الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 312/جناية أحمد أمين على الأدب العربي

مجلة الرسالة/العدد 312/جناية أحمد أمين على الأدب العربي

بتاريخ: 26 - 06 - 1939


للدكتور زكي مبارك

- 3 -

تطايرت الأخبار بانزعاج الأستاذ أحمد أمين، وكثُر المتحدثون عن الوفاء والأوفياء. فليت شعري كيف يكون العزم على تصحيح أغلاطه ضرباً من العقوق، ولا يكون إلحاحه في الغض من قيمة الأدب العربي ضرباً من العقوق؟

إن هذا الصديق حدثنا ألف مرة أنه لا يغضب من النقد إذا كان فيه تقويم للأفكار والآراء

ونحن سنضع شجاعة الأستاذ أحمد أمين في الميزان، وسنختبر صبره على كلمة الحق، وسنرى كيف يجزينا على ما نقّدم إليه من جميل

إن هذا الرجل يحكم على الأدب العربي أحكاماً تشهد بأن طريقته في فهم الأدب والحياة طريقة عامية، فكيف يكون حاله إذا صححنا بعض ما وقع فيه من أغلاط؟

أيرجع إلى الحق؟

أيوجه إلينا كلمة ثناء؟

هنا تُعرف قيمة الأخلاق في نفس الرجل الذي ألف أول ما ألف في الأخلاق

وأقسم أني أهجم على هذا الرجل وأنا كارهٌ لما أصنع، فأحمد أمين رجل محترم، وقد وصل بكفاحه إلى منزلة عالية في الحياة الأدبية، وأنا قد ضيعت جميع أصدقائي بفضل جرائر النقد الأدبي، وكنت أحب أن أداوي ما جرح قلمي لأنجو من الدسائس التي تعترضني في جميع الميادين

ولكن كيف أسامح رجلاً يحاول أن يلطخ ماضينا الأدبي بالسواد؟

إن هذا الرجل يؤرخ الأدب بالجامعة المصرية، وهو بذلك قدير على تلوين الاتجاهات الأدبية عند شبان هذا الجيل، فتصحيح أغلاطه لا ينفعه وحده، وإنما ينفع معه ألوفاً من الشبان الذين يدرسون في كلية الآداب من مصر ومن أقطار الشرق

يرى هذا الرجل أن (المديح والهجاء) هما أظهر الفنون في الأدب العربي، وبذلك يكون الأدب العربي في أغلب أحواله أدب معدة لا أدب روح

ولو كان هذا الرجل يدقق لعرف أن المديح والهجاء هما السجل الصحيح للأخلاق العربية، فمن المديح نعرف كيف كان العرب يتمثلون المناقب، ومن الهجاء نعرف كيف كانوا يتصورون المثالب، ومن المحاسن والعيوب يعرف الباحث صور المجتمع في الحياة العربية والإسلامية

ولو ضاعت قصائد المديح والهجاء لضاع بضياعها أعظم ثروة يستعين بها علماء النفس لفهم تطورات الأفكار والأذواق فيما سلف من عهود التاريخ

فمؤرخ الأدب لا يؤذيه أن تكثر قصائد المدح والهجاء إلا حين يزهد في فهم المشارب والميول، وتعقب المنازع والأهواء، كأن يكون رجلاً يؤرخ الأدب وهو غير أديب

يضاف إلى ذلك أن المادحين والهاجين لم يكونوا جميعاً طلاب أرزاق، وإنما كان أكثرهم أصحاب مبادئ وعقائد، وكانوا يؤدون في خدمة الدولة ما تؤديه الصحافة في هذه الأيام، وهي تؤرخ الصراع بين أحزاب اليسار وأحزاب اليمين

وقصائد المديح والهجاء كان لها تأثير نافع في تقويم الأخلاق. ولو أن أحمد أمين كان من المطلعين لعرف أن تلك القصائد كان لها تأثير في أكثر ما غنم العرب من الحروب

لو كان أحمد أمين يدقق لعرف أن شيوع المديح والهجاء في البيئات العربية يدل على خلق عظيم من أخلاق العرب وهو (النخوة)، فالعربي يسره أن يُذكر بالجميل ويؤذيه أن يُذكر بالقبيح، ومن هنا كانت المدائح والأهاجي لا توجّه في الأغلب إلا إلى عظماء الرجال

وما رأي أحمد أمين في حسان بن ثابت؟

ما رأيه إذا حدثناه أن الرسول كان يرى المدح والهجاء باباً من أبواب الجهاد؟

ما رأيه إذا حدثناه أن الرسول كان يرى حسان بن ثابت جنديًاً نافعاً لأنه كان يخوّف خصوم النبوّة بأشعاره في الهجاء؟

أتكون أشعار حسان في الهجاء من أدب المعدة؟ قل بذلك يا أحمد أمين، إن استطعت، ولن تستطيع!

