مجلة الرسالة/العدد 312/رسالة الفن
→ القصص | مجلة الرسالة - العدد 312 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
رسالة العلم ← |
بتاريخ: 26 - 06 - 1939 |
دراسات في الفن
الفن شعور
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
يأبى بعض علماء النفس إلا أن يسرفوا كل الإسراف في التقيد بالتجارب المادية فلا يرضون أن يقرروا الحقائق النفسية إلا بعد أن يقيسوها ويزنوها بمقاييس وموازين مادية من الأجهزة البارعة التي استحدثوها. ولست أدري كيف غاب عن هؤلاء العلماء الأجلاء أن المادة لا تستطيع أن تقيس وأن تزن إلا المادة وهم - على ما يعترفون بجهلهم المطبق بالنفس ذاتها - لا يجرؤ أحدهم على القول بأنها مادة. فإذا قال قائل: إن هناك طريقاً غير سراديب المعامل وأقبيتها قد تؤدي إلى بعض العلم بالنفس كان من حسن المجاملة التي يجب على علماء النفس اصطناعها أن يسكتوا عنه - إذا تكبروا عن متابعته - كما سكت عنهم وتركهم يقيسون ويزنون بما يستحدثون ويصنعون ما لا يعرفون ولا يعلمون ويقولون مع هذا إنهم علماء، وإنهم ينهجون في علمهم النهج القويم الوحيد
فإذا أرادوا أن يدافعوا عن أنفسهم وقالوا إنهم لم يستحدثوا حدثاً، ولم يبتدعوا بدعة وإنهم لم ينهجوا في علم النفس إلا النهج الذي ينهجه العلماء في بقية العلوم، وإنهم لا يطلبون شططاً من الناس ولا يحملونهم فوق ما يطيقون حين يسألونهم الإيمان بعلمهم كما يؤمنون بأمور الكهرباء التي يذيعها علماء الطبيعة فيقبلها الناس ويستغلها المخترعون من غير أن يطالبوا علماء الطبيعة بإدراك كنه الكهرباء. . . إذا قالوا هذا قلنا لهم: وعلماء الطبيعة مثلكم أيضاً يكتشفون ويخترعون ولكنهم لا يعلمون، وهم إذا جاز لهم أن يقعدوا عن فهم أسرار الطبيعة الصماء وقنعوا باستغلال قواها مستفيدين آكلين شاربين، فإن لهم عذرهم في هذا ما داموا يرون الطبيعة التي يقيسونها ويزنونها بأجهزتهم شيئاً خارجاً عن أنفسهم بعيداً عنهم، أما أنتم يا علماء النفس فتستطيعون أن تجولوا في أنفسكم بأنفسكم ولكنكم تزدرون أنفسكم زراية ما بعدها زراية حين تأبون إلا أن تسألوا عنها أجهزتكم، وأجهزتكم وحدها كالمبصر المفتوح العينين الذي يسير في وضح النهار ويأبى إلا أن يتحسس الأرض بعكازة له وحدها الأمر في خطواته، وهي وحدها التي تأذن له بالتقدم، وتشير عليه بالتريث، وتميد به ذات الشمال وتميل به ذات اليمين
ولعل واحداً من علماء النفس الطبيعيين يتواضع ويسألنا عما يمكن أن يسلكه علم النفس من السبل التي قد تصل به إلى العلم الصحيح والتي لا تقف به عند الباب موقف التجسس المريب. هذا ندعوه إلينا، أو نتطفل عليه فنأتمّ به ونرجوه أن يقودنا بعلمه وأجهزته ونحن من ورائه تابعون، ولكن متيقظون
سنسأله أول ما نسأله: أين هي النفس؟ فإننا لا نستطيع أن نتجه إلى شيء من غير أن نعرف مكانه
وهو عندئذ سيقول: النفس في الإنسان وفي الحيوان
. . . فهو رجل طيب متواضع يعترف للحيوان بالنفس بينما غيره من العلماء يجهده هذا الاعتراف، ولا شك أن حظنا السعيد هو الذي هدانا إلى هذا العالم الطيب المتواضع، فعلينا إذن أن نشكره كل الشكر لأنه لم يترفع بجنسه على الحيوان، ثم أن علينا بعد ذلك أن نمضي في البحث عن العلم فنوجه إليه السؤال الجديد
- أليس هناك فرق بين نفس الإنسان ونفس الحيوان؟
وهنا سيطرق أستاذنا قليلاً ثم يقول:
