الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 312/في بلاط الخلفاء

مجلة الرسالة/العدد 312/في بلاط الخلفاء

بتاريخ: 26 - 06 - 1939


بين المازني والواثق والمتوكل

للأستاذ علي الجندي

لم تر البصرة بعد سيبويه من كان أعلم بالنحو وأحسن استنباطاً لمسائله، وتخريجاً لعلله من أبي عثمان بكر بن محمد المازني نسباً أو ولاءً على الخلاف في ذلك

ولم يشأ المازني أن يقصر همّه على قواعد النحو الجافة، شأن كثير من رجالات البصرة، بل أراد أن يكون وسطاً بين سيبويه والأصمعي، فاتجه إلى تحصيل اللغة والأدب برغبة صادقة، فأخذ عن أبي عبيدة وأبي زيد الأنصاري والأخفش والأصمعي، حتى صار إمام عصره، وحتى كان من تلاميذه المبردُ وعبد الله بن سعد الورّاق وغيرهم من كواكب العربية الساطعة

وكان - إلى تمكنه في النحو واللغة والأدب - على حظ عظيم من قوة اللّسن، وخلابة المنطق، وبراعة الاحتجاج، فما تعرّض لمناظرته أحدٌ إلا افتضح، لدقة مسلكه في الجدل، وامتلاكه مذاهب القول، وتصرّفه في ألوان البيان

وقد ناظر أحد شيوخه الأخفش في مسائل عدّة، فقطعه وتركه ساقطاً مغلّباً!

ولم ينس المازني نصيبه من الشعر فنظمه على قلة. ولشعره حلاوة، وعليه ماء ورونق، وإن لم يخرج في جملته عن نطاق شعر النحاة والفقهاء والمعلمين الذين يعتمدون على حسن الرصف وإبداع الصياغة أكثر من اعتمادهم على الخيال الموشى والتصوير البارع

فمن أبياته السائرة قوله في الحكم:

ثِنْتان يعجِز ذو الرياضة عنهما ... رأيُ النساء وإمْرة الصّبيان

أما النساء فإنهن نواشز ... وأخو الصِّبا يجري بكل عِنان

وله تعزية حسنة لبعض الهاشميين تفيض سلوى وتأساء على الكبد المقروحة والقلب الصديع، لما انطوت عليه من الذكرى النافعة، والحكمة البالغة التي تقود النفوس طيعةً إلى التسليم بقضاء الله وقدره. قال:

أني أعزيك، لا إني على ثقة ... من الحياة ولكن سنة الدين

ليس الُمعَزَّى بباقٍ بعد ميِّته ... ولا المعزِّّى وإن عاشا إلى حين وكان المازني يمنح نفسه حرية المتشرع في فهم المسائل وإدراكها على الوجه الذي يسوغ في الذوق والعقل دون التعبد بآراء السلف. ومن أثر ذلك: تفسيره للحديث المشهور (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) بأن المراد منه: إذا كان الفعل الذي تريد إتيانه لا يستحيا من مثله فاصنع منه ما شئت. وهو رأي حسن لم يسبق إليه

ولهذا الاستقلال الفكري الذي عرف به، كان المبرّد يقول: ما رأيت نحوياً أشبه بفقيه من المازني!

وللمازني رأي غريب في جماعة المشتغلين بالعلوم يحسن أن نورده لطرافته ولدلالته على شغف الرجل بدراسة أخلاق الناس، ودقة فطنته إلى ما يتمايزون به من صفات. يقول: - وقد سئل عنهم - أصحاب القرآن فيهم تخليط وضعف، وأصحاب الحديث فيهم حشو ورقاعة، والشعراء فيهم هوج، وأصحاب النحو فيهم ثقل، وفي رواية الأخبار: الظرف كله. والعلم: هو الفقه

وقد يكون المازني جانب الصواب في بعض هذه الأحكام، ولكنه قد صدق على الأقل في حكمه على النحويين!

ومن نوادره السائغة قوله: مررت ببني عقيل فإذا رجل أسود قصير أعور أبرص أكشف قائم على تل سماد وهو يملأ جواليق منه، ويتغنى بأعلى صوته:

فإن تصرمي حبلي وتستكرهي وصلي ... فمثلك موجود ولن تجدي مثلي

فقلت له: صدقت. ومتى تجد - ويحك - مثلك؟! فقال: بارك الله عليك! واسمع أخيراً. ثم اندفع يغني:

يا ربة المِطْرف والَخلخال ... ما أنت من همي ولا أشغالي

مثلك موجود ومثلي غالي

ويمتاز المازني بسمة واضحة عرف بها شيخ شيوخه الخليل ابن أحمد، وهي القناعة بالكفاف، والميل إلى العزلة والانفراد، والأنفة من التكسب بالعلم، وإيثار البعد عن الخلفاء وحاشيتهم والزهد في احتجان جوائزهم وصلاتهم ما لم يتقدموا بأشخاصه إليهم رغبة في الاستفادة منه، فيصدر عنهم معزّزاً مكرماً.

ومع أنه من المتعارف لدى الناس أنه قلّما يكون النحوي دّيناً. فقد كان المازني ثقة في دينه صدوقاً، كثير التزمت والورع، وإن كان منحرفاً عن أهل السنة إلى المعتزلة، ولهذا كان يلقى جفوة من أستاذه الأصمعي السنّي المتشدد فقلّت روايته عنه. وقد بلغ من زهده أن يهودياً بذل له مئة دينار ليقرئه كتاب سيبويه، فامتنع من ذلك! فقال له تلميذه المبرد: جُعلت فداك! أتردّ هذه المنفعة مع فاقتك وشدة إضاقتك؟ فكان جوابه: إن هذا الكتاب يشتمل على ثلاثمائة وكذا وكذا آيةً من كتاب الله عزّ وجلّ، ولست أرى أن أمكّن منها يهوديّاً غيرةً على كتاب الله وحمية له.

ونرجو أن يثاب المازني على حسن نيته، وإن كنا لا نقره على هذه العصبية. ومهما يكن من شيء فإنه لم تمض غير برهة قصيرة حتى أرسل الخليفة الواثق في طلبه ونفحه بالأعطيات السنية، فعدّ الناس ذلك إكراماً من الله له وإخلافاً عليه.

أما سبب طلب الواثق له فقد حدث أن مخارقاً غناه في شعر الحارث بن خالد المخزومي.

أظلوم إن مصابكم رجلاً ... أهْدَى السلامَ تحيةً ظُلْمُ

فذهب بعض الحاضرين إلى نصب (رجل)، ورأى آخرون رفعه، واشتد اللجاج في ذلك، فسأل الواثق عمن بقي من رؤساء النحويين فذكروا له المازني، فتقدم بحمله وإزاحة علله وإحسان تجهيزه ليفصل في هذا الخلاف.

وقد يتساءل بعض القراء: ما شأن الواثق بالنحو، وما قيمة رفع (رجل) أو نصبه حتى يزعج المازني من البصرة، ويعقد لذلك مجلساً من القضاة والمحكمين؛! والجواب: أن الواثق كان من أجلّ الخلفاء وأكثرهم اشتغالاً بالعلم والأدب وأطبعهم على قول الشعر الرقيق، وأبصرهم بالنقد، وأشدهم تمحيصاً للرواية وأميلهم للغناء. ولولا خشية الإطالة لجلونا ناحية من نواحيه الأدبية المشرقة ليعرف الناس كيف كان خلفاء هذا الزمان!

بلغ المازني دار السلام فأدخل إلى الواثق. فقال له: ممن الرجل؟ قال: من مازن. قال: من مازن تميم، أم مازن قيس، أم مازن ربيعة، أم مازن اليمن؟ قال: من مازن ربيعة.

وكانت اللغة الفاشية في مازن ربيعة قلب الميم باءً والباء ميماً. فقال الواثق يخاطبه بلغته بسطاً لنفسه وإدخالاً للأنسة عليها: باسمك؟ يريد: ما أسمك؟!

وهنا تتجلى لباقة المازني وسلامة ذوقه ورفاهة حسه وحسن تأتيه في مخاطبة الخلفاء؛ وأحسبه لو كان نحوياً فقط لارتطم في الهوّة، ولكن ذوقه المكتسب من معاناة الأدب فتق له عن وجه الحيلة في الخروج سالماً من ورطة دفعته إليها دُعابة الواثق من غير قصد.

لقد عرفنا أن اسم المازني (بكر) والجري على مقتضى القياس في القلب أن يقول: اسمي (مكر) ولكن كيف يرضى المازني الأريب أن يقذف في وجه الخليفة بهذه الكلمة الكزّة الجاسية؟

رفع المازني رأسه إلى الخليفة قائلاً: اسمي بكر، يا أمير المؤمنين

رفّت هذه الكلمة رفيفاً نديّاً على كبد الواثق، واستنار منها وجهه واستضحك لها! وعرف أن هذا الذي يقف بين يديه رجل فيه كيس ودراية، وله طبع مهذب مصقول. فقال (مستمراً في مفاكهته): اجلس فاطبئن. أي فاطمئن

ويجب ألا ننسى بهذه المناسبة أننا في العصر العباسي، حيث ورفت ظلال الحضارة ولان العيش وفشا النعيم واستفاض الظرف ورقت حواشي الأخلاق، وارتفعت مقاييس الأذواق، فكلمة ناعمة منضورة أمام خليفة أو وزير قد تنبّه من شأن قائلها وتحله منازل السعادة! وربّ كلمة حوشية جافية تهوى به إلى أسفل سافلين!

خذ لذلك مثلاً ما حدثوا به من أن مؤدب الرشيد كان عند والده المهدي (وهو يستاك) فقال له: كيف الأمر من السواك؟ فقال: اسْتك يا أمير المؤمنين. فقال المهدي: إنا لله وإنا إليه راجعون! التمسوا لنا من هو أفهم من هذا. فقالوا له: رجل يقال له علي بن حمزة الكسائي من أهل الكوفة قدم من البادية قريباً. فكتب بإحضاره، فساعة مثل بين يديه قال له: يا علي بن حمزة، قال: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: كيف تأمر من السواك؟ قال: سُك. قال: أحسنت وأصبت وأمر له بعشرة آلاف درهم!

وقد حرم الأصمعي التوفيق في بعض مواقفه مع الرشيد على علمه وفضله فقد سأله عن مسألة، فأجاب: على الخبير بها سقطت! فقرعه الوزير يحيى بن خالد ونسبه إلى السوقة والأغتام!

على حين فطن لها أبو أحمد العسكري - وقد سأله الصاحب ابن عباد، فقال: الخبير صادفت. فقال الصاحب: يا أبا أحمد تُغرب في كل شيء حتى في المثل السائر! فقال: تشاءمت من السقوط بحضرة مولانا، وإنما كلام العرب: على الخبير بها سقطت

لهذا نَبُل المازني في نفس الواثق وحليّ في عينه، لأنه توسم فيه سجاحة الخلق وسلاسة الحاشية ودقة الفطنة. وما زال الناس يستدلون بحديث المرء على دخيلة نفسه وصحيفة لبه ومبلغ تهذيبه وثقافته

ولنعد إلى ما انقطع من الحديث، فنقول: إن الواثق سأله عن البيت المتقدم فقال: الوجه النصب، لأن مصابكم مصدر بمعنى إصابتكم. فأخذ اليزيدي النحوي يعارضه. فقال المازني: هو بمنزلة: إن ضربك زيداً ظُلمٌ. فالرجل مفعول مصابكم، والدليل عليه: أن الكلام معلق إلى أن نقول: ظلم، فتتم الفائدة

فأعجب الواثق بهذا الفقه الدقيق. فقال: صدقت. ثم أردف قائلاً: ألك ولد؟ قال: بنت لا غير. قال: فما قالت لك حين ودعتها؟ قال: أنشدتني قول الأعشى:

تقول ابنتي حين جدّ الرحيل ... أرانا بسوء كمن قد يتم

أبانا فلا رِمْتَ من عندنا ... فإنا بخير إذا لم تَرِمْ

فقال الواثق: كأني بك وقد أنشدتها قول الأعشى أيضاً:

تقول بنتي وقد قرّبتُ مُرْتحلاًِ ... يا رب جنّب أبي الأوصابَ والوجعا

عليك مثل الذي صلّيت فاعتصمي ... يوماً، فإن لجنب المرء مُضَّجَعا

ولا ندري أقال المازني لابنته هذا الشعر أم لم يقله؟ ولكن ذوقه الذي كشفنا جانباً منه أبي إلا أن يصدق ظن الخليفة.

فقال: صدق أمير المؤمنين. قلت لها ذلك وزدتها عليه قول جرير:

ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاح

فقال الواثق: ثق بالنجاح إن شاء الله.

وخطر للواثق أن يكل إليه امتحان معلمي أولاده فقال له: إن ههنا قوماً يختلفون إلى أولادنا فامتحنهم، فمن كان عالماً ألزمناه إياهم، ومن كان بغير هذه الصفة قطعناه عنهم. وقد امتحنهم المازني فلم يجد فيهم طائلاً. فجزع المعلمون المساكين، وأيقنوا بالشر. ولكن المازني كان له دين يعصمه من قطع أرزاق الناس، فقال لهم: لا تُراعوا. ثم مضى إلى الخليفة. فقال له: كيف رأيت؟ فأجاب بجواب أبرأ بة ذمته وخلص منه إلى غرضه. قال: رأيتهم يفضل بعضهم بعضاً في أمور، ويفضل الباقون في غيرها، وكلٌ يُحتاج إليه. فقال الواثق: إني خاطبت منهم رجلاً فكان غايةً في الجهل خطاباً ونظراً! فقال المازني: يا أمير المؤمنين أكثر من تقدّم من المعلمين بهذه الصفة! وقد قلت فيهم:

إن المعلم لا يزال مضعفاً ... ولو ابتنى فوق السماء بناَء

من علم الصبيان أضنوْا عقله ... مما يلاقي بُكْرة وعشاء

فاهتز الواثق طرباً وقال: كيف لي بقربك؟ فقال المازني: يا أمير المؤمنين، إن الغنم لفي قربك والنظر إليك، والأمن والفوز لديك، ولكني ألفت الوحدة، وأنست بالانفراد، ولي أهل يوحشني البعد عنهم، ويضُرُ بهم ذلك، ومطالبة العادة أشد من مطالبة الطباع. فقال الواثق: فلا تقطعنا وإن لم نطلبك. فقال: السمع والطاعة.

وقد أمر له الخليفة بألف دينار، وأجرى عليه في كل شهر مئة، فانصرف إلى البصرة موطنه، وظلت تجري عليه الوظيفة حتى مات الواثق فقطعت عنه.

وقد ذُكر المازني للمتوكل فاستدعاه، فدخل إليه وقد جلس وزيره وصفيه الفتح بن خاقان بين يديه، وحفّت به كوكبة من فتيان الأتراك مدججين بالسلاح فهاله ما رأى من روعة الحضرة وأبهة البلاط، وكثرة العدد والعُدد، فطارت نفسه شعاعاً، وانتشر عليه فكره، وخشي أن يسأل فلا يسعفه الجواب لما داخله من الهيبة. فحين سلّم على الخليفة، ابتدر قائلاً: يا أمير المؤمنين أقول كما قال الأعرابي:

لاتَقْلُوَاها وادْلواها دلوا ... إن مع اليوم أخاه غَدْوا

ولم يكن المتوكل كالواثق في ثقافته العربية فلم يفهم ما أراد المازني، فاستُبرد وأُخرج. ولكن المتوكل لم يستغن عنه، فعاد فاستدعاه وقال له: أنشدني احسن مرثية قالتها العرب:

فقال المازني قول أبي ذؤيب الهزلي:

أمن المنون وريبها تتوجع

وقول كعب الغنوي:

تقول سليمي ما لجسمك شاحبا

وقول متمم بن نويرة:

لعمري وما دهري بتأبين هالك

وقول محمد بن مناذر:

كل حي لاقى الحمام فمودي وهذه القصائد من الشرّد السائرات في الشعر العربي، وبخاصة قصيدة متمم في أخيه مالك التي كان يسميها الأصمعي أم المراثي! ولكن المتوكل لم يطرب إلى واحدة منها، فكان كلما سمع قصيدة قال ليست بشيء!

ثم قال المتوكل: من شاعركم اليوم بالبصرة؟ قال المازني: عبد الصمد بن المعذّل. قال: فأنشدني له

ولم يشأ المازني أن يُقل عليه بالشعر الجزل الرصين، فأنشده أبياتاً قالها ابن المعذل في قاضي البصرة ابن رباح:

أيا قاضية البصرة (م) ... قومي فارقصي قَطْره

ومرّي بِرَوْيسيجٍ ... فماذا البرد والفتره

أراك قد تثيرين ... عجاج القصف يا حرّه

بتجذيفك خديك ... وتجعيدك للطره

وهذا الشعر من السخف والغثاثة والثقل بمكان! والمتوكل شاعره البحتري أولى من استحق لقب شاعر على الإطلاق، فكان من المظنون ألا يطرب لهذا الشعر البارد المخشوب، ولكن من العجب أنه استطير له ومالت به النشوة كل مميل فوصل المازني بجائزة سنية!

وعرف المازني من ذلك أن المتوكل يستروح إلى الشعر المهلهل النسج، القريب الغور، من مثل المقطعات الرقيقة في الأهاجي والمجون والدعابات والإخوانيات، فكان يتكلف أن يحفظ له من ذلك الشيء الكثير، فينشده إياه إذا استدعاه، فيغمره بالخلع، ويملأ يديه بالصفراء والبيضاء! والسلطان سوق يحمل إليه ما ينفق عنده. وقد توفي المازني سنة ثمان وأربعين أو تسع وأربعين بعد المائتين عن ثروة ثمينة من التآليف الحسان في عدة فنون. نضر الله وجهه وأجزل مثوبته!

علي الجندي