الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 313/مدينة قونية

مجلة الرسالة/العدد 313/مدينة قونية

بتاريخ: 03 - 07 - 1939


(يا حضرة مولانا)

للدكتور عبد الوهاب عزام

فصل من رحلات الدكتور عبد الوهاب عزام التي تطبع الآن

في مطبعة الرسالة ننشره بمناسبة ذكرى انتصار الجيش

المصري في قونية على الجيش التركي.

- 1 -

من أسكيشهر إلى قونية

أمضيت يوم الأحد في أسكيشهر ثم ركبت قطار المساء والساعة ست ميمّماً قونية؛ وكانت زيارة قونية منية في النفس حاولتها حينما سافرت إلى استانبول من قبل فحال دونها بُعد الشقة؛ وبينها وبين استانبول أكثر من عشرين ساعة بالقطار.

وكنت حينئذ أهاب اختراق الأناضول، فلما اخترقته في هذه السفرة وأنست بالسفر فيه عزمت على الرجوع إلى الشام من الطريق الذي أتيت منه؛ وكانت قونية أحبّ بلاده إليّ وكانت نفسي على رؤيتها أحرص. وإنما أربي من قونية زيارة مولانا جلال الدين

كان معي في القطار شاب من قونية معه زوجه فحدثني عن الترك وتمسكهم بدينهم وما فعلوا في الحرب، وكيف توغل اليونان في الأناضول حتى قذفهم أبطال الترك في البحر. وقال: إنهم قاربوا قونية ولكن مولانا جلال الدين ردّهم عنها. قلت في نفسي: هذه كلمة ظاهرها خرافة وباطنها حق؛ فإن ما يبثه جلال الدين في النفوس من قوة وإيمان وجهاد وحرية جدير أن يرد كل عدوّ عن حماه

- 2 -

بلغ القطار قونية والساعة ست ونصف من الصباح فمضيت إلى فندق اسمه فندق سلجوق فاسترحت بمقدار ما حال التعب الشديد بيني وبين مشاهدة المعاهد التي طال اشتياقي إليها.

ثم خرجت إلى المكتبة (ملت كتبخانه سي) فألقيت نظرة على فهارس المكتبة ولا سيما العربية منها فلم أجد فيها من نفائس الكتب أو غرائبها ما يستوقف الباحث. وأرسل معنا قيم المكتبة رجلاً من الموكلين بالآثار فذهب بنا إلى حيث يدفعنا الشوق ويدعونا الحب إلى البقعة التي ترسل الشعر والحكمة والتصوف في آفاق الإسلام منذ ستة قرون، إلى المزار الذي استبدل به صاحبه قلوب العارفين:

فلا تطلبن في الأرض قبري فإنما ... صدور الرجال العارفين مزاري

إلى الذكرى العظيمة التي لا تزال تدوي في القلوب تقي وشعراً، وفي العقول حكمة وإيماناً، وفي الآذان موسيقى وغناء؛ إلى النبوغ الذي مزج الحكمة والتصوف والشعر في أحسن تقويم؛ إلى الرجل الذي أنبته بلخ وظفرت به قونية ولكن لم يسع قلبه وعقله مكان؛ إلى الحكيم البكري الذي لا تحده الأنساب والأوطان؛ إلى صاحب المثنوي والديوان مولانا جلال الدين الرومي الذي تنسب إليه الطائفة المولوية المعروفة في مصر والأقطار الإسلامية، وقد اشتهرت مجالسهم في السماع، يجتمعون على نظام خاص ويدورون بترتيب محكم على نغمات الناي وإنشاد المثنوي؛ والناي عند المولوية رمز إلى الحنين الدائم إلى العالم الروحي وقد بدأ مولانا جلال الدين كتاب المثنوي بنشيد الناي وأوله:

