مجلة الرسالة/العدد 31/أبو عبد الله آخر ملوك الأندلس
→ صفحة سوداء | مجلة الرسالة - العدد 31 أبو عبد الله آخر ملوك الأندلس [[مؤلف:|]] |
المشتهى ← |
بتاريخ: 05 - 02 - 1934 |
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تبوأ أبو عبد الله عرش غرناطة للمرة الثانية بعد أن قضى في أسر ملك قشتالة زهاء ثلاثة أعوام. وكانت الخطوب والفتن التي توالت على مملكة غرناطة قد مزقتها حسبما بينا، فلم يبق منها بيد الإسلام سوى بضع مدن وقواعد متناثرة مختلفة الرأي والكلمة ينضوي بعضها تحت لواء أبي عبد الله والبعض الآخر تحت لواء عمه محمد بن علي (الزغل). وكان واضحاً أن مصير غرناطة يهتز في يد القدر بعد أن نفذت جيوش النصرانية إلى قلبها، واستولت على كثير من قواعدها وحصونها الداخلية، ولم يكن الملك الصغير (أبو عبد الله) طبق المعاهدة التي عقدها مع فرديناند سوى تابع لمملكة قشتالة. يدين لها بالخضوع والطاعة، وكان ملك قشتالة يحرص من جهة أخرى على المضي في تحقيق خطته لسحق البقية الباقية من دولة الإسلام في الأندلس قبل أن يعود إليها اتحاد الكلمة، فيبعث إليها روحاً جديداً من العزم والمقاومة، فبدأ بغزو القواعد الشرقية والجنوبية التي يسيطر عليها مولاي الزغل لأنه كان في صلح مع غرناطة يمتد إلى عامين، وقد أراد أن يسبغ على عهوده مسحة غادرة من الوفاء، ولأنه أراد أولاً أن يعزل غرناطة، وأن يطوقها من كل صوب. وزحف فرديناند بادئ بدء على مالقة امنع ثغور الأندلس وعقد صلتها بالمغرب، وطوقها بقوات كثيفة من البر والبحر وسقطت مالقة رغم دفاعها المجيد في شعبان سنة 892هـ (أغسطس 1487م). ثم استولى فرديناند على المنكب والمرية (أواخر سنة 894هـ 1489م) ثم على بسطة (المحرم 895هـ ديسمبر 1489) ثم قصد إلى وادي آش آخر معقل لمولاي الزغل، ورأى الزغل رغم شجاعته وبسالته انه يغالب المستحيل وان جيوش النصرانية تحيط به من كل صوب، فانتهى إلى الاذعان والتسليم، ودخل فرديناند وآدي آش في صفر سنة 895هـ (يناير 1490م) واتفق بادئ بدء أن يستمر (الزغل) في حكم قواعده باسم ملك قشتالة وتحت حمايته، وان يلقب بملك اندرش، وأن يمنح دخلاً سنوياً كبيراً، ولكنه لم يلبث أن رأى انه يستحيل عليه الاستمرار في ذلك الوضع الشاذ، فباع حقوقه لفرديناند مقابل مبلغ كبير، وجاز البحر إلى المغرب واستقر في تلمسان يقضي بها بقية حياته في غمر من الحسرات والعدم، وجاز معه كثيرون من الكبراء الذين أيقنوا أن نهاية الإسلام بالأندلس قد غدت قضاء محتوما.
ثم جاء دور غرناطة آخر معقل للإسلام بالأندلس، وكانت جميع قواعد الأندلس الأخرى: مالقة والمرية ووادي آش والحامة وبسطة فد غدت نهائياً من أملاك مملكة قشتالة وعين لها حكام من النصارى، وتدجن أهلها أو غدوا مدجنين يدينون بطاعة ملك النصارى، وذاعت بها الدعوة النصرانية فارتد كثير من المسلمين عن دينهم حرصاً على أوطانهم ومصالحهم، وخشية الريب والمطاردة؛ وجازت ألوف أخرى ممن خشوا على أنفسهم ودينهم إلى المغرب وتفرقوا في ثغوره، وهرعت ألوف أخرى إلى غرناطة تلوذ بها حتى غدت المدينة تموج بسكانها الجدد. وكان سلطان غرناطة أبو عبد الله يرقب هذه الحوادث جزعاً ويشعر أنها تسير إلى نتيجة محتومة هي سقوط غرناطة في يد العدو الظافر، وكان قد تخلص بانسحاب عمه الزغل من الميدان من منافسه القوي، ولكنه فقد في نفس الوقت أقوى عضد يمكن الاعتماد عليه في الدفاع والمقاومة، وسرعان ما بدت طوالع الخطر الداهم، وبعث فرديناند إلى أبي عبد الله يطلب إليه تسليم الحمراء والبقاء في غرناطة في طاعته وتحت حمايته مثلما وقع لعمه الزغل؛ فثار أبو عبد الله لذلك الغدر، وأدرك - وربما لأول مرة - فداحة خطأه في محالفة الملك الغادر؛ وجمع الكبراء والقادة، فاجمعوا على الرفض والدفاع حتى الموت عن وطنهم ودينهم؛ ودوت غرناطة صيحة الحرب؛ وحمل أبو عبد الله بعزم شعبه على القتال والجهاد، وخرج في قواته نحاول استرداد القواعد والحصون المسلمة المجاورة؛ وثار أهل البشرات وما حولها على النصارى؛ ووقعت بين المسلمين والنصارى عدة مواقع ثبت فيها المسلمون، واستردوا كثيراً من الحصون والقرى في تلك المنطقة (أواخر سنة 895هـ)، وعاد أبو عبد الله إلى غرناطة ظافرا، وانتعشت قلوب الغرناطيين نوعاً بذلك النصر الخلب، وأخذوا يتأهبون للدفاع بعزم. وغضب فرديناند لتلك المفاجأة التي لم يكن يتوقعها واعتزم أن يقوم بضربته الحاسمة في الحال؛ فخرج في ربيع العام التالي (896هـ) في جيش ضخم مزود بالمدافع والذخائر الوفيرة؛ وسار تواً إلى غرناطة ونزل بمرجها الجنوبي وأنشأ لجيشه في بلك البقعة مدينة صغيرة مشهورة سميت سانتافي (شنتفي) أو الإيمان المقدس رمزاً للحرب الدينية، وهي تقوم حتى اليوم وبدأ حصار غرناطة في جمادى الآخرة سنة 896هـ (مارس 1491م).
ولسنا نقف طويلاً عند حوادث هذا الصراع الأخير بين الإسلام والنصرانية في الأندلس؛ فهي تملأ فصولاً طويلة مؤثرة في الروايات العربية والإفرنجية؛ ويكفي أن نقول أن غرناطة دافعت عن نفسها دفاعاً مجيداً، ولم تدخر لاجتناب قدرها جهداً بشرياً؛ وان فروستها الشهيرة بذلت بقيادة زعيمها موسى ابن أبي الغسان أشجع فرسان عصره، ضروباً رائعة من البسالة، وخرج المسلمون من مدينتهم المحصورة غير مرة واثخنوا في النصارى. ولكن الضيق كان يشتد بالمدينة المحصورة يوماً فيوماً، وتقل مؤنها شيئاً فشيئاً، ويتساقط جندها تباعاً. وكانت مدى الربيع والصيف تستمد بعض المؤن من جهة البشرات من طريق جبل شلير فلما دخل الشتاء غطت هذه السهول والشعاب بالثلج الكثيف؛ وازدادت غرناطة ضيقا، واشتد بأهلها الجوع والمرض، وهم أبو عبد الله بمفاوضة فرديناند في التسليم غير مرة لو أن كان يمنعه موسى بن أبي الغسان وتحمله الحماسة العامة، فلما اشتد الخطب تقدم حاكم المدينة أبو القاسم عبد الملك، وقرر أن المؤن تكاد تنفد، وان الجوع أخذ يعصف بالشعب، وان الدفاع عبث لا يجدي؛ واتفقت كلمة الزعماء والقادة على التسليم؛ وتم الاتفاق على أن تسلم غرناطة بشروط كثيرة أهمها أن يؤمن المسلمون على أنفسهم ودينهم واموالهم، وانتمس مساجدهم وشعائرهم وشرائعهم وتقاليدهم؛ وان يجوز منهم إلى المغرب من شاء وهكذا أذعنت غرناطة وسلمت، وانتهت دولة الإسلام بالأندلس (صفر 897هـ ديسمبر سنة 1491) وطويت إلى الأبد تلك الصفحة المجيدة الرائعة من تاريخ الإسلام، وقضى على تلك الحضارة الأندلسية الشامخة وآدابها وعلومها وفنونها وكل ذلك التراث الباهر بالفناء والمحو، ودخل النصارى غرناطة في الثاني من ربيع الأول سنة 897 (2 يناير 1492) واحتلوا حمراءها وباقي قصورها وحصونها وخفق علم النصرانية ظافراً فوق صرح الإسلام المنهار.
أما الملك التعس أبو عبد الله فقد قضت معاهدة التسليم ان يغادر غرناطة مع أسرته إلى البشرات وان يحكم هذه المنطقة باسم ملك قشتالة وفي طاعته وان يكون مقره في قرية اندرش. ولما ذاعت أنباء التسليم اضطرم الشعب غضباً وسخطاً على أبي عبد الله واعتبره مصدر كل مصائبه ومحنه؛ فبادر أبو عبد الله بالأهبة للسفر مع أسرته وخاصته وحشمه، وبعث بأمواله ونفيس متاعه إلى مقره الجديد في اندرش. وفي نفس اليوم الذي دخل النصارى فيه غرناطة، غادر أبو عبد الله قصره وموطن عزه ومجد إلى آبائه الأبد؛ وخرج للقاء عدوه الظافر في سرية من الفرسان والخاصة، فاستقبله فرديناند في محلته على ضفة شنيل. وتصف الرواية هذا المنظر المؤثر فتقول إن أبا عبد الله حين رأى فرديناند، هم بترك جواده، ولكن فرديناند بادر بمنعه وعانقه بعطف ورعاية؛ ثم قدم إليه أبو عبد الله مفاتيح الحمراء قائلا: (إن هذه المفاتيح هي الأثر الأخير لدولة العرب في إسبانيا. وقد أصبحت أيها الملك سيد تراثنا وديارنا وأشخاصنا. هكذا قضى الله، فكن في ظفرك رحيماً عادلاً). وسار أبو عبد الله بعد ذلك صحبة فرديناند إلى حيث كانت الملكة إيزابيلا , فقدم إليها تحياته وخضوعه، ثم انحدر إلى طريق البشرات ليلحق بأسرته وخاصته.
وهنا تقول الرواية إن أبا عبد الله اشرف أثناء مسيره في شعب تل البذول (بادول) على منظر غرناطة فوقف يسرح بصره لآخر مرة في هاتيك الربوع العزيزة التي ترعرع فيها، وشهدت مواطن عزه وسلطانه؛ فانهمر في الحال دمعه وأجهش بالبكاء، فصاحت به أمه عائشة: (أجل فلتبك كالنساء ما لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال). وتعرف الرواية الإسبانية تلك الأكمة التي كانت مسرحاً لذلك المنظر المحزن باسم شعري مؤثر هو: (زفرة العربي الأخيرة) وما تزال قائمة حتى اليوم يعينها سكان تلك المنطقة للسائح المتجول.
ثم تقول الرواية أيضاً إن باب غرناطة الذي خرج منه أبو عبد الله لآخر مرة قد سد عقب خروجه برجاء منه إلى ملك قشتالة وبني مكانه حتى لا يجوزه من بعده إنسان.
لم يطل مكث أبي عبد الله بمقره الجديد في اندرش، ولم تمض اشهر قلائل حتى أدرك كما أدرك عمه من قبل انه يستحيل عليه البقاء في هذا الوضع الشاذ كعامل لملك قشتالة، وكان فردنياند من جانبه ينظر إلى وجوده بعين الريب ويخشى مثار الفتنة؛ فعول أبو عبد الله ان يحذو حذو عمه في الجواز إلى أفريقية، ونزل لفرديناند عن حقوقه نظير مبلغ كبير، ثم جاز بأسرته وماله ومتاعه من ثغر المرية إلى المغرب الأقصى في سفن أعدت له (1493م) ونزل أولاً بمليلة، ثم قصد إلى فاس واