مجلة الرسالة/العدد 311/أسرار حياة بلاد العرب السعيدة
→ الانتداب الفرنسي في بلاد الشرق | مجلة الرسالة - العدد 311 أسرار حياة بلاد العرب السعيدة [[مؤلف:|]] |
الحب العذري في الإسلامية ← |
بتاريخ: 19 - 06 - 1939 |
'
تأليف الكاتب الإيطالي سلفاتوري آبونتي
للأستاذ محمد عبد الله العمودي
(بقية المنشور في العدد 309)
انتهى ما أردنا نقله من كتاب السنيور آبونتي ص 24 وما بعدها. والأستاذ الريحاني صاحب (ملوك العرب) له كلمة بصدد القات قال في ص 91 من المجلد الأول: (إن في القات على ما يظهر خاصية الحشيش الأولى، أي الكيف، وشيئاً من خاصة الأفيون المخدرة، وبعض ما في المسكرات مما ينبه الفكر. وبكلمة أخرى هو يطرب النفس، ويخدر الحواس، ويشحذ الذهن. وأهل اليمن يعتقدون كذلك بأنه يبعث فيهم النشاط ويقويهم على السهر والعمل في الليل. وقد تحققت بنفسي أنه يؤرق ويحدث في المعدة يبوسة وانقباضاً وفي الفم جفافاً وعفوصة مثل البلوط، فيطلب صاحبه الماء كثيراً. ولكني لم أحس بشيء من الكيف، أي خفة النفس، ولم ينبه الفكر إلى غير الأوهام التي تستحوذ على الناس فتفعل بحكم التأثير الطويل المتوارث فعل الحقائق المحسوسة. وقد يكون هذا وهما لأن تأثيره فيمن يستعمله مرة غير تأثيره فيمن يستعملونه دائماً ويفضلونه على خبز يومهم؛ وكل الناس في اليمن: من رجال ونساء وأولاد وأغنياء وفقراء يأكلون القات. . .
(ولا شك أن القات مضر بالصحة والنسل: فهو يفقد المرء شهوة الأكل، ويفسد أسباب الهضم، ويحدث أمثل الأفيون، شللاً في مجاري البول، ولا يقوي ألباه بل يضعفه!).
ومواطنونا اليمانيون لهم قصائد من عيون الشعر في هذا الحشيش. وقد كان الإمام يحيى من الذين (يخزنون) وله حماسة غريبة في الدفاع عنه. يحدثنا الريحاني في كتابه ص 165 أن رفيقه في الرحلة ثار وهجا القات، فانبرى له الإمام يحيى وعارضه بقصيدة من فيض الخاطر فذكر عشراً من مزايا القات منها:
فللعيون جلاء ... للضعف منه ذهاب
وللثغور صباغ ... زمردي يذ أحسن بثغر مليح ... له المذاب رضاب!
يا ما أحيلاه ظلماً ... تحتفي به الأحباب
وللنفوس مريح ... وللنشاط انجذاب
ويشحذ الفكر حتى ... يخاف منه التهاب
ويطرد النوم عمن ... له الجليس كتاب
وفي هجاء القات يقول شاعر عدني:
عزمت على ترك التناول للقات ... صيانة عرضي أن يضيع وأوقاتي
وقد كنت المضر مدافعاً ... زماناً طويلاً رافعاً فيه أصواتي
فلما تبينت المضرة وانجلت ... حقيقته بادرته بالمناواة
فقيمة شاري القات في أهل سوقه ... كقيمة ما يدفعه في ثمن القات
ثم يغادر السنيور آبونتي مدينة تَعِز فينطلق في رحاب سهل المخا، فتبدو له المروج الخضراء، والبساتين الواسعة، فلا تحرك عواطفه، ولا تثير اهتمامه. إذ كانت نفسه تواقة متحفزة لرؤية المخا المدينة العالمية، مدينة البن الرفيع. فتصدمه الحقيقة، ويقف أمام الأمر الواقع؛ وإذا به يرى هذه المدينة التي يدين لها العالم قد أخنى عليها الدهر فقضى على مجدها وسلب شهرتها، فأصبحت يباباً وأطلالاً خراباً، انفض عنها سكانها فلم تبق بها إلا أكواخ حقيرة، وقوارب ملقاة على الشاطئ، يأوي إليها السكان. . . أما مجدها فقد ألقى رحاله على الحديدة وعدن، فأصبحتا قبلة العالم في ارتقاب البن اليمني!
وخلص من المخا واندفع في تهامة حتى بلغ الحديدة - ميناء اليمن - فمكث بها أياماً. وبعد ذلك تابع مسيره ووجهته عاصمة حِمْير؛ وكان المؤلف في أثناء سيره يعجب من هذه الجبال الشجراء، وتلك الوديان التي تتدفق مياها ونباتاً. فقد كانت من أعظم المرفهّات عن نفسه من وعثاء السفر. . . وساءته جداً حالة السكان وما هم عليه من شظف الحياة والبؤس الصارخ في جميع المرافق. كما أن هذه الأكواخ الحقيرة والعشش المهدمة التي تسيء إلي روعة هذه المناظر الطبيعية تبعدها من بلاد العرب السعيدة، وتجعلها جزءاً من أفريقيا (ص 54).
ودخل صنعاء - مقر الملوك السيارة - فأطلق لخياله العنان ووصفها بما هي خليقة به: (هذه قصور شامخة تصافح السحاب، وهذه القباب تتألق ناصعة في رائعة النهار، وهذه منائرها ناحرة جوف الفضاء فيرتد عنها الطرف. . . هذه صنعاء المدينة العجيبة، مدينة الخرافة والأساطير. أليست صورة صادقة من ألف ليلة وليلة؟) ص 62.
ويقف السنيور آبونتي على ناصية شارع من شوارع صنعاء فيرمي بطرفه على الأقوام التي تسيل بها عاصمة اليمن، فتحتدم في نفسه صور وأحاسيس، وتتحرك فيه الشاعرية، فيبرز لنا وصف صورة حية ناطقة كأنا نحسها ونشاهدها. قال (ص 62):
(. . . هاهم أولاء يمرون سراعاً ممتطين صهوات خيولهم المطهمة ومن ورائهم الحشم، متدثرين بالثياب البيضاء، وعلى أكتافهم تسيل العصائب من حمراء وخضراء. وهاهن أولاء النساء يسرن محجبات؛ وهؤلاء هم البدو وقد تهدلت شعورهم الكثة الرهيبة على الأكتاف، وانكشفت صدورهم المسيلة عليها مسادر الجلود. ثم هؤلاء ذوو المناصب وأهل المقامات يحف بهم الإجلال، وعلى رؤوسهم العمائم البيض، يتبعهم بعض الخدم حاملين الرُّشب البراقة. . . ثم هاهم أولاء رجال القبائل، وقد لفحتهم الشمس فبدت ألوانهم زيتونية، مسلحين بالجنابي المعقوفة المزمتة في خواصرهم بسيور من الجلد. . . وهاهم أولاء العبرانيون في قاماتهم الضامرة وقد استشزرت غدائرهم من الأصداغ تمييزاً لهم. . . وذه هي الجمال تمشي وئيداً، وتلك الأغنام تمثل الفوضى، وقد سالت بها الشوارع. . .)
(ثم يا للعجب من هذه العمارات المذهلة! متى شيدت؟ أبالأمس؟ أم من آلاف السنين؟!)
(إنه ليحق لليمنين أن يفخروا بهذه العاصمة الفتانة، وليس عليهم بغريب أن يسموها: (عرش اليمن) و (أم الدنيا). ألم يؤسسها قحطان أبو يعرب العظيم الذي أخذ منه العرب اسمهم ولغتهم؟)
ويخرج المؤلف الإيطالي من هذه الصور الشائفة إلى ما هو أبدع منها وأغرب فقد حدثنا عن ظهور الإمام وجلوسه على عرش التبابعة. . . وعن كنوزه التي تذكرنا بكنوز ملكة سبأ. فقد تحدث السائح في ص 76 عن مخابئ الإمام يحيى في جوف الأرض وأحشاء الجبال. تلك المخابئ التي تفيض ذهباً وفضة، والتي يقوم على حراستها رجال مخلصون!
وأبدع ما في هذا الكتاب، وما يهم العالم العربي الاطلاع عليه: هي شخصية الإمام يحيى تلك الشخصية العجيبة التي تناولها المؤلف في صفحات عديدة من كتابه. فيهمنا جداً أن الجميل هذه الشذرات، وطْرح ما لا يليق نشره، لأن الإمام شخصية شهيرة يحوطها الغموض، ويجهلها كثير من الناس وهو إلى كل هذا ملك يمثل نوعاً من الحكم المطلق ما زالت آثاره في أقاص بعيدة من الأرض. قال المؤلف في ص 90 وما بعدها:
(الإمام يحيى بن محمد حميد الدين، المتوكل على الله، وأمير المؤمنين شخصية من تلك الشخصيات المهمة المدهشة التي تعيش على وجه الأرض. هو رجل وعالم. . . فهو رئيس الحكومة اليمنية التي تعيش ضمن حدودها، وهو إلى ذلك عالم ديني كبير، وزعيم لمذهب يعد أتباعه من أشد المتحمسين والمتطرفين هو واحد من أولئك الحكام أهل النفوذ المطلق، والحكم الذي لا يقابل إلا بالتسليم. يقُّر الزيود بأنه رئيسهم الديني والمدني، فهم يطيعونه طاعة عمياء، ويحترمونه الاحترام العميق. ويدفعون له المغارم الثقيلة؛ وإشارة منه كافية لإشعال حرب. ويفعلون هذا، لأن الله أراد ذلك: (إذ فوض إليه أن يحكم بلادهم، ويتسلط على أرواحهم). فشؤون الدولة اليمنية جميعها في قبضة يده ومجتلى بصره؛ وإذا كان له وزراء فإنهم صوريون يخضعون لأوامره ويخلصون له الإخلاص التام، ولا ينفذون أمراً من الأمور إلا بعد عرضه على أنظاره وموافقته عليه. ومن المسلم به أن هذا النظام من الحكم المطلق سيكلف السياسة اليمنية متاعب خطيرة. . .
(إن الإمام يحيى شخصية مقدسة لدى الكثير من اليمنيين؛ تفد إليه من أقصى (بلاد الرحل) جماعات كثيرة من البدو، يدقون القاع، ويقطعون شاسع البقاع، وقد برحت بهم الأمراض وعجز أطباؤهم عن شفائهم، فلم يبق إلا دواء الإمام، وكرامة الإمام، فتهل هذه الوفود على صنعاء، وتشخص نحو (المقام) فيمر الإمام يحيى يده على رؤوسهم وأكتافهم فيزول الشر، وتحل العافية كما كان يفعل في إنكلترا وفرنسا منذ قرون مضت: ,
(يعتقد العالم الأوربي أن الإمام يحيى شخصية غامضة ذات أسرار عجيبة ولكن هذه نظرية خاطئة نحن مسؤولون عنها فالإمام يحيى يختلف جد الاختلاف عن أئمة اليمن السابقين ذوي العجائب والغرائب!
كان أولئك الأئمة، في وقت من الأوقات، يعيشون في أبراج من العاج بعيدة عن أنظار الجمهور؛ في وحشة صامتة! وهذه الخرافة ومنهم من أعماق التاريخ القديم؛ ذلك أن ملوك سبأ كما تقول الخرافة، لا يستطيعون أن يغادروا قصورهم الفخمة فيتعرضوا لأنظار الجمهور فيقذهم هذا بالحجارة!
ووالد الإمام الحالي قد حافظ على هذه العادة العجيبة، وذلك بعكس الإمام يحيى الذي كثيراً ما يتصل بشعبه، ويميل إلى الظهور في المجتمعات
هناك في فصل الصيف، في ساحة من ساحات (المقام) وتحت شجرة عظيمة وارفة الظلال يتربع الإمام يحيى وحوله ثلة من الجند، فيستمع إلى شكاوي الناس، فينصف المظلوم، ويأخذ الحق من القوي!
وقد تفد إليه من أقصى بلاد المشرق: من أرض سبأ جماعات من البدو يرجون إنصافاً، فيهدفون على المقام فينحرون الذبائح على الأعتاب جرياً على عادات قديمة
الإمام يحيى رجل عالم ومثقف، يملك مكتبة واسعة زاخرة بشتى أنواع المخطوطات العربية القيمة! وهو ميال على وجه أخص إلى علم الفلك وعلم السحر؛ كما أنه مغرم جداً بمسائل التجارة وإجادة القريض وإنشاد القصيد!
يلبس من الثياب الأبيض. وهو ذو وجه أسمر تحوطه لحية ناصعة البياض وعينين سوداوين جميلتين جذابتين. تشع منهما دلائل الذكاء والفطنة والحذر: وهو اليوم في الخامسة والستين)
هذه بلاد اليمن وعاهلها مصورة بقلم السنيور آبونتي صاحب (أسرار الحياة في اليمن) أما نصيب هذه البلاد من التقدم وحظها من الحضارة فالأمر مشكل ومحزن، فهذه البلاد التي لها ماض مجيد تعيش في القرن العشرين عيشة عجيبة بعيدة عن أنظار العالم؛ بعيدة عن الحياة التي تتمشى اليوم بحرارة في أعراق الأمم؛ منتبذة مكاناً قصياً ظانة أن الحياة في الوحدة؛ وما درت أنها تعد نفسها لأن تكون لقمة سائغة لكلاب الاستعمار!
إن أبسط مظاهر الحضارة الحديثة ما زالت اليمن تتنكر لها، وتتحرج من تتبع آثارها. فالسيارة، وقد عرفها سكان المريخ! ما زال ينظر إليها في اليمن نظرة ريبة وامتعاض. حدثنا المؤلف في ص 93 أن سيارة أهديت إلى الإمام فأراد تجربتها إلى أحد المساجد فما ظهرت لدى باب المقام حتى التف خلق كثير لرؤية (عمل الشيطان) وما كاد الإمام يظهر ليعتليها حتى انسل من بين الجمهور أحد أنجال الإمام يتبعه جماعة من المتصلبة في الدين ووقف أمام والده في رباطة جأش، وعيناه تقدحان بالشرر وصاح قائلاً: وحتى أنت يا إمام الزيدية تجرؤ على اعتلاء هذه الآلة الجهنمية؟؟
ولكن الإمام رده رداً لطيفاً وأخذ طريقة نحو المسجد على قدميه!
وتوجد في اليمن كلها محطة راديو؛ وعدة كهرباء؛ يأخذان موضعهما من (مقام) الإمام فقط؛ يحدثنا السنيور آبونتي في ص 92 عنهما فيقول:
(هناك في زاوية قصوى من حديقة المقام توجد بناية ضخمة عليها محطة راديو وهي الأداة الوحيدة التي تصل اليمن بالعالم الخارجي
(يمر أمامها رجال القبائل فيحولون أنظارهم عنها من دون أن يفهموا شيئاً عن أسباب تأسيسها! وإذا جنّ المساء تألقت الأنوار على مقام الإمام فيأخذهم العجب؛ ويتألمون لهذا الحدث الجديد؛ ولكن يتمتمون في سرهم اعتقاداً أن هذا من عمل (الجن) الذين يهيمن عليهم (المتوكل على الله) أيضاً. . .
وأخيراً يأتي دور النفوذ الإيطالي في بلاد اليمن، فقد لمسنا أنفاس المستعمرين تتمشى في صفحات عديدة من هذا الكتاب. ولم يستطع الكاتب الإيطالي أن يضبط نفسه ويكبح قلمه؛ فهو يقول لنا في صراحة متناهية: إنهم يعدون أنفسهم للاستفادة من أية فرصة شرعية قانونية قد تحين؛ فينتهزونها لجعل نفوذهم ملموساً في اليمن؛ وهو في أثناء هذا يشيد بأعمال إيطاليا في اليمن وما أسدته إليها من الخدمات الجلي؛ فهناك مستشفى لهم في صنعاء على مقربة من قصر الإمام؛ وجميع ما يحوي قصر الإمام من أثاث ومحطات راديو، وعدد كهرباء؛ وسيارات؛ ومصاعد للقصور كلها من عمل. . . (الطليان) بل وهناك في صنعاء شارع يسمى شارع الطليان!
هذه (المكارم) الإيطالية ستؤتي أكلها ولو بعد حين. . . ومكائد الاستعمار كثيرة منها ما يأتي عن طريق الشركات، وبذل الامتيازات، وغير ذلك؛ والسادة الإيطاليون اليوم في بلاد اليمن لهم وجود محسوس؛ ومشاريعهم هناك كثيرة، أهمها أن لهم اليوم مستشفى في صنعاء وأربعة أطباء: اثنان في صنعاء وواحد في الحديدة وآخر في تعز. وبالتأكيد أن هؤلاء لا يقومون بالخدمة الإنسانية ولكنهم ذئاب كاسرة في صورة ملائكة، وأعين خطيرة لوزارة المستعمرات الإيطالية؛ واليمانيون يعرفون هذا؛ والإمام يحيى يدرك أكثر من هذا. وإذا سألتهم: هل لهذا الليل من آخر؟ أجابوك: (الإيمان يمان؛ والحكمة يمانية!) وحياتنا في الوحدة (والوحدة عبادة!)
ولا يفوتنا بعد هذا كله أن نشير إلى أن المؤلف كان في مواضع كثيرة من كتابه هذا يشيد في أسلوب استعماري صارخ بما في اليمن من ثروة طبيعية هائلة أهمها الذهب والفضة والنحاس والحديد والأحجار الكريمة والنفط والكوارتز والميكا وغير ذلك.
وخلاصة القول أن الفكرة الاستعمارية واضحة لا شية عليها؛ وهي على أشدها في ص 157 وما بعدها. فليحذر الإمام يحيى، فإنه المسئول أمام الله والتاريخ عن مصير هذه البلاد.
هذه أسرار من (أسرار الحياة في اليمن) وهناك أسرار تجنبنا ذكرها حرصاً على سمعة بلادنا وكرامة مواطنينا، ولكن للأسف ستكون معلومة لدى الاستعمار؛ بل هي الجسر الذي يتوصل به إلى تحقيق أغراضه ومطامعه؛ ومن أنذر فقد أعذر.
(القاهرة)
محمد عبد الله العمودي
دبلوم دار العلوم