استمع للناي غنى وحكى ... شفّة البين طويلاً فشكا

مذ نأى الغاب - وكان الوطنا - ... ملأ الناس أنيني شجنا

من تشرده النوى عن أصله ... يبتغي الرجعى لمغنى وصله

أين قلب من فراق مُزّقا ... كي أبثّ الوجد فيه حُرّقا

كل نادٍ قد رآني نأدباً ... كل قوم تخذوني صاحبا

ظن كلٌّ أنني نعم السمير ... ليس يدري أي سر في الضمير

إن سري في أنيني قد ظهر ... غير أن الأذْن كلّت والبصر

إن صوت الناي نار لا هواء ... كل من لم يَصْلَها فهو هباء

هي نار العشق في الناي تثور ... وهي نار العشق في الخمر تفور. الخ

وكان للمولوية في تركيا شأن عظيم وكان رئيسهم (جلبي قونية) يقلد سلاطين العثمانيين السيف حين يتولون الملك وكذلك كان لهم أثر عظيم في الأدب، وحسبك من شعرائهم الشيخ غالب

هذه دار المولوي ولكن لا أري الوفود متزاحمة على بابها، ولا أرى الدار آهلة بنزّالها، قد أقفر الندىّ، وخلا السامر، وعدت الدار من الآثار، يدخل إليها بالمال الصالحون والفجار

يلقى الداخل سور يتوسطه باب عتيق فوقه ظلة وعليه ثلاثة أبيات بالتركية تدل على أن السلطان مراد خان بن سليم خان بنى هذه الخانقاه سنة 992 هـ. ومراد هذا هو مراد الثالث ابن سليم الثاني ابن سليمان القانوني (982 - 1003 هـ) فإذا ولج رأى فناء ينتهي إلى الشمال بحجرات كانت مساكن المولوية ومجالسهم ومطابخهم ومأوى ضيوفهم. وإلى اليمين حجر رفيعة اتخذت الآن مكتبة. وأمام الداخل بناءٌ كبير تعلوه في الجهة اليمنى قبة خضراء مخروطية تحلّق فوق قبر جلال الدين، وفي الجهة اليسرى مأذنة وقبتان كبيرتان، ويُدخل إلى البناء من باب جميل مصنّع تعلوه كتابة فيها هذا الشعار الذي يرى على كثير من أبنية المولوية: (يا حضرت مولانا) ويفضي الباب إلى حجرة فيها آثار للمولوية فيها كتب ونسخ من المثنوي هي أقدم نسخة وأنفسها، ثم باب آخر يفضي إلى قبور المولوية والمصلى ودار السماع (سماعخانة): إلى اليمين رواق عليه قبة ويفصله سياج وسُتُر تمنع الناس أن يدخلوا إليه أو يروا ما فيه إلا أعالي ضريحين كبيرين أحدهما لجلال الدين والآخر لأبيه بهاء الدين ويبدو ضريح الأب من وراء السياج مستطيلاً رأسياً فيقول العامة: لقد قام بهاء الدين في قبره إجلالاً لأبنه

وفي وسط البناء رواق بناه السلطان الفاتح، وإلى اليسار مصلى ودار للسماع من آثار السلطان سليمان القانوني

وفي البناء من عجائب الخط والنقش والتذهيب والكتب والبسط ما يبهر الناظر، وفيه من ملابس مولانا وآثاره وآثار بنيه

رأيت أربع قلانس قيل إن إحداها قلنسوة مولانا، وأخرى لابنه سلطان ولد، والثالثة لشمس الدين التبريزي، والرابعة لحسام الدين جلبي من كبار أصحاب جلال الدين

ورأيت ثلاثة مصاحف كتبت في أواخر القرن التاسع فيها ترجمة تركية ومصحف سلجوقي بين سطوره ترجمة فارسية ونسخا من شروح المثنوي، ونسخة من الفتوحات يقال إنها بخط الشيخ الأكبر ورأيت سجادة عليها صورة الكعبة قيل أنها كانت لأم جلال الدين مؤمنة خاتون بنت السلطان جلال الدين خوارزمشاه، وسجادة أخرى يقال أن السلطان علاء الدين السلجوقي أهداها لجلال الدين يوم عرسه، عليها الآية: (أقم الصلاة لدلوك الشمس). . . الخ

