مجلة الرسالة/العدد 311/كتاب فرويد عن موسى
→ من صور الماضي. . . | مجلة الرسالة - العدد 311 كتاب فرويد عن موسى [[مؤلف:|]] |
جناية أحمد أمين على الأدب العربي ← |
بتاريخ: 19 - 06 - 1939 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
أشارت الأنباء البرقية منذ أسابيع إلى كتاب العلامة فرويد عن أصل موسى الكليم عليه السلام وكان يومئذ على وشك الصدور باللغة الإنجليزية
والعلامة فرويد كما هو معروف أستاذ الأساتذة العالميين في علم التحليل النفسي، بدأ بالكتابة فيه عند أوائل القرن الحاضر ثم تفرعت على مذهبه فيه مذاهب أتباعه ومريديه ومعارضيه تارة بالتوسع والتأييد، وتارة بالتعديل والتنقيح، وتارة بالمناقضة والتفنيد
ونحن على مخالفتنا إياه في الرجوع بكل خليقة من الخلائق وكل عارضة من عوارض النفس إلى الغريزة الجنسية، وعلى إيثارنا لآراء بعض مريديه ممن يضيفون إلى الغريزة الجنسية النزوع إلى امتداد الشخصية، وعلى مما في نظرته إلى الفنون والآداب من الضيق والجفاف، نعتقد أن الرجل قد أضاف إلى معارف الإنسان ذخيرة قيمة من التحقيقات والتوجيهات التي لا تضيع سدى ولا تزال موضعاً للتصحيح والإتقان على تعاقب الأيام
وقد صدر كتابه عن موسى الكليم بالإنجليزية فإذا هو أعجوبة الفروض والاحتمالات، أو باعترافه هو أعجوبة التلفيقات والتخمينات؛ إذ كان من المتعذر عليه أن يرجع إلى حقائق التاريخ أو أساليب العلم في الاستقصاء، فأعتمد على الفروض وقال بصريح العبارة إنه لا يعتمد على شيء غير الفروض
وربما كان العجب الأعجب في الكتاب أن مؤلفه من بني إسرائيل وهو يحاول ما يحاول للرجوع بنسب موسى عليه السلام إلى مصر لا إلى إسرائيل
ولهذا استهدف الرجل للغضب من أبناء قومه قبل الغضب من الأجانب عنه وممن يخالفونه في الرأي والاعتقاد
ظنه الأول قائم على الاسم ومنشأه من اللغتين العبرية والمصرية القديمة
فبعض العبريين يزعمون أن موسى مأخوذة من (موشى) العبرية بمعنى المنتشَلْ أو المرفوع، ويقولون إن بنت فرعون انتشلته من النيل فسمته لذلك بهذا الاسم الذي يدل عليه
وفرويد يشكك في تصريف الكلمة، ويشكك في سبب التسمية، ويقول إنه على فرض صحة المعنى المنسوب إليها بالعبرية فليس من المعقول أن ابنة فرعون كانت تعرف لغة إسرائيل معرفة الفقهاء والنحاة المتعمقين في النحت والتصريف
أما الرأي الذي يؤثره فرويد فهو أن الكلمة مصرية عريقة معناها الطفل أو الابن، وأصلها البسيط (موس) باللغة المصرية القديمة، ولم يتغير معناها بعد ذلك في عصر من العصور
وقد كان المصريون يسمون أبناءهم تحوت موس أي طفل تحوت أو توت الإله المعروف
ويسمون أبناءهم بتاحموس أو أحموس ومعناها طفل بتاح ويسمونهم (راعموس) أي طفل راع وهو الاسم المشهور رعمسيس أو رمسيس
ثم كانت هذه الأسماء تختصر مع السرعة والترخيم والتدليل فيكتفي منها بالمقطع الأخير وهو (موس) أو موسى
وذلك على مثال الاكتفاء باسم (عبده) في نداء عبد الله وعبد الحميد وعبد الكريم، وعلى مثال جونسون وروبنصون وستيفنسون وموريسون واختصارها أحياناً بحذف مقطع منها في المناداة بين الأعزاء والأخصاء
فموسى على هذا هو اختصار اسم من هذه الاسماء، وهو لفظ عريق في لغة المصريين
والظن الثاني الذي يدعو فرويد إلى تخمينه هو فريضة الختان التي أخذها بنو إسرائيل من المصريين ولم تكن معروفة بينهم قبل هجرتهم من وادي النيل
فإذا كان بنو إسرائيل قد خرجوا من مصر ناقمين عليها وعلى أهلها فكيف يتشبهون بهم وهم خارجون منها أو خارجون عليها؟
إنما التأويل المعقول في رأي فرويد هو أن موسى كان أميراً مصرياً حانقاً على بني وطنه فهجره مع بني إسرائيل المتمردين ثم فرض عليهم عادات مصر وشعائرها فأطاعوه حباً ومجاملة واضطراراً ثم نكسوا في وادي التيه ومزجوا بعقيدته عقائد البادية فيما بين سيناء وفلسطين
ويعرض فرويد هنا كثيراً من الفروض والتخمينات ثم يرجح منها لأسباب يطول شرحها فرضاً يراه لتلك الأسباب قريب الاحتمال
ذلك الفرض هو أن موسى عليه السلام كان أميراً من أمراء البيت المالك على أيام الملك الموحد الداعي إلى الإله الفرد الصمد (أخناتون)
وإن أخناتون خلع من الملك واستبد خلفاؤه بأصحاب الأديان المخالفة لهم، فضاقت سبل البلاد بموسى وهو على عقيدة التوحيد ولم يجد أمامه أحداً يثور به ويطاوعه في تأسيس دينه ودولته غير هؤلاء الغرباء من الإسرائيليين وهم مثله يشكون ويتململون، فوثبهم وهاجر بهم إلى الحدود المصرية في انتظار الفرصة السانحة أو في طلب الملك والعقيدة الصالحة بمعزل عن كهان الوثنيين
والذي يعزز هذا الاحتمال أن اللاويين من بني إسرائيل كانوا يتسمون بأسماء فرعونية لا علاقة لها باللغة العبرية، وما كان هؤلاء اللاويون إذن إلا حاشية الأمير وذوي قرباه، إذ كان من المستبعد جداً أن يهجر وطنه منفرداً بغير ولي ولا قريب
قلنا: بل هناك احتمال آخر كان أولى بفرويد أن يرجحه على ذلك الاحتمال
فلماذا لا يقول مثلاً إن موسى كان إسرائيلياً من أسرة الرؤساء في بني إسرائيل فرباه فرعون مصر على سنة الملوك في تربية أبناء الرؤساء الذين يدينون لهم بالطاعة ويعترفون لهم بالرعاية؟
أليس هذا الرأي أقرب إلى التوفيق بين النقيضين من عادات مصر وعادات إسرائيل؟ ألسنا قادرين بهذا الفرض أن نفهم اقتباس موسى للعادات التي درج عليها وغيَّرته على أبناء جنسه في آن؟
وقد عرض فرويد لنشوء التوحيد في مصر وهو أمر ثابت لا جدال فيه ولا اعتراض عليه
وقال فرويد: إن بوادر التوحيد ظهرت بين المصريين قبل ظهور أخناتون الذي أتم هذه العقيدة وأفرغها في قالبها المحفوظ
وعلة ذلك عند فرويد أن اتساع الإمبراطورية المصرية قد استدعى توحيد الإيمان بإله واحد كما استدعى توحيد الطاعة لملك واحد
فإن فرعون مصر ما كان ليطيق العبادات الكثيرة والأرباب المتعددة التي لا تجتمع إلى وحدة موصولة ولا تزال سبباً متجدداً من أسباب الفتنة والتفرق والعصيان، فجعل للإمبراطورية كلها داخلها وخارجها رباً واحداً تشترك فيه وتثوب إليه، وكان هذا مبعث التوحيد الأول على صورته الساذجة التي أصلحها أخناتون ثم تعاقب الرسل بإصلاحها بعد ذاك
تخمينات! ولكنها تخمينات علماء مخلصين، وهي لهذا حقيقة بالنظر والاعتبار
عباس محمود العقاد