مجلة الرسالة/العدد 313/رسالة الفن
→ التاريخ في سير أبطاله | مجلة الرسالة - العدد 313 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 03 - 07 - 1939 |
الرقص قديما وحديثا
للأستاذ محمد السيد المويلحي
ينظر الشرق في هذا الزمن إلى فن الرقص نظرة احتقار واستنكار لأنه لا يعلم عنه أو لا يحب أن يعلم عنه إلا أنه مجلبة اللهو والسرور، وإرضاء للغرائز الحيوانية، ثم هو يعتقد اعتقاداً يبلغ حد الإيمان - ولعله صادق - أن جميع محترفات الرقص من الطبقة الفقيرة التي لا تكترث لعوامل الشرف والتقاليد لا كثيراً ولا قليلاً. . . أولئك اللائى لا يرقصن لأنهن يجدن فن الرقص ويلممن بأنواعه الكثيرة، بل لأنهن يرقصن لملء البطون وستر الجسوم وإرضاء الرجال ليس إلا. . .!
هو لا يعلم أو لا يحب أن يعلم أن الرقص من أروع الفنون وأبدعها إن لم يكن أروعها وأبدعها جميعاً، فقد ظهر مع الإنسان الأول (على الأرض) من غير تعليم أو تدريب، ومن غير قواعد مرسومة أو أصول موضوعة، ومن غير أن يعرف أن هذا الذي يقوم به ويؤديه سيصبح مع مرور الزمن وكر الدهور فنّاً ككل فن آخر له قواعده وأصوله، وقيوده وحدوده. . .
فالطفل الصغير الذي لا يفرق بين الجمر والتمر، تراه إذا صفا ناغى وناجى وأخذ يهز جسمه، ويحرك رأسه، ويلعب بيديه في حركات بريئة منتظمة تعطي للناظر صورة بديعة (للرقص) الساذج الفطري الذي يجري مع الدم ويتحرك مع كل حركة للطفل حركات مضبوطة (موزونة) كأنما تعلمها وتلقنها عن مدرس ماهر!
والعجيب في الأمر أن تلك الحركات الطبيعية التي تصدر عن الطفل لو وزنت (فنيّاً) وقدر لها مثلاً (نواراً) زمنياً لكل حركة لرأينا أنها تجري على هذا النمط، وعلى هذا التقدير دون أن تزيد أو تنقص أو تخل بهذا الحساب الدقيق!
هذا الطفل بذاته لو غضب، أو خاف، أو تألم لعبر عن غضبه وخوفه وألمه بحركات تختلف تمام الاختلاف عن أختها، ولأعطانا صوراً مختلفة صادقة لهذا الفن الطبيعي الذي يجري مع دمه كما قلنا والذي يسجل خلجاته تسجيلاً دقيقاً لأنه يقوم في هذا الدور مقام الكلام ومقام التعبير. . .
والصبي الصغير الذي لا يفهم من الدنيا إلا أنها أكل وشرب ولعب ولهو ويقظة ونوم تراه إذا سمع لحناً أو عزفاً (رقص) معه وتابع موسيقاه وتنقل معه من نغم إلى نغم ومن مقام إلى مقام بإتقان يثير الدهشة ويبعث على العجب والحيرة عند من لا يعلمون أن الصبي لم يفعل شيئاً أكثر من أنه أسلم حواسه وأدمج خوالجه حتى نسي نفسه ونسي كل شيء يحيط به إلا هذا اللحن الذي حرك هذا الشيء الخفي الذي يجري في دمه وهو الرقص. . .!!
والمرأة والرجل، والفتاة والشاب!! ما بال الجميع عندما يسمعون (الموسيقى) التي تلائمهم وتوافق ميولهم يتمايلون برؤوسهم ويضربون الأرض بأرجلهم ويحركون أصابعهم وأيديهم في حركات منتظمة مستمرة؟؟ إنه الرقص الذي يجري مع الدم والذي تؤديه الأجهزة العصبية في حركات غير إرادية!!