وقناديل صنعت في مصر. . . الخ الخ

أطفنا بجوانب المكان نستمع إلى الدليل، وللذكرى في نفوسنا صوت أبين من صوته وأصدق وأجّل، ولكني أستعيذ بالله من قول القائل:

يك طواف مرقد سلطان مولاناي ما ... هقت هزار وهفصد وهقت وحج أكبر ست

(طوفة بمرقد مولانا سبعة آلاف وسبعمائة وسبعون حجا أكبر)

ثم خرجت وفي النفس حنين إلى البقاء وعزم على العودة:

خرجت أمشي يقول قلبي ... للرِّجل بالله أنظريني

وعدت في اليوم التالي فلقيت أمين الدار وكنت واعدته اللقاء لاشتراء بعض الصور، فقلت: أريد تجديد العهد بالمزار فدخل معي يطوف في أرجائه ويصف ما يرى ويروي من التاريخ.

وخرجت ولم أقض حاجات الفؤاد من رؤية ما وراء السياج.

ونعوذ بالله من الحجاب! إن شرّ ما يلقى الصوفيّ أن تسدل الحجب دون آماله ويحال بينه وبين مقصوده. خرجت كارهاً أتثاقل لأمضي مع الرجل إلى داره فيعرض عليّ ما صوّر من آثار قونية.

قال: أأنت أستاذ؟ قلت نعم. قال: انتظر، ثم أشار إليّ فتبعته فرجع إلى المزار وتلفت ثم أشار إليّ وفتح باب السياج فتبعته. قال: نحن نمنع العامة من الدخول ونمكّن الأساتذة الباحثين من رؤية ما يشاءون. فشكرت له وسرت إلى ضريح جلال الدين بين قبور كثيرة لشيوخ المولوية من أولاده. وقفت وقفة أناجي الروح العظيم وأستلهم حكمته وعظمته؛ ثم خرجت وفي النفس ما فيها من جلال الذكرى وثورة الشوق

- 3 -

ورأينا من آثار قونية مسجد علاء الدين وقصره وهما من أعظم آثار السلاجقة هناك؛ يقومان على ربوة في المدينة تسمى ربوة علاء الدين (علاء الدين تبه سي) ورأينا على مقربة من الربوة مدرسة قرة داي وزير السلطان علاء الدين ولا يزال فيها من عجائب الصنعة، ولا سيما الكاشاني ما يخلّدها على رغم الزمان الذي ذهب برونقها وكثير من نقوشها

وعلى باب المدرسة آيات وأحاديث وكلمات عربية منها: رب أوزعني أن أشكر نعمتك. إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. السماح رباح. العسر شؤم. الحزم سوء الظن. الولد مجبنة مبخلة

وفي المدرسة بهو عليه قبة، وإيوان وحجر قليلة كانت للطلاب، وحجرة فيها ضريح صاحبها

وزرنا مدرسة خربة تسمى صرجه لي مدرسة بنيت سنة 640 هـ ومدرسة صغيرة لحفظ القرآن كتب على بابها:

أنشأ هذه البقعة في أيام دولة السلطان محمد بن علاء الدين خلد الله مملكته صاحب الخيرات والحسنات محمد بن الحاج خاصبك الخطيبي أعلى الله شأنه وجعلها دار الحفاظ سنة أربع وعشرين وثمانمائة

وهذا تاريخ محرّف فيما أظن فقد انتهت دولة السلاجقة قبل هذا التاريخ. والظاهر أن البناء شيد سنة أربع وعشرين وستمائة في عهد علاء الدين كيقباد الأول (616 - 634) إلا أن يكون السلطان المذكور هنا من سلاطين بني قرمان الذين خلفوا السلاجقة في قونية

(البقية في العدد القادم)

عبد الوهاب عزام