مجلة الرسالة/العدد 313/رسالة العلم
→ القصص | مجلة الرسالة - العدد 313 رسالة العلم [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 03 - 07 - 1939 |
فلسفة ليبنز
إرجاع الحرارة والحركة إلى أصل واحد
للدكتور محمد محمود غالي
بقاء الطاقة يجد تفسيراً في حركة الجزئيات - عمل روبير ماير - المبدأ الثاني في الترموديناميكا - هذا المبدأ يقرر استحالة الحياة في مستقبل الزمن - كيف فسر بولتزمان المبدأ المتقدم - أول دعامة في فكرة الاحتمال والمصادفة.
قدمنا كلمة عن فلسفة جديدة يحاولون بها توحيد الظواهر الطبيعية في الكون والرجوع بها إلى قليل منها، وذكرنا أن كل محاولة في هذا السبيل تُعد تقدماً للإنسان يفوق العديد من الاختراعات التي تبهرنا أحياناً ولا يمكن أن نعتبر الكثير منها خطوة حقيقية في سبيل التقدم، وذكرنا حالة خاصة باكتشاف ليبنز من توحيد ظاهرتي الحرارة والحركة والرجوع بهما إلى ظاهرة طبيعية واحدة، وقد ذكرنا ذلك في معرض الكلام عن النظرية السينيتيكية للغازات والسوائل التي استعرضناها لنثبت للقارئ فكرة الجزيء، وشرحنا تجارب كوتون وموتون واكتشافهما للألتراميكروسكوب الذي نرى به رأى العين أثر ما تحدثه جزيئات السائل على الجسيمات الصلبة الكولويدية التي تتصادم مع هذه الجزيئات، فترى حركة الجسيمات مضاءة داخل نقطة من الماء كما نرى الطائرات في الليل تُضيئها أشعة قوية، وذكرنا أن العلماء توصلوا إلى تفسير هذه الحركة غير المنتظمة والدائمة للجسيمات الصلبة الموجودة داخل السائل، وحسروا الستار عن مشاهدة قديمة للعالم النباتي براون الذي شاهد هذه الحركة منذ سنة 1827 والتي يُروى أن الطبيعي الإيطالي سبالانزاني شاهدها من قبله
ونعود الآن إلى فكرة ليبنز، فللقارئ أن يطالبنا حتى كتابة هذه السطور بأن نقيم الدليل على فلسفته في إرجاع الحرارة إلى الحركة، هذه الفلسفة التي تقدمت اكتشاف براون وسبالانزي بأكثر من قرن، وتقدمت أعمال كوتون وموتون وبيران بقرنين
لقد أقامت العلوم الطبيعية على إثبات وحدة الظاهرتين والرجوع بهما إلى أصل واحد، من الأدلة مالا يقبل اليوم جدلاً. وقد كان أول هذه الأدلة عن طريق أحد المبادئ الأساسية للعلوم وهو المبدأ القائل ببقاء الطاقة وعدم فنائها، هذا المبدأ يعزز أيضاً النظرية السينيتيكية للحرارة بحيث أصبحت نظرية بقاء الطاقة دليلاً على فكرة ليبنز فضلاً عن إثباتها للنظرية السينيتيكية. ولقد كان ثاني هذه الأدلة تفسير بولنزمان لما يسمونه المبدأ الثاني للترموديناميكا وهو ما سنتكلم عنه فيما يلي، وهو أيضاً عمل على تحقيق النظرية السينيتيكية
أما القانون القائل ببقاء الطاقة الذي يعممه العلماء الآن في كثير من الظواهر الطبيعية فقد وجد أساسه في بادئ الأمر في الظواهر الميكانيكية حيث كان لروبير ماير الفضل في الكشف عن تحول الطاقة الحرارية إلى طاقة ميكانيكية تحولاً حقق وجود علاقة عددية بينهما بحيث تُعيّن دائماً كل كمية من الشغل الميكانيكي كمية من الحرارة تتناسب معها
يذكر كل الذين تخرجوا من كلية الهندسة التجربة المعروفة لتعيين المعادل الميكانيكي للحرارة المعروفة بتجربة جول ويذكرون أن طاقة ميكانيكية معينة ممكن قياسها بعجلة محملة تدور، ترفع حرارة مسعّرٍ وتنقل إليه كمية معينة من الحرارة تتناسب مع الطاقة الميكانيكية بحيث يكون بين الطاقتين نسبة ثابتة هي معامل جول المتقدم الذكر
هذا التحول من طاقة إلى طاقة كان انتصاراً لماير، إذ أصبحت الحرارة مظهراً من مظاهر الشغل الميكانيكي. على أن هذا التحول يجد تفسيره في النظرية السينيتيكية إذا اعتبرنا أن الحرارة هي هذه الكمية من الشغل الموجودة في الحركة غير المنتظمة للجزيئات الداخلية للسائل، أي هذه هي الطاقة الموجودة في بلايين المصادمات الصغيرة، بحيث أن الشغل الميكانيكي هو نتيجة حركة موحدة الاتجاه للجسم، معتبراً وحدة، أي نتيجة حركة جزيئاته متجهة اتجاهاً واحداً
وعلى هذا فتحويل الطاقة الميكانيكية إلى طاقة حرارية هو انتقال من حركة منتظمة إلى أخرى غير منتظمة والعكس صحيح، بحيث أن بقاء الطاقة وعدم فنائها دليل جديد على صحة النظرية السينيتيكية التي يصح أن نطلق عيها النظرية الميكانيكية للحرارة
أما عن الدليل الثاني لفكرة ليبنز من أن الحرارة والحركة أمر واحد فقد أتى عن طريق فكرة استحدثت في العلوم الطبيعية كان لها خطرها وأهميتها وكانت فوزاً جديداً للسينيتيكية، هذه الفكرة خاصة بما يسمونه المبدأ الثاني في الترموديناميكا وهو المبدأ الذي يعين اتجاه الحوادث الطبيعية
كم من حوادث نعتبرها عادية لأننا اعتدناها فلا نسائل أنفسنا عن أسبابها. عندما تنفصل تفاحة عن شجرة فإنها تقع على الأرض بدل أن ترتفع إلى أعلى، ولقد كان الحادث عند نيوتن رغم بساطته لافتاً النظر وسبباً لأن نرث عنه اليوم مسائل من أعظم ما عرفه الإنسان من تفكير منظم، أجل، مسائل إن تزعزعت أركانها اليوم قليلا بعبقرية أينشتاين وغيره فما زالت لها مكانتها من الصحة فيما يخص الكثير من ظواهر الكون. وهكذا عند السؤال عن سبب بعض المظاهر الطبيعية تتعين أمامنا معارف لها من الخطر والأهمية مالا يخطر ببال، فماذا يحدث مثلاً عندما تضع يدك على جسم ساخن؟ إن ثمة نتيجة حتمية هي ارتفاع في درجة حرارة اليد وانخفاض في درجة حرارة الجسم الساخن، فهل تساءلت مرة لماذا يحدث هذا؟ إننا نعلم جميعاً أنه عندما نضع جسماً ساخناً جداً على منضدة فإنه ترتفع حرارة الجزء من المنضدة الملامس لهذا الجسم ويقابل ذلك انخفاض هين في حرارة الجسم الساخن، ونعلم جميعاً أنه لم يحدث بتاتاً أن تفقد المنضدة شيئاً من حرارتها الأصلية لتزيد هذا الجسم الساخن حرارة على حرارته
هذا الموضوع، على بداهته، الذي يتلخص في انتقال الحرارة من جسم ساخن إلى جسم بارد، يعود بنا إلى فكرة أساسية في العلوم الطبيعية، وهي خاصة بتقسيم الظواهر إلى ظواهر عكسية أي ممكن تحولها من حالة إلى حالة كما يمكن العودة من الحالة الثانية إلى الحالة الأولى، وظواهر غير عكسية أي إن قبلت التحول من حالة إلى حالة فهي لا تقبل الرجوع إلى الحالة الأولى
ولزيادة الإيضاح نقول: يحوي الجسم البارد مهما بلغ من البرودة كمية من الحرارة، ومن الجائز أن نزيد في برودته باللجوء إلى وسائل طبيعية مختلفة، بحيث يفقد شيئاً من حرارته، وعليه فليس ما يمنع أن نتصور أن ينقل هذا الجسم البارد جزءاً من حرارته إلى جسم حار، بحيث يرفع الجسم البارد حرارة الجسم الحار على حساب أن يزداد هو في برودته، ولا يتنافى هذا بحال مع مبدأ بقاء الطاقة السالف الذكر؛ ولكن مما يلفت النظر أنه لا بد من عملية خاصة وطاقة أخرى جديدة نصرفها ليكون هذا الانتقال جائزاً، فهو ليس أمراً طبيعياً يحدث من تلقاء نفسه.