(والزار) الذي يقولون عنه إنه ترضية للجن حتى تترك الأجسام أو تعفو عن أصحابها فيبرءون من أمراضهم (وكساحهم)
لو أسقطنا من حسابنا الدجاج الأبيض (أبو منقار أحمر وذيل أصفر) والخروف البني الذي لا شية فيه، والحمام اليمني الذي يرضى عن صوته الجن، والدم الذي يشربه المريض ويلوث به ملابسه وجسمه. . . لو أسقطنا من حسابنا هذا والبندق والفستق والفطير والبلح، ألا يبقى غير الطبل والرقص المنتظم تتثنى له المرأة وتنقبض وتنبسط في حركات إيقاعية سليمة؟؟
قلنا إن الرقص فن فطري نشأ مع الإنسان من يوم أن خلقه الله وقد كان قدماء المصريين يستخدمونه في لهوهم وحزنهم، وحروبهم وقرابينهم، وعبادتهم لآلهتهم لأنه كان عندهم في منزلة التقديس. . . تحترمه الكهنة وتعتقد أن الآلهة لا تقبل الصلاة ولا القرابين إلا إذا سبقها، الرقص لذلك كانوا يسمحون به ويشجعون عليه. وقد بلغ أنواعه في الدولتين القديمة والحديثة أكثر من عشرة أنواع كل منها يقوم على أساس مكين من الفن الصحيح الذي نقلته أوربا عن أوائلنا وأهم الأنواع:
1 - الرقص الجميل، وكانت تقوم به النساء شبه عاريات إلا ما يستر عورتهن وكن يحلين صدورهن ونحورهن بالحلي والأربطة، ويرتدين بعد ذلك ثوباً شفافاً طويلاً وإن كان لا يستر شيئاً إلا أنه كان يزيدهن فتنة وسحراً، وكان رقصهن رقصاً مهذباً بديعاً راقياً يمتاز بالبطء والرشاقة، وكان على شكل جماعات تتجه اتجاهاً واحداً الواحدة خلف الأخرى كما يتضح من الشكل رقم (1) وكان بعضهن يصفق ليحفظ الإيقاع الموسيقي.
2 - الرقص السريع، وكان يقوم به الرجال في حركات سريعة منتظمة قابضين بأيديهم على قطعتين صغيرتين من الخشب تقرع في أثناء الرقص قرعاً متتالياً سريعاً يتمشى مع حركاتهم ش (2)
3 - الرقص الفني (الكلاسيك)، ويمتاز بنشاطه ولونه الفني البديع وجماعاته المنتظمة. وهذا الرقص الذي ابتكره قدماء المصريين من آلاف السنين هو الذي نقلته أوربا الحديثة عنهم واستعملته في أوبراتها وسمته. .! ش (3)
4 - الرقص الحي، وهو أبدع أنواع الرقص القديم لأنه كان ترجماناً صادقاً للتفاعيل الطبيعية والخوالج النفسية فكان يمثل الانتصار والاندحار فيجثو المغلوب خاشعاً خاضعاً تحت قدمي الغالب كما ترى في الشكل رقم (4) الجزء الأيمن، وكان يمثل زقزقة العصافير، وتغريد البلابل ومداعبة النسيم للأغصان كما ترى في الشق الثاني من الشكل (4). . .!
5 - وهناك أنواع مختلفة عرفها قدماء المصريين، منها: رقص الحصاد وكان يقوم به الرجال وهم يصفقون بالأذرع المصفقة الواحد خلف الآخر في اتساق ونظام، والرقص بالآلات الإيقاعية كانت تقوم به نساء ذوات دل، وكن لا يرتدين إلا غلالات شفافة تنم عن جسوم غضة بضة يرقصن ويعزفن في آن واحد، والرقص بمتابعة الصاجات والرءوس المصفقة وكان الراقص غير العازف كما ترى في شكل (6) ضارب بالصاجات (الأول من اليمين) ثم راقص ومصفق وضارب بالرءوس المصفقة. . . والرقص الحربي وتتمثل فيه القوة والعظمة، ويظهر فيه الجبروت
هذه هي أهم أنواع الرقص المصري القديم أما أهم أنواع الرقص الأوربي والأمريكي فهي:
الفالس، سلوفالس (بوستون) التانجو، الرومبا، الكاريوكا، الفوكس تروت، سلو فوكس، اللامبتوك، الشارلستون، الشّيمي، سونج، بج آبل، جافا، وان استب، توستبس (بازودوبل)، فايف ستبس، جيج، لانسبيه، كادرييه، بلوز، مازوركا، كلاسيك دانس، دانس سور بوانت، كونتننتال. . .! وفيها القديم والجديد فيها المنقول عنا كما قلنا وفيها المنقول عن زنوج أمريكا كرقصة (الرومبا) وهي قريبة جداً من رقصة (شنجا) التي يرقصها العبيد والتي يسميها العامة من المصريين (شنجه رنجه). . .!