وما رأي أحمد أمين في مدائح الكميت وأهاجيه؟

ما رأيه في قصائد الفرزدق وقصائد دعبل في الثناء على أهل البيت؟

ما رأيه في الشعراء الذين أوقدوا نار الحرب بين بني أمية وبني العباس؟

ما رأيه في قصائد مسلم بن الوليد في الثناء على بعض الأبطال؟ ما رأيه في قصيدة أبي تمام يوم فتح عمورية؟

ما رأيه في مدائح البحتري وهي تسجيل للشمائل العربية؟

أيكون عيب أولئك الشعراء أنهم كانوا يعيشون في ظلال الأمراء والخلفاء؟

وما العيب في ذلك؟

ألم يكن شعراء المشرق والمغرب يعيشون في ظلال الأمراء والملوك؟

وكيف يعاب على أمثال البحتري والمتنبي ما استباحه أمثال فولتير ولافونتين؟

إن أولئك الشعراء كانوا يؤدون لدولهم خدمات اجتماعية وسياسية، ومن حقهم أن يعيشوا بفضل تلك الخدمات، لأنهم لم يخلقوا بلا معدة كما خلق الأستاذ أحمد أمين الذي يخدم الأمة المصرية بالمجان، لأنه لا يتناول من الجامعة في كل شهر غير مبلغ ضئيل لا يتجاوز الستين ديناراً، ولا يتناول من أعماله الأدبية في كل شهر غير دنانير لا تعد بغير العشرات!

ما الذي يعيب الشاعر والأديب حين ينتفع من الشعر والأدب؟ ما الذي يعيبه وهو من جنود المعامع الاجتماعية والسياسية؟ ما الذي يعيبه حين يطمع في أموال الملوك والخلفاء، وكان شعره السناد لدول الملوك والخلفاء؟

وهل يعاب جوبلز لأنه يعيش بفضل الدعاية للسيطرة الألمانية؟

هل يعاب الصحفيون الذين يعيشون بفضل الدفاع عن الحكومات والأحزاب؟

إن الشاعر القديم هو نموذج للصحفي الحديث، وكلاهما يؤدي مهمة اجتماعية وسياسية

لو كان الأستاذ أحمد أمين يدقق لعرف أن رجال الأخبار يؤدون مهمة خطيرة، فهم في حكم الواقع رجال شرفاء وإن احتقرهم المجتمع عن جهل وسخف، فكيف نهين الشعراء والصحفيين وهم يرشدون الدول عن طريق العلانية، ويوجهون أممهم إلى سبيل المجد والاستعلاء؟

ولولا بُناة الشعر في الناس ما درى ... بُناةُ الندى من أين تُبنَى المكارمُ

أنرضى أن يكون شعراء العرب شحاذين ومتسولين لتصح أغلاط أحمد أمين؟

أيكون أسلافنا من الأدباء والشعراء مرتزقة لأنهم لم ينسوا حظوظهم من أموال الملوك والخلفاء، وبفضل مدائحهم وأهاجيهم عاش الملوك والخلفاء؟ إن الأمم العربية والإسلامية لم تضعف حيويتها إلا حين عدمت الأريحية وزهدت في مدائح الأدباء والشعراء

وهل تستطيع حكومة في هذه الأيام أن تعيش بلا سناد من تشجيع الكتاب والخطباء والصحفيين؟

وهل قامت حكومة أو سقطت حكومة إلا بفضل أسنّة الأقلام؟

إن الأقلام تصنع في مصير العالم مالا تصنع جيوش البر والبحر والهواء

وكلمة (مأجور) كلمة ابتدعها أحمد أمين، وما كان (الأجر) عيباً إلا في نظر هذا الناسك المتبتل، فقد كان (الأجر) من قبله كلمة شريفة أقرها القرآن المجيد

ومن الله ألتمس (الأجر) على تصحيح ما وقع فيه هذا الصديق من أغلاط

وما رأي صاحبنا في هتلر وموسوليني وهما يُرهبان العالم بالأقوال قبل الأفعال؟

ما رأيه إذا علم أن هتلر يهمه أن يكون لأقواله ومؤلفاته قيمة مادية؟

بل ما رأيه إذا علم أن العراك حول مشيخة الأزهر له أسباب دنيويه؟

ما رأيه إذا علم أن (البابا) يجتذب مريديه بثمرات النخيل والأعناب؟

ما رأيه إذا علم أن الغض من قيمة المعدة ليس إلا رهبانية نهى عنها الإسلام؟

ما رأيه إذا عرف أن من يحتقرون الأمعاء كانوا كتبوا مرة أو مرتين في تأثير (الهضم) على العقول؟

نحن لا نريد مؤرخاً للأدب يفهم الدنيا بالمقلوب، وإنما نريد مؤرخاً يفهم أن الأدب صورة الحياة، ويعرف أن شعر ابن الرومي في وصف (الرقاق) لا يقل شرفاً عن شعر ابن المعتز في وصف (مداهن الطّيب) لأن الشاعر لا يطالب بغير إجادة الوصف لما تراه العيون، وما تحسه القلوب

نريد مؤرخاً للأدب يدرك أن من حق الأديب أن يصف ما يرى ويسمع.

نريد مؤرخاً للأدب يدرك الفروق بين الأشياء، ويتأثر بجميع المناظر، ويطرب لجميع ما في الوجود، ويتابع النبرات الموسيقية في نقيق الضفادع، على نحو ما يصنع وهو يتسمع لأسجاع الحمائم. وذلك يوجب أن يكون رجلاً له ذوق وإحساس

نريد مؤرخاً للأديب يغلل أسباب الحسن وأسباب القبح مع العطف على جميع مظاهر الوجود

نريد مؤرخاً للأدب يرى السخرية من العيوب ويرى مكر الثعلب لا يقل جمالاً عن بلاهة الغزال

قد يسأل القارئ: وما محصول هذا التصحيح؟

ونجيب بأن له أهمية عظيمة لأنه يضع تاريخ العرب في نصابه من حيث الأخلاق، فأتباع الأمراء والوزراء والملوك والخلفاء من أهل الشعر والأدب لم يكونوا في جميع أحوالهم صعاليك كما يريد الأستاذ أحمد أمين؛ وإنما كانوا قوماً يؤدون خدمات سياسية واجتماعية وأدبية، وكانوا يؤلفون جماعات منظمة تنشط الروح المعنوي في الدولة وتشيد بمكارم الأخلاق. وكان الطائشون منهم يمثلون ما في أرواح بعض الجماهير من عناصر الزيغ والارتياب. فهم الصورة الصحيحة لما كان عند العرب والمسلمين من عناصر الشك واليقين

وأذهب إلى أبعد من ذلك فأقول إنهم خلقوا العصبيات القومية، وأمدوا التاريخ بروح الحياة. فهذه مصر مرّ بها كثير من الخمول في مطلع حياتها الإسلامية، ولم يبق من ولاتها وحكامها من هو أسير ذكراً من كافور والخصيب بفضل مدائح المتنبي وأبي نواس

ولو شئت لقلت إن المداحين والهجائين كانوا يقيمون بقصائدهم مدارس لتعليم الأخلاق، وكانوا يقيمون بقصائدهم معاهد لتعليم اللغة والأدب والتاريخ. وقد كانوا بالفعل معلمين، لأنهم كانوا أساتذة الأدب في تلك الأزمان، وبفضل صوابهم وخطئهم كان يعيش النحاة واللغويون

والأستاذ أحمد أمين الذي يجعل وصف الطبيعة من أدب الروح ينسى أن الإنسان هو خير ما في الطبيعة. وهل يكون مدح الغصن المزهر أشرف من مدح الملك المفضل إلا في ذهن من ينظر إلى حقائق الأشياء نظرة عامية؟

أقول هذا وأنا أزهد الناس في هذا اللون من الحياة، لأن الاتصال بالملوك يتطلب ألواناً من التلطف والترفق لا يحسنها رجل مثلي، فلي شمائل تغلب عليها الشراسة والجفوة وتثقلها بداوة الطبع.

ولكن هذا لا يمنع من الاعتراف بأن الشعراء الذين اتصلوا بالملوك وتفيئوا ظلالهم لم يكونوا في كل حال من ضعفاء النفوس، وإنما كانوا في الأغلب ناساً عقلاء يعرفون روح الزمان

والمرتزقون منهم كانوا انساقوا إلى تلك المزالق بفضل القالة الحسنة التي جعلت الشعر من أطيب ما يشتهي الملوك والخلفاء، فقد مرت أزمان كانت فيها الهبات الرسمية باباً من الشرف قبل أن تكون باباً من المعاش

قد يسهل على الأستاذ أحمد أمين أن يخرج من هذا المأزق بأن يلوذ بما اصطلح الناس عليه في العصر الحديث من الانصراف عن مدح الملوك، ولكنه، إن فعل، سيصطدم بصخرة قاسية، لأن الحكم الأخلاقي مرجعه إلى تصور الدواعي والأسباب، فما نتحرج منه اليوم لم يكن يتحرج منه القدماء، وما قد نعده عيباً كان الأسلاف يعدونه من التشريف

ماذا أريد أن أقول؟

أنا أريد أن أنزه تاريخ العرب عن وصمة المعدة، والمعدة ليست وصمة إلا في ذهن الأستاذ أحمد أمين، أمدني الله وإياه بالمعدة القوية لنستطيع مواصلة الجهاد!