وهكذا لم يحدث أبداً أن فكر إنسان في أن يضع قطعة من الثلج ليرفع بها حرارة فنجان ساخن من الشاي، أو يضع عموداً ساخناً في وعاء به ماء بارد ليزيد في برودة الماء ويرفع حرارة العمود.
إن الذهن العادي لا يستسيغ ذلك، وهو يدرك بالبداهة أن عملاً كهذا ضرب من المحال، وهو يعلم بدون حاجة للرجوع إلى المعادلات الرياضية الصعبة أن قطعة الثلج تعمل على تبريد الفنجان الساخن، كما أن العمود الملتهب يعمل على تسخين الماء ويطفأ عادة فيه، بحيث لم يحدث أبداً لصانعي العجلات الذين يلجئون إلى تسخين الأطواق الحديدية قبل وضعها حول أجزاء العجلة الخشبية أنه عند وضع هذه المجموعة في الماء لتقلص الطوق الحديدي ويشد العجلة، أن برد الماء وازدادت حرارة الطوق، وإنما المشاهد أن يبرد الطوق ويسخن الماء وقد يبلغ الغليان
وهكذا تحتم المشاهدات البسيطة قبل أن تحتم العلوم والمعادلات العويصة أن ثمة نزولاً حتمياً واقعاً من الحرارة العليا إلى الحرارة المنخفضة وأن هذا السير وهذا الاتجاه موجودان في جميع العمليات الحرارية، ولا يتغير ما دمنا لا نلجأ إلى وسيلة خارجية وإلى استعمال طاقة أخرى. ولقد وضح الطبيعيون ذلك بإدخال فكرة يسمونها (الأنتروبي) وهي بالتعريف مجموع تكامل كميات الحرارة الصغيرة الحادثة أثناء الانتقال مقسومة على درجة الحرارة المطلقة، وقرروا أن (الأنتروبي) تزداد دائماً في كل العمليات الحرارية. وأود ألا يشغل القارئ نفسه بموضوع (الأنتروبي) فهي في الواقع طريقة رياضية للتعبير عن القانون الثاني للترموديناميكا هذا القانون الحراري البسيط الذي يلاحظه القارئ في كل مشاهداته اليومية والذي يحتم انتقال الحرارة من جسم عالي الدرجة إلى جسم خفيضها، تقرر كمبدأ عام يربط العلوم الحرارية بمعارفنا الطبيعية، ويقرر أن العمليات الحرارية تتم جميعها في الكون على طريقة التوزيع المتساوي لكل الكميات الحرارية المستعملة. ولئن كانت الشمس التي هي في الواقع المصدر البارز في حياتنا تفقد بالأشعة من وزنها ما يبلغ أربعة آلاف مليون طن في الثانية الواحدة فهي في طريق الفناء كما يعتقد الكثيرون من العلماء أو أنها تزيد حرارتها كما ذكر ذلك حديثاً في النشرات الأمريكية الأستاذ جاموه أي أنها في دور النمو، فإن حوادثها في كلتا الحالتين تسير وفق المبدأ الثاني للترموديناميكا - هذا المبدأ الذي يعين الاتجاه الحراري من الدرجات المرتفعة إلى الدرجات المنخفضة، ثابت لا يتبدل.
إنما يهمنا من هذا المبدأ الثاني أمران: الأمر الأول خاص بفلسفة الوجود والتطور ولا نتعرض أكثر من أن نقول إنه موضوع يدعو التأمل فيه إلى شيء من الأسف، إذ يدلنا هذا المبدأ الثاني على طريق السير الحراري فيما يتعلق بالكون الذي يسير وفق هذا المبدأ نحو نهاية محتومة، نهاية يسميها العلماء الموت الحراري وتفسير ذلك أنه عندما تتوزع الطاقة الكلية للكون توزيعاً متساوياً تصبح حرارة المادة المكونة لأجزاء الكون المختلفة متساوية. والذين تابعوا مقالاتنا الأولى في وصف الكون والحيز المتمدد وقلة ما به من مادة، يفهم أن هذه الحرارة تكون منخفضة بحيث لا تسمح لأي نوع من الحياة بالبقاء، على الأقل على الصورة التي نفهمها من الحياة والحركة.