- إن هناك فرقاً من غير شك. فالإنسان عاقل والحيوان غير عاقل. . . ونحن نفرح بالحق، فلا نملك إلا أن نعترف لأستاذنا بأن ما يقوله صحيح، ولكننا ملحون نريد أن نمضي في الطريق ما دمنا نستطيع أن نمضي فيه، فنخطو وراء أستاذنا خطوة جديدة لنقف به أمام سؤال جديد فنقول له:
- إن الطبيعة حين تودع كائناً ما قوة من القوى فإنها تقصد من هذا أن ينتفع هذا الكائن بهذه القوة، والذي لا شك فيه هو أن الإنسان انتفع في حياته بعقله، ولكننا لا نشك أيضاً في أن هذا العقل يلتوي على الإنسان في كثير من الأحوال فيضره بل إنه يبسط أذاه على الآخرين، كما أنه يحار أحياناً في تصريف أمور صاحبه فيرتبك ويضطرب ويصيب أحياناً ويفشل أحياناً، بينما نرى الحيوان يقضي طول حياته لا يؤذي نفسه، ولا يلحق الضرر بفصيلته، ولا يعجز عن حفظ حياته، ولا يضطرب ولا يرتبك إلا عندما يدهمه ظرف خاص غريب على الطبيعة فلا بد إذن أن يكون في الحيوان شيء آخر غير العقل هو الذي يصونه هذه الصيانة، ويحفظه هذا الحفظ ويقوده إلى السلامة، ولا بد أن يكون هذا الشيء أنفع من العقل. . . فهل هو موجود عند الإنسان أو مفقود؟ فإذا كان موجوداً فلماذا يغفله الإنسان ولا ينتفع به؟
ويهتز أستاذنا حينئذ طرباً لأنه تمكن من مغمز في كلامنا فهو يأخذ بخناقنا ويقول: إن الإنسان أيضاً لا يرتبك ولا يضطرب ولا يعجز عن صيانة نفسه وحفظها إلا إذا دهمه طارئ غريب على الطبيعة
فنبتسم نحن في دورنا ونسلم له بهذا جدلاً مع أنه كلام مبتور ولكننا نسأله:
- ما بال الإنسان إذن يكثر من صناعة العجائب والغرائب بعقله، وما باله يتعمد الحيدة عن الطبيعة، وفي هذه الحيدة الأذى والضرر. . . لا بد أن يكون العقل إذن هو الجنون
ويزور أستاذنا عن هذه النتيجة فيعبث بلحيته قليلاً ثم يسعل سعلتين، ومع أنه رجل طيب متواضع إلا أنه عالم يعتمد في علمه على العقل، وعلى العقل وحده، فإذا آمن معنا بأن العقل مجنون كان عليه أن يغيب عنا ساعة يمزق فيها كتبه، ويحطم فيها أجهزته ثم يعود ألينا نحن الجهلاء ليجلس إلى جانبنا معتمداً رأسه بكفه ينتظر الفيض من الكريم. . . عز على أستاذنا الطيب المتواضع أن يغيب عنا هذه الساعة لأنه فيما يظهر أحبنا ولم يعد يطيق البعد عنا. . . ونحن قوم نستجدي الله عطف المحبين
انتصب الرجل، وتحجرت عضلاته - فتحجرت نفسه - ووضع يديه في وسطه وهز لنا رأسه وقد ركبته كبرياء العلم وزجرنا متسائلاً، أو سألنا زاجراً:
- والآن ماذا تريدون؟
فخفضنا الرؤوس ذلاً ورجاء، وزفرناها جميعاً قائلين:
- اللهم إنا لا نطلب إلا الهدى فاجعلنا من المهتدين
فسألنا ساخراً:
- ومن يهديكم غير عقولكم؟
فقلنا: - قد رأينا العقلاء مجانين
فقال: - وكيف إذن تهتدون؟! فقلنا: - لا بأس في أن نتعلم من غير العاقلين، هذا هو الحيوان يجوع فيسعى إلى الطعام، ويظمأ فيطلب الماء، ويحن إلى الأنثى فيدلونه إليها، ويزيد نشاطه فيلعب ويتعب فينام، ويطمئن فيهدأ، ويخاف فيتقي ما يخاف، ويستطيب فيألف، ويستنكر فينفر، ويصح فيعتدل، ويعتدل فيصح، فإن مرض عالج نفسه بنفسه، وهو لا يمرض إلا إذا ألم به ما هو غريب على الطبيعة، وحياة الحيوان بهذا كحياة الإنسان فيها كل مظاهر الحياة، وفيها كل معاني الحياة، وليست تنقص عن حياة الإنسان إلا هذه العقد التي أنشأها العقل. فهي لا يمكن أن تعاب بهذا النقص لأن فيه سلامتها؛ فما الذي يدبر هذه السلامة لها. . .