آمينَ آمينَ لا أرضى بواحدة ... حتى أضيف إليها ألف آمينا

أيرى القارئ أني استطعت إفحام هذا الباحث المفضال؟

لن أُفحمه حتى يشرب صبابة الكأس: (وكل صبابةً في الكأس صابُ). كما قال شوقي

أحمد أمين يقول:

(نرى في العصر العباسي طغيان أدب المعدة على أدب الروح. هذا البارودي (رحمه الله) اختار لثلاثين شاعراً من خيرة شعراء الدولة العباسية. . . وكانت مختاراته في أربعة أجزاء كبار. فكان ما أختاره من المديح 24185 بيتاً، ومن الأدب 1697 بيتاً، ومن الغزل 4616 بيتاً، ومن الهجاء 1229 بيتاً، ومن الوصف 3993، ومن الزهد 473 بيتاً. ونظرة واحدة إلى هذا الإحصاء تدهشنا أشد الدهش: إذ يتبين لنا طغيان أدب المعدة - وهو المديح والهجاء - على أدب الروح، طغياناً كبيراً).

ذلك هو أحمد أمين بقضّه وقضيضه كما كانوا يعّبرون. ذلك هو أحمد أمين الذي يدرس الأدب بالإحصاء، والذي يقيس الدواوين الشعرية بالمتر والباع والذراع.

لقد كنت أحفظ أكثر مختارات البارودي ولم يخطر ببالي أن أعّدها. فهل أستطيع اليوم أن أقول للأستاذ أحمد أمين: (أفادك الله!)

هل بلغت المدائح في مختارات البارودي 24185 بيتاً؟

ذلك (إحصاء) أحمد أمين، ولا موجب لمراجعته لأنه من النوابغ في الإحصاء!

ولكن هل فكر هذا الرجل في (إحصاء) الأغراض المبثوثة في تلك المدائح؟ هل يضنها جميعاً من قبيل: (أنت شمسٌ أنت بدرٌ؟).

ألم يكن أكثرها تسجيلاً لوقائع حربية، ومواسم تشريف؟ هل خطر بباله أن (يُحصي) ما في تلك المدائح من الأوصاف والحِكم والأمثال؟

هل خطر بباله أن يلتفت إلى القصائد التي استوجبت عناية النحاة واللغويين فأمدت اللغة العربية بفيض من الحيوية لا ينضب ولا يغيض؟

أحمد أمين يرى أن محصول المدائح في العصر العباسي أكبر محصول، ويرى محصول الزهد أصغر محصول!

فهل استطاع هذا الرجل أن يستخلص العِبرة من الموازنة بين النسبتين؟

لو كان أحمد أمين يدقق لعرف أن طغيان المديح على الزهد كان من علائم الحيوية في العصر العباسي. فهو الشاهد على أن العرب كانت حياتهم تزدحم بالأخطار الدنيوية. وهو الشاهد على أنهم كانوا أهل نخوة وأريحية. وهو الدليل على أنهم كانوا يحيون حياة تفيض بمعاني الأفراح والأحزان، وتتسم بعلائم القوة والكفاح.

وما كانت الأهاجى أقل قيمة من المدائح في الدلالة على هذه الشؤون.

فالأهاجي كانت في الأغلب تمثل صوت المعارضة السياسية، وكان لها تأثير شديد في كبح الطغيان، وبفضل الأهاجي قلّمت أظفار الاستبداد، وخشي الطغاة بأس القلم واللسان.

وهل تفرّد العرب بالهجاء؟

ألم يكن الهجاء فناً ظاهراً في جميع الآداب الشرقية والغربية؟

وهل خلت الكتب المقدسة من الهجاء حتى نعده من السيئات؟

وما هو الهجاء حتى نحكم عليه ذلك الحكم الجائر؟

ألم يكن صورةً للنفوس التي تغضب وتثور على ما تنكر من ألوان الضمائر والأعمال؟

وكيف نعيش إذا نجونا من ثورة الحب والبغض؟ كيف نكون إذا لم نقل للمحسن أحسنت، ولم نقل للمسيء أسأت؟

إن الملائكة يرضون ويغضبون، ويفرحون ويحزنون. وكل ما في الوجود من طبائع وأرواح يدرك معاني الرضا والغضب والابتهاج والابتئاس. فكيف يعاب علينا أن نكون صبحاً يتنفس وليلاً يتمرد، من حين إلى حين.

(مصر الجديدة)

زكي مبارك