والأمر الثاني خاص بعلاقة هذا المبدأ الثاني بالنظرية السينيتيكية، والواقع أنه لم يكن عسيرا أن يتوصل الطبيعيون إلى هذا المبدأ الثاني الذي يشترك في مشاهدة نتائجه اليومية الشخص العادي بقدر العالم الطبيعي، ولكن كان على الطبيعيين أن يجدوا لهذا المبدأ تفسيراً يلتئم مع بقية المعارف الطبيعية، وقد كان لبولتزمان الفضل في أن يجد هذا التفسير الخاص بانتقال الحرارة من جسم حار إلى جسم أقل منه حرارة وعدم إمكان العملية العكسية باللجوء إلى النظرية السينيتيكية، وبذلك وجد بولتزمان مرة أخرى وبطريقة غير مباشرة دليلاً جديداً على فلسفة ليبنز. وها نحن أولاء نسرد في هذه الأسطر لمحة من تفكير بولتزمان وأثره على النواحي الطبيعية الأخرى:
عندما نقول أن لهذا الجسم حرارة معينة فإننا نعني أن لجزيئاته سرعة معينة، هذه السرعة للجزيئات ليست متساوية فمنها ما هو سريع ومنها ما هو بطيء. إلا أن ثمة متوسطاً عاماً لسرعة جميع الجزيئات تمثل حركته المتوسطة، وهذا المتوسط العام يدل على حرارة الجسم، هذه السرعة المتوسطة تزيد كلما زادت حرارة الجسم
وعندما يتلاصق جسمان حرارتهما مختلفة فإن جزيئاتهما تتصادم وتختلط - على أن كل أنواع الحوادث جائزة وقوعها في كل تصادم فردي، حتى أنه من الجائز أن يصطدم جزيء بطيء مع آخر سريع وينقل إليه سرعته الخاصة به كما يحدث هذا بين كرتين من كرات البلياردو، ولكن مثل هذا الحادث نادر وأكثر شيوعاً منه مصادمات من نوع آخر تتساوى فيها السرعات على قدر الإمكان بحيث أن التعادل الحراري يحدث من تعادل سرعات غالبية الجزيئات المختلفة، وهكذا تكون نتيجة التلاصق نزولاً حتمياً في حرارة الجسم الحار وارتفاعاً حتمياً في حرارة الجسم البارد
على أن أعظم ما في هذا التفسير وهذا القانون الثاني للترموديناميكا أنه يحول هذا الاقتراح السابق إلى قانون إحصائي، ويتساءل القارئ كيف يصبح قانون أساسه إحصاء مبني على المصادفة قانوناً طبيعياً ثابتاً؟ ولكن لم يعد لهذا السؤال محل بعد أن انتصر منطق المصادفة في معظم فروع العلوم الطبيعية ولا سيما بعد (الكوانتا) وما أدخلته من تعديلات جوهرية على معارفنا، وكما يقول ريشنباخ في محاضراته التي أذاعها في برلين: عندما ندخل في حجرة فإننا لا نسائل أنفسنا بتاتاً عن الخطورة التي قد تحدث من اجتماع جميع جزيئات الأكسجين الموجود في الحجرة في ناحية منها واجتماع جزيئات الأزوت في الناحية الأخرى، بل إننا على ثقة دائماً ومهما طال الزمن أن الهواء داخل الحجرة خليط من الأكسجين والأزوت وأن اختلاطهما نتيجة لمصادمات فردية بين جميع جزيئات الأوكسجين وجميع جزيئات الأزوت، ولا شك أنها حادثة نادرة جداً لا يجيزها العقل أن يجتمع في ناحية من الحجرة كل الجزيئات المكونة لأسرة الأوكسجين وفي الجزء الآخر الجزيئات المكونة لأسرة الأزوت، بحيث يصبح جزء هام من الحجرة خانقاً الآخر مساعداً على الاشتعال