هذا يا أستاذنا هو السؤال الذي نحب أن نبدأ به جدلنا. . .
. . . وأصاب أستاذنا الرد سريعاً فأجاب: إنها الغرائز، أي نعم الغرائز. فالحيوان ينقاد لغرائزه في حياته فيسلم ما دامت حياته طبيعية لا تمتد إليها المؤثرات المصطنعة. . .
. . . وهذا كلام طيب لا نستطيع نحن الجهلاء أن ندفعه. فعلماء النفس عندهم مقاييس وموازين وأجهزة أثبتوا بها أن الحيوان يعيش بالغرائز، ويحفظ نفسه طول حياته بالغرائز؛ ثم يموت أيضاً بالغرائز. . . ولكننا نرى في حياة الحيوان أعاجيب تشهد بأن الحيوان يدرك من أسرار الطبيعة ما لا يدركه العقلاء بعقولهم، ولما كان علماء النفس لا يقولون إن غرائز الحيوان تزيد على غرائز الإنسان شيئاً لم نر بداً من أن نسأل أستاذنا سؤالاً رأيناه يرتعش قبل أن نسوقه إلى مقام الأستاذ، ولكننا سقناه فسألناه: هل في غرائز الحيوان ما يدعى (غريزة الغيب)؟!
فأسرع أستاذنا ولطمنا معترضاً: وهل ترون الحيوان يدرك الغيب؟
فقلنا والخجل يكاد يخنقنا: نعم. فالحيوان يبدر منه أحياناً ما يدل على أنه يدرك ما يشبه الغيب، أو أنه يشبه أن يدرك الغيب عندئذ نفخ أستاذنا وقال: مثال ذلك؟
فحمدنا الله لأنه لم يتعجل فينكر علينا دعوانا قبل أن نحاول إثباتها، فقد تعودنا من كثيرين من العلماء الذين يشغفون بالمقاييس والموازين والأجهزة أن ينكروا كل ما يعتصم على مقاييسهم وموازينهم وأجهزتهم. . . استبشرنا وتوقعنا الخير، وقلنا عساه يريد أن ينزل عن علمه وأن يسلك معنا طريق الفن أو طريق الجهل، وأسرعنا فضربنا له المثل قائلين:
- يحدث في ليلة العيد الكبير في مدن المسلمين أن يرتفع ثغاء الأضاحي أكثر من ارتفاعه في الليالي السابقة، وأكثر بيوت المسلمين تختزن أضاحيها قبل ليلة العيد بليال عدة ليلعب الأطفال معها قبل أن يأكلوا منها. . . فلماذا يتزايد ثغاء الأضاحي ليلة العيد، ولماذا تلمس فيه الأذن الحساسة معاني الاستغاثة والشكوى والفزع واليأس؟
. . . وطلب هذا السؤال لأستاذنا نكتة فراح يضحك ويقهقه ويقول:
- وماذا أيضاً؟!
. . . وجدنا نحن سنداً لملحوظتنا هذه في ملحوظة أخرى فرضناها هي أيضاً عساها ترد سخريته واستهزاءه فقلنا:
- ويحدث أن يموء القط وأن يعوي الكلب في بيت المحتضر قبيل الوفاة بزمن قليل. فلماذا يموء القط وقتئذ، ولماذا تلمس الأذن الحساسة معاني الموت والإنذار، في مواء القط وفي عواء الكلب؟
. . . فلما رأى أستاذنا أننا مصرون على المضي في سبيلنا عدل عن التهكم بالضحك إلى التهكم بالكلام فقال:
- كأني بكم كأولئك المخرفين الذين يلصقون ببعض الحيوان الشؤم، فيتطيرون منه جرياً وراء الذي روجه القدماء الجهلاء عن هذا الحيوان من حديث الشؤم والسوء.
. . . ولم نر نحن في هذا عيباً، فنحن لا نشك في أن حضارتنا زادت على حضارة القدماء، ولكننا نرى في هذه الحضارة تنائياً عن الطبيعة، فالمتحضرون لا يمارسون الاحتكاك بالطبيعة والتفاعل معها مثلما يفعل الهمج والبدو، وهذه المسألة التي نحن بصددها من مسائل الطبيعة المحضة لا من مسائل الحضارة، فلا يبعد أن يكون الأقدمون الأقربون من الطبيعة قد اهتدوا إلى سرها بينما ابتعدنا نحن عن هذا السر بحضارتنا التي أضرمت الغرور في عقولنا فلم نعد نكلف أنفسنا مؤونة البحث في علوم القدماء وقنعنا باتهامهم بالتخريف لأننا رأيناهم تخبطوا أمام بعض الحقائق وعجزوا عن الوصول إليها بينما أتيح لنا نحن أن نكشفها، فساقنا هذا إلى أن نتهم علومهم جميعاً بهذا التخريف مع أننا عاجزون إلى اليوم عن إدراك بعض ما اهتدى إليه الأقدمون
أما نحن الجهلاء فإننا لا نزدري الأقدمين كما أننا لا نزدري المحدثين، وإنما نطلب الحكمة عند هؤلاء كما نطلبها عند هؤلاء، ونكتفي بالتحنيط الفرعوني شاهداً على اهتداء الأقدمين لنخفض الرؤوس أمامهم بالاحترام والتقدير.
فقلنا لأستاذنا: فلندع هؤلاء المخرفين وغربانهم تنعق فوق رؤوسهم أو فوق رؤوسنا حيثما طاب لها النعيق، ولنحاول تعليل هذا الذي نراه في أضاحي العيد، وهو شيء لا يمكن أن ينكر، ولنحاول معه تعليل هذا الذي نراه من القط والكلب في بيت المحتضر قبيل وفاته. . . هل في علمكم هذا التعليل؟ وهل هي أيضاً غريزة تنذر الحيوان بالغيب، أو ماذا تقولون؟!
فلم يهن على أستاذنا أن يكف عن القول. . . قال:
- إن الأضاحي تثغو ليلة العيد، ويزيد ثغاؤها مصادفة، وبالمصادفة أيضاً يموء القط، ويعوي الكلب في بيت المحتضر قبيل الوفاة.
. . . وهكذا العلماء. كلما حيرتهم ظاهرة من الظواهر عللوها بالمصادفة، ولم يفكر واحد منهم أن يبحث للمصادفات عن قانون! ولماذا لا يكون للمصادفات قانون، ولكل شيء في هذا الوجود قانون؟ الهم هديك! على أننا مؤمنون بأن الظاهرتين اللتين أوردناهما لسيدنا العالم ليستا مما يخضع لقانون المصادفات، فليس الذي يتكرر في ملابساته تكرارا متواصلاً مستمراً بالذي يدخل في حساب المصادفات مهما أصر سيدنا الأستاذ على ما يقول. . . ومع هذا فقد أمسكنا عن مناقشته فيه فنحن لا نستطيع أن نقنع المكابر بأن البيضة من الدجاجة وأن الدجاجة من البيضة إذا أصر على أن يقول إنها المصادفة وحدها هي التي تخرج إحداهما من الأخرى، فانتقلنا به من هذا إلى ما ذكرناه من تعبير ثغاء الأضاحي الهاتفة مصادفة فقط ليلة العيد بالاستغاثة والفزع والشكوى وغير ذلك من المعاني التي يمكن أن تضطرب في نفس المسوق إلى الموت، سألناه عن هذه المعاني: ألا يستشعرها، فضحك وقال:
- وهل تشعرون أنتم بها؟
فقلنا: نعم والحمد لله، وإنك أيضاً تستطيع يا أستاذنا الجليل أن تستشعرها إذا أردت، وإن كنت تأبى أن تشعر إلا بمقاييس وموازين وأجهزة فإنك تستطيع أن تكتب ما شئت من ثغاء هذه الأضاحي بالنوتة الموسيقية، وتستطيع أن تطلب من عازف فنان أن يعيدها على سمعك بآلة يشبه صوتها صوت الخراف، ولعل الفيلونسيل هو أقرب الآلات الموسيقية إلى تقليد هذه الأصوات، فإذا لم يشعرك الفيلونسيل بهذه المعاني التي نحدثك عنها، فإنه عجز المادة عن قياس النفس ووزنها، ولا بد لك إذن من الاستعانة بجهاز يشبه الحيوان من حيث وجود النفس فيه، وليكن هذا الجهاز إنساناً مغنياً؛ أو إنساناً ممثلاً تطلب منه أن يقلد لك أصوات الخراف ليلة العيد تقليداً أميناً فيه الصوت وفيه ما يبعث الصوت من الشعور.
. . . وهنا تعجل أستاذنا وقطع علينا الطريق متسائلاً:
- فإذا لم أشعر بما تشعرون؟
فقذفنا بها عندئذ مجبرين وقلناها محرجين:
- لا يمكن أن يكون هذا إلا إذا كان في الناس فريق يشعرون وفريق لا يشعرون وإن كانوا يعقلون.