وأهم ما يلاحظ في هذه الرقصات كثرة اللف، والدوران، والحركة. والطابع الذي تمتاز به هو طابع النشاط والرياضة العنيفة أحياناً كرقصة الدانس سوربوانت وتقف فيها الراقصة طول الوقت على أصابع القدمين. . .!
على أن هناك رقصات داعرة ماجنة تشمئز منه الأخلاق، وتنفر منها التقاليد كرقصات البج آبل. اللانسييه والكاردييه وتكون فيها البطن فوق البطن والصدر فوق الصدر والفم قرب الفم وتلعب فيها الحيوانية دوراً كبيراً ولا يقوم بها إلا الشباب والشواب الذين يفيضون بالحيوية الكاملة، وبالجرأة المستهترة وبعدم الاكتراث بما يقال أو يثار وتحرم هذه الرقصات بعض الشعوب الأوربية كالإنجليز
أما الرقص الشرقي والمصري الحديث ونعني بالحديث الذي نراه في هذا العصر فلا يخرج عن الرقص الإيقاعي الذي أدخلته وزارة المعارف في برامج مدارس البنات ورياضة الأطفال وهو رقص بديع أشبه بالألعاب الرياضية منه بالرقص، والرقص البلدي ويقوم به عامة الشعب وبخاصة من طبقة الصعايدة (والفتوات) وهو أشبه الأشياء برقص الحصاد الذي كان يؤدى في الزمن المصري القديم ويمتاز بعزف (الوحدة الثابتة)
وأما رقص الراقصات المصريات والشرقيات فلا شيء فيه من الفن أبداً، ولا غاية من ورائه، ولا غرض من أدائه إلا إرضاء الرجال والاستحواذ على (جيوبهم وقلوبهم)!
فالجمهور لا يصفق للراقصة ولا يشتد ويغالي في تحيتها والإشادة باسمها إلا بقدر ما وُهبت من جمال، وبقدر ما تتمتع به قامتها السمهرية من اعتدال، وبقدر ما توزع من بسمات، وبقدر ما تمنح من لثمات!. .
فالرقص هنا لا يعتمد على فن أو ذوق أو رياضة، وإنما يعتمد على هز الصدور، ورج البطون، واستفزاز أحط الغرائز، وتنبيه (الحيوانية) تنبيهاً عنيفاً صاخباً يدفع الموظف الفقير إلى سرقة مال الحكومة ليتمتع ولو على حساب مستقبله وبيته وأولاده، ويحمل الفلاح الذي حصل أمواله أن يبددها ويصرفها ولو خرب بيته وطلقت زوجه، وشرد بنوه وبناته!
ويرمي إلى هاوية الخراب والدمار شبابنا الذي لا يعرف قيمة مال أتاه من غير كد أو جهد. . .
ويحفر حفرة الخيبة لكل طالب يسمح له والده بالتردد على هذه المباآت التي لا تعلمه إلا التفكير. . . لا في الدرس والفحص ولكن في حلاوة العينين، وسحر الشفتين ونار القلب والحب!
هذا هو رقصنا (الآن). وهو الذي تحميه الحكومة، وتحافظ عليه وتتغاضى عن صيحات العقل التي طالبت بإلغائه. . .
وهذا هو رقصنا الذي يستنزف أموالنا ويخرب بيوتنا ويدفع شبابنا إلى التخنث والتزين ثم الهلاك. . .
الحكومة تطارد الباعة الذين يكسبون (الملاليم) بعرق جبينهم ليصرفوها على أولادهم وزوجاتهم، ولا تطارد الراقصات اللاتي لا عمل لهن إلا الخراب لكل من يحتك بهن.!
الحكومة تحذف بعض المناظر الهينة اللينة من روايات بعض المصريين المساكين ولا تحذف هذه الدعارة وهذا الطاعون الذي يفتك بصغار تلاميذنا ومجانين وارثينا، والساذجين من عمدنا وفلاحينا. . .!
هذا هو الرقص عندنا ويا له من رقص لم يعلمه أو يلهمه إلا الشيطان!!
محمد السيد المويلحي