ومهما يكن من الأمر فإنه عندما تكون حادثة ما جائزة ولكنها قليلة الاحتمال فإننا لا نأخذها في محل الاعتبار في تسيير حياتنا اليومية - وهكذا نسافر للاصطياف في جبال لبنان العليلة الهواء أو حول بحيرة ليمان في سويسرا المعروفة بمناظرها الخلابة، رغم ما يدل عليه الإحصاء من أنه في مجموع ألوف البواخر المسافرة في العالم يتعرض حتماً بعضها للغرق أو الحريق. وهكذا تراني على استعداد لتكوين ابني ضابطاً بحرياً، لو وجدت لدينا مدارس بحرية منظمة تدرس العلوم الصحيحة، وذلك لأجعل منه شخصاً نافعاً يعتمد عليه، رغم أن الحوادث سجلت في هذا الشهر ثلاث حوادث تأسف لها الإنسانية، وهي غرق ثلاث غواصات لأمريكا وإنجلترا وفرنسا، بحيث أنه يعد ضرباً من السخف أن أمنعه من تعلم البحرية وأسمح له في نفس الوقت بالخروج من المنزل لشراء حاجياته أو للتوجه إلى المدرسة، لأنه في هذا أيضاً معرض ليلقى حتفه بطريقة أسرع من احتمال غرقه في غواصة قد تغرق في كل بضعة آلاف من الغواصات
وهكذا نغادر جميعاً منازلنا في الصباح بشيء من التفاؤل يملأنا ثقة أننا سنلتقي بأطفالنا في المساء، ولو أن بين مئات الألوف الذين يخرجون كل صباح من مدينة القاهرة يوجد دائماً وكل يوم واحد أو اثنان يُصاب بحادث يحرمه من هذا الاجتماع
إن فهمنا للطبيعة انقلب رأساً على عقب بهذه الفلسفة الجديدة التي أدخلها بولتزمان، فلأول مرة دخل في العلوم الطبيعية قانون إحصائي مبني على مجموع الحوادث الفردية واحتمال حدوثها بدل القوانين القديمة التي كانت لا تستند على هذا النوع من التفكير
من هنا بدأ مجال جديد في جميع المسائل؛ ومن هنا تغلغلت فكرة بولتزمان في النواحي الأخرى للعلوم الطبيعية. ولا شك أنني عندما فكرت يوماً أن أحصل على حالة الماء المشبع بالطمى من دراسة فوتو كهربائية للماء الحامل للطمى كنت متشبعاً بنوع من التفكير الإحصائي لبولتزمان، على رغم أن كل العوامل كانت تؤول بنا إلى الابتعاد عن الطرق النيفولومترية وهكذا رغم العوامل المنفرة استعملت الطرق الضوئية بنجاح لمعرفة كمية ما بالنيل من طمى ووضعت مع العالم بيروه أخيراً أساساً لمعرفة كمية الطمى عن بعد وبدون الالتجاء لاستعمال الأسلاك الكهربائية على أن هذا النجاح مرتبط بوجود متوسط عام لملايين الجسيمات من طمى النيل، متوسط يدل على كمية هذا الطمى ونوعه
وهكذا باتت العلوم كلها مسرحاً لنتائج الإحصاءات الفردية وحساب الاحتمالات، والذين يستطيعون اليوم أن يتتبعوا (الكوانتا) وما أحرزته من نجاح ويفهمونها كما فهمها (بلانك) يدركون أن التقدم الإنساني آتٍ من هذه الناحية الجديدة الخاصة بالاحتمال والمصادفة والتي يظل اسم بولتزمان علماً فيها
ونختم هذا البحث الخاص بالجزيء بأن نذكر للقارئ أن النظرية السينيتيكية قد ساعدت جدياً على فكرة الجزيء وأفهمتنا كنهه وطبيعته بدرجة بلغت الآن اليقين، بحيث أن ترك السينيتيكية يجعلنا عاجزين عن تفسير أحد قوانين الطبيعة وهو قانون بقاء الطاقة وعدم فنائها، ونكرر للقارئ أن السينيتيكية ساعدت أمثال بولتزمان على تفسير بعض مظاهر الكون مما جعلتهم يتوصلون إلى نوع جديد من التفكير الطبيعي بات أساساً لمعظم معارفنا
وهكذا انتصرت فكرة ليبنز هذا الفيلسوف الألماني الذي طالع في سن صغيرة جدا أعمال كيبلير وجاليليو واستوعب ديكارت، والذي درس الرياضة في جامعة أينا
وسنقيم الدليل بعد الذي كتبناه عن تقسيم الجزيء إلى ذرات ونرى كيف مهدت الكيمياء وانتصرت في هذا الباب وسندخل بالقارئ بعد حين في الذرة ليرى هذا العالم العجيب، والعظيم نسبة لما يحدث في داخله، وبهذا يلمح طرفاً من أعظم ما نعرفه عن الكون.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة