مجلة الرسالة/العدد 314/من تاريخنا النسوي
→ مدينة قونية | مجلة الرسالة - العدد 314 من تاريخنا النسوي [[مؤلف:|]] |
د. هـ. لورنس ← |
بتاريخ: 10 - 07 - 1939 |
عائشة والسياسة
للأستاذ سعيد الأفغاني
لم يتح للسيدة عائشة أن يكون لها أدني أثر في السياسة على عهد الخليفتين العظيمين أبي بكر وعمر؛ بل كان شأنها شأن بقية أمهات المؤمنين أزواج النبي ﷺ: يُستفتيْن في المسائل من أمور الدين، وخاصة فيما لا يعانيه إلا النساء. فبقين بعد وفاة الرسول مثابة لرواد الفقه وحملة الشريعة، وهذا من حكمة الله ورحمته بهذه الأمة، إذ جعل من أزواج صاحب الرسالة من تعيد سيرته المطهرة خمسين سنة تنشر تفاصيلها للناس، كأن الوحي لم ينقطع، وكأنهم من أنواره في شمس لا يلم بها أفول ولا تحجبها ظلمة. وليس كل السنة يتسنى للرجال معرفتها، ولولا ما نشرن منها لضاع علم كثير، فكان أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم من كبار الصحابة، كثيراً ما يسألونهن في دقائق المسائل وجلائلها وعلى هذا اقتصر عمل عائشة لهذا العهد. وكان في ذكائها (رحمها الله) وفي علمها ما جعلها مقدمة على عامة أزواج النبي (ص): يعرفن ذلك من حقها، ويرجعن أمورهن إليها. . . وكان الناس حين يفزعون إلى أزواج النبي لا يبدؤون إلا بها. . . فمكانها فيهن مكان الزعيم. . .
فلما كان عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، سارت السيدة في الشطر الأول من خلافته (سيرتها على زمن صاحبيه): تفتي وتحدث وتنشر العلم. . . لكنه لم يكد لين عثمان يجرئ الناس عليه، ولم تكد القالة تفشو ناقمة على بعض تصرفاته، حتى انقلب الأمر، ورأينا السيدة عائشة تقود حركة المعارضة، ورأينا عثمان يتبرم بموقفها كل التبرم ولم تزل السيدة توغل في تدخلها السياسي حتى أدى إلى ما لم تكن تحب، وحتى خرج الأمر من يدها في النهاية إلى يد الغوغاء، فكانت أشد الناس ندماً على ما قدّمت. . .
كان مما أخذ الناس على عثمان عزله من ولاية الكوفة القائد المغوار صاحب رسول الله سعد بن أبي وقاص، وتوليته الوليد ابن عقبة أخاه من الرضاعة. فلما حضر وفد أهل الكوفة متذمرين إلى عثمان من عاملهم الجديد انتهرهم وأوعدهم. . . فلجئوا إلى أم المؤمنين عائشة الصديقة مستجيرين. وأصبح عثمان، فصلى بالناس الفجر في مسجد رسول الله (ص)، فسمع من حجرة عائشة صوتاً وكلاماً فيه بعض الغلطة. فقال: (أما يجد مُرّاق أهل العراق وفساقهم ملجأً إلا بيت عائشة؟!). فسمعت عائشة فغضبت. ورفعت نعل رسول الله ﷺ وقالت: (تركت سنة رسول الله صاحب هذه النعل). فتسامع الناس فجاءوا حتى ملئوا المسجد. فمن قائل: (أحسنت)؛ ومن قائل: (ما للنساء ولهذا) حتى تحاسبوا وتضاربوا بالنعال. ودخل رهط من أصحاب رسول الله على عثمان فقالوا له: (اتق الله ولا تعطل الحد، واعزل أخاك عنهم). فعزله عنهم! وهكذا استطاعت السيدة بما لها من المكانة والذكاء أن تهيئ لمعارضتها نجاحاً باهراً. فغيرت هذا العامل على رغم الخليفة. وخير ما نطلقه عليها أنها كانت: (زعيمة المعارضة) - على اصطلاح هذا العصر - مدة الخليفتين عثمان وعلي. . .
ثم جاءت شكوى المصريين من عاملهم ابن أبي سرح على نحو شكوى أهل الكوفة من عاملهم. وقامت السيدة في ذلك مقاماً حميداً كما قام غيرها من مشيخة الصحابة مثل علي وغيره. إلا أن ابن أبي سرح لم يعمل بكتاب عثمان، وقتل أحد الذين كانوا شكوه؛ فرجع المصريون إلى المدينة، وشكوا إلى أصحاب النبي وأزواجه ما صنع ابن أبي سرح. فقام طلحة؛ فكلم عثمان بكلام شديد. وأرسلت إليه عائشة: (قد تقدمت إليك أصحاب رسول الله ﷺ وسألوك عزل هذا الرجل؛ فأبيت أن تعزله؛ فهذا قد قتل رجلاً منهم فأنصفهم من عاملك. . .)
ولما رجع المصريون بكتاب عثمان المزور، وضج الناس، كانت عائشة تذمه كثيراً، وكانت هي نفسها تقول (فيما بعد): (إنا نقمنا عليه ضربه بالسوط، وموقع السحابة، وإمرة سعيد والوليد. فغضبنا لكم من سوط عثمان. . .)
ومواقف عائشة هذه من عمال عثمان وإرغامها إياه على تغييرهم، قد آذته كثيراً حتى خرج مرةً عن وقاره واعتداله، وما يليق به من الاحتمال والحلم. قال صاحب (البدء والتاريخ):
(كان أشد الناس على عثمان طلحة والزبير ومحمد بن أبي بكر وعائشة. وخذله المهاجرون والأنصار، وتكلمت عائشة في أمره وأطلعت شعرة من شعرات رسول الله ﷺ، ونعله وثيابه وقالت: (ما أسرع ما نسيتم سنة نبيكم!) فقال عثمان في آل أبي قحافة أسرة عائشة ما قال، وغضب حتى ما كان يدري ما يقول) هـ.
هذا ما كان من آثارها، ودع لنفسك أن تقدر ما يبلغ مثل ذلك من نفوس الناس، وهم حينئذ أولو الحمية للإسلام، وأقرب الناس عهداً بالرسول وصاحبيه - كم يبلغ من نفوسهم الوجد على عثمان حين فرّط حتى بلغ السيل الزبى، وحتى تغير عليه امرأة - ثم لا تكون تلك المرأة إلا أم المؤمنين عائشة: ترفع عليه في المسجد صوتها وتبرز للمسلمين نعل الرسول مرة، وشعره مرة، وثوبه مرة، تنصبه في حجرتها وتقول للداخلين عليها: (هذا ثوب رسول الله ﷺ لم يَبلَ، وقد أبلى عثمان سنته). وكان عثمان مرة يخطب فدلّت عائشة قميص رسول الله ﷺ. وقالت: (يا معشر المسلمين! هذا جلباب رسول الله لم يبل، وقد أبلى عثمان سنته). فقال عثمان: (رب اصرف عني كيدهن، إن كيدهن عظيم!).
إن الأثر الذي أثرته في قلوب الناس لجد بليغ. ولست أغلو إن قلت: إن هذا التغير في النفوس يكمن؛ ثم هو لا يزداد على الأيام إلا شدة. وهذا يفسر لنا بجلاء سبب تقاعس أهل المدينة عن نصرة عثمان حين حزبه الأمر واغتاله أهل الأمصار.
وزعم بعض الرواة أنها أول من سمته (نعثلاً) و (نعثل) اسم يهودي أو نصراني طويل اللحية، لقب به عثمان تشبيهاً له به. وأنها كانت تقول: (اقتلوا نعثلاً. قتل الله نعثلاً). وكان الناس يسبون عثمان حول فسطاط عائشة بمكة، وعثمان يمر، ولم ترث السيدة له ولم تغير شيئاً.
ولقد تضافرت روايات من طرق مختلفة على سعي عائشة على عثمان. ولما آلت الخلافة إلى علي ونهضت هي تطالب بدمه. قال لها عمار: (أنت بالأمس تحرضين عليه واليوم تبكين عليه!) وقال لها ابن أم كلاب: (والله إن أول من أمال حرفه لأنت، ولقد كنت تقولين، اقتلوا نعثلاً فقد كفر).
وإذا علمت أن أشد الناس على عثمان - وهو طلحة - يرجو أن تكون إليه الخلافة بعده، وأن طلحة ابن عم أبي بكر (رحمه الله)، وأمعنت في الحوادث التي حفت بهذا العهد، وجالت بنفسك الخواطر، وجدت في رواية الطبري الآتية (وهي مصنوعة بإتقان) حل المسألة فاسترحت إليه:
(خرج ابن عباس إلى موسم الحج بكتاب عثمان، فمر بعائشة في (الصُلصُل) فقالت: (يا بن عباس أنشدك الله فقد أعطيت لساناً إزبلاً (نشيطاً) أن تخذل عن هذا الرجل وأن تشكك فيه الناس، فقد بانت لهم بصائرهم وأنهجت ورفعت لهم المنار، وتحلبوا من البلدان لأمر قد حُمّ. وقد رأيت طلحة بن عبيد الله قد اتخذ على بيوت الأموال والخزائن المفاتيح، فإن يل يسرْ بسيرة ابن عمه أبي بكر). فقال ابن عباس: (يا أمه، لو حدث بالرجل (يعني عثمان) حدث، ما فزع الناس إلا إلى صاحبنا (يعني علي). فقالت عائشة وقد يئست منه: (أيها عنك، لست أريد مكابرتك ومجالدتك)). أهـ
وعلى هذا تكون السيدة لم تكتف بزعزعة مركز عثمان، بل تطمح إلى فرض رأيها في تنصيب الخلفاء أيضاً
وزعم ابن أبي الحديد أن عائشة لما بلغها قتل عثمان قالت: (بعداً لنعثل وسحقاً! أبعده الله، ذلك بما قدمت يداه) وكانت تطمع أن يكون الأمر إلى طلحة وتقول: (إيه ذا الإصبع (تعني طلحة لأن إصبعه شلاء) إيه أبا شبل، إيه يا ابن عم! لكأني أنظر إلى إصبعه وهو يبايع، حثوا الإبل، لله أبوك، أما إنهم وجدوا طلحة كفواً. . .) ولما بلغها بيعة علي قالت: (تعسوا، تعسوا، لا يريدون الأمر في تيم (قومها وقوم طلحة) أبداً. . .) ثم أمرت برد ركابها إلى مكة وتقول: (قتلوا ابن عفان مظلوماً) فقال لها قيس بن أبي خازم: (يا أم المؤمنين ألم أسمعك آنفاً تقولين: أبعده الله؟ وقد رأيتك قبلُ أشد الناس عليه وأقبحهم رأياً فيه!) فقالت: (لقد كان ذلك، ولكني نظرت في أمره وأمرهم فرأيتهم استتابوه، حتى إذا تركوه كالفضة البيضاء أتوه صائماً في شهر حرام فقتلوه) أهـ
وهي رواية أسخف من التي تسربت إلى الطبري رحمه الله. وهذا موضوع لفق له بعض الناس من الأخبار ما يرضي أهوائهم على ما نرى اليوم من الأحزاب السياسية. بل إن بعضهم كان يتعبّد بوضع الروايات التي تنصر صاحبه وتدين خصمه. وما نسب إلى السيدة - في رواية ابن أبي الحديد خاصة - لا يصدر عن الأطفال، بله من كان في مثل عقل السيدة ودينها وحصافتها
سعيد الأفغاني