الحافل المتجدد: بعضها ولا ريب تحفة من تحف الخلق والتكوين، وبعضها ولا ريب لازم للمناوبة بين شعور الإعجاب وشعور الرثاء، أو للمناوبة بين إبداء المحاسن وإبداء العيوب

نعمة جزيلة وأي نعمة هذا الجمال الذي لا يقوم بمال

نعمة يستمتع بها أصحابها وغير أصحابها، وربما كان نصيب لابسيها دون نصيب الناظرين إليها، لأنهم يعرضونها ويعطونها والناظرون هم الآخذون

بل هم حريصون على عرضها وإعطاء العيون منها كل نصيب تشتهيه

وإلا فما بال هؤلاء العارضين قد تهيئوا لنزول الماء والماء لا يقبل النازلين فيه!

سيقولون: للشمس لا للبحر!. . . لا تصدقهم!. . . فالشمس أيضاً من وراء سحاب، قلما تسفر من ذلك الحجاب

إنما يتهيئون لحمام من أشعة النظر لا من أشعة الشمس ولا من أمواج الماء، ويا له من حمام مريء على وكنت حديث عهد بالضرائب ولجاج الموازنة بين الموارد والمصروفات

ويشاء الحلم أن يستقرب في هذه المرة فيسنح لي خاطر كأسرع ما يكون وأقرب ما يكون:

ما للدولة لا تشارك الجميل في نعمة جماله كما تشارك الغني في نعمة ثرائه والصانع في نعمة ذكائه أو عضلاته!

كل نعمة فللدولة منها حصة. فما بال الجمال لا يحسب من النعم عند مصلحة الضرائب الأميرية؟ أو ما باله يحسب من النعم ولا يدخل في الحساب؟

علم الله لو فرضت ضريبة الجمال لجمعت الدولة الملايين واستراحت من المحصلين، لأن أصحاب الضريبة يؤدونها عن يد وهم شاكرون، ويشكون إن قل نصيبهم منها. . . ويحمدون الله أن خرجوا بها مثقلين مرهقين

وخطر لي قلم المراجعة والمظالم وما يتوالى عليه من الشكايات والمراجعات

أفلانة تطالبها الدولة بألف جنيه ضريبة جمال ولا تطالبني أنا بأكثر من بضع مئات؟ من هو هذا الأعمى الذي ترتضيه الحكومة عاملاً لها في لجنة التقدير؟ ومن هي هذه (الضعيفة الذليلة) التي تذعن لهذا الحيف وتصبر على هذا الظلم المبين؟

وخطر لي ما قبل الشكاية وقبل الرجوع إلى لجنة المراجعة

خطر لي الزوج المسكين وهو داخل على الزوجة العابسة المتحفزة للشجار: تشاجره هو لأنها لا تجد بين يديها الموظف (الأعمى) الذي ظلمها بذلك النصيب من الضريبة، ولا تأمن العقبى من (التعدي في أثناء تأدية الوظيفة) والإصرار على تطفيف ذلك النصيب المنزور

- ما بالك يا عزيزتي مهمومة البال؟

- مالي أنا؟ بل قل مالك أنت بين الأزواج؟ قل مالك أنت بين الرجال؟ قل مالك أنت بين خلق الله؟

- أنا؟ وما خطبي يرحمك الله يا أمة الله؟

- نعم أنت!. . . أنت دون غيرك!. . . أنظر إليّ! افتح عينيك في وجهي. افتحهما جيداً وقل لي: هل أنا دون فلانة في الحسن والرشاقة والفتنة والأناقة؟ هل أنا دميمة ذميمة أم هي خيبتي فيك - وا حسرتاه - هي التي خيبتني بين النساء؟ وبعد بكاء واستغراق في البكاء

وبعد جفاء وإمعان في الجفاء

وبعد مائة سؤال ومائة جواب تظهر الحقيقة فإذا هي (تظلم من قلة الضريبة) وإرغام للزوج المسكين على المطالبة بمضاعفاتها في غمضة عين، وهو هو الذي (يغرمها) ويكتوي بنارها. . . وإلا فليس هو برجل بين الرجال، وليست هي بزوجة ترضاه بهذه الحال!

ويخيل إلى صاحبنا أنه يخدعها عن هذا الطلب ببعض الوعود وبعض الهبات، فيعود إلى المراوغة والإغراء:

- يا عزيزتي! يا زينة النساء. . . يا أجمل من خلق الله: أتهمك هذه الفلانة وهي لا ترتقي إلى مقام الجارية تحت قدميك؟ أليس أولى من بذل المال في الضريبة المضاعفة حلية تزيدك جمالاً عل جمال، وحلة تنفردين بها بين الأتراب والأمثال، وشارة تغار منها فلانة، وقُنية بعد ذلك باقية للحفظ والصيانة؟

ثم تشتد الحيرة بالمباركة فلا تدري أي الحسنيين تختار، ولا بد أن تستقر ولا سبيل إلى قرار

هنا الحلية والحلة وما رفضتهما قط بنت من بنات حواء

وهنا الجمال بشهادة الحكومة واعتراف القانون وتسجيل الأوراق الرسمية، وهي حجة تخرس اللسان، ولا تدفع بالبرهان مشكلة!

ولا طاقة للمباركة بحلها

فليحلها الزوج المسكين، بالجمع بين الحسنيين!

خطرت لي هذه الخواطر، وتمثلت القائمين على خزانة الدولة بين إغراءين كاللذين حارت فيهما المباركة صاحبة المظلمة من تطفيف الضريبة

فماذا يصنعون؟

هل ينتفعون بإقبال الناس على البذل والإعطاء فيقبلون من كل باذل، ويستجيبون لكل طلب، ويشهدون لكل راغبة في شهادة؟

أو يؤثرون أمانة الذوق وصدق النظر ونصفة الفن على ضخامة المورد وموازنة الأبواب؟ مشكلة!

لكنها ليست بالمشكلة العويصة فيما أحسب، وليست بالمشكلة التي تحل بالجمع بين الأمرين فيما أعتقد. . . لأن الأمانة في تقويم الجمال، سر قابل للاستغلال، وباب جديد لفرض الضرائب على الخاطبين السائلين، وعلى مسابقات الجمال في غير حاجة إلى محكمين، وعلى أفانين شتى قد تظهر بعد حين، فإن فات الخزانة ربح الطمع فلن يفوتها الربح من هذه الأفانين.

عباس محمود العقاد