. . . وعادت إلى الأستاذ طيبته، وعاد إليه تواضعه فسألنا كمن يريد أن يعرف:
وهل في الناس حقاً من يشعرون؟
ولم ندهش لهذا السؤال، فقد صدر من عالم، فقلنا له: نعم يا سيدنا الأستاذ. نقسم لك بالله أن في الناس من يشعرون بأضاحي العيد. بل أن فيهم من يشعر كأضاحي العيد.
. . فذعر الأستاذ لهذا، وضاق عقله عنه، وسأل من فمه سؤال أبله معتوه وقال: إذا كان هذا حقاً. . . فكيف يحدث. . . هل تعرفون؟!
فتبادلنا فيما بيننا النظرات لأننا كنا نظن أن العلماء مهما جمدوا بعقولهم دون الحق فإنهم يستطيعون أن يستنبطوا أسباب المظاهر التي يلمسونها ما دامت ظاهرة لهم، وما داموا يلمسونها، وما دامت لهم عقول، وما داموا يقولون إن عقولهم تكفيهم وتهديهم وتلبي مطالبهم وحاجاتهم. . . وكنا نظن هذا لأننا نسينا أن سادتنا العلماء ينفضون أيديهم من العلم ما انفلتوا من معاملهم وما نفضوا أيديهم من مقاييسهم وموازينهم وأجهزتهم. . . وجل من لا ينسى. . . ولكننا عدنا فذكرناه وقلنا لسيدنا الذي هجر الشعر رأسه إلى لحيته:
- أنتم صدقتم داروين حين قال لكم إن بدن الإنسان تطور من بدن الحيوان، ثم صدقتم علماء آخرين قالوا لكم إن جنين الإنسان يمر في بطن أمه بالأدوار التي مرت بها الإنسانية في سلسلة رقيها، فهو يبدأ خلية ثم دودة ثم زاحفة حتى يتم تكونه الإنساني فينقذف إلى الحياة إنساناً ولكنه يمشي على أربع، إنساناً ولكنه أبكم، إنساناً ولكنه بلا عقل. فلماذا لا تتأملون هذا الإنسان العجيب، ولماذا ترضون أن يكون الجنين تلخيصاً للرقي البدني البشري، ولا يخطر في بالكم أن حياة الطفولة تلخيص هي أيضاً للرقي الروحي البشري، وأن الطفل فيها يتخلص من بعض الخصائص ويستكمل خصائص أخرى غيرها، ولماذا لا تدرسون المرحلة الأولى التي يتجلى فيها العقل عند الطفل وترون على حساب أي شيء يتجلى هذا العقل، وما الذي يستره من نفس الطفل كلما ازدهى وازدهر وساير الحياة العاقلة؟ ولماذا لا تتابعون في الطفل ائتلافه بالطبيعة لتروا كيف يضمحل هذا الائتلاف عن بعض الأطفال وكيف ينمو عن الآخرين؟ ولماذا لا تحاولون أن تفسروا ما يتاح لبعض الناس من القوة على إدراك أسرار الطبيعة بشعورهم بينما لا تتاح هذه القوة لغيرهم؟
أليس هذا كله مما يصلح للدرس؟!. . .
ثم ألا تلحظون أن الأطفال يهجمون على حقائق الحياة الطبيعية غير محاذرين ولا مشفقين لا لشيء إلا لأنهم لا يعقلون، وأنهم يقيسون الأشياء ويزنون الناس بشعورهم (لا بعقولهم) فيصدق قياسهم ويصدق حكمهم أكثر مما يصدق قياس الكبار العقلاء وحكمهم. لا لشيء إلا أن الكبار يزحمون أنفسهم بمعايير مصطنعة يقدرون بها الحقائق ويزنون بها الأشياء، وكثرة هذه المعايير واضطرابها هما اللذان يورثان أحكامهم وتصرفاتهم الغلط والشطط
لماذا لا تفكرون في هذا يا سادتنا العلماء؟ ولماذا تغفلون شعوركم وشعور الناس؟!
فأطرق الأستاذ مرة أخرى. ولكن إطراقته طالت هذه المرة ما شاء علمه وتفكيره أن تطول. . . ثم رفع رأسه وقال:
- وهل هناك من يجول في ميادين الشعور؟
فقلنا غير مفاخرين:
- نعم إنهم أهل الفنون وهم الذين يرقى شعورهم كما يرقى عقلهم فيحتفظون بتوازنهم الإنساني ولا يعطلون بإرادتهم ولا بالجشع المادي قوة يرونها تحفظ حياة الحيوان وتصونه وتهديه، فما بالك لو صاحبها العقل والتفكير السليم. . .
عزيز أحمد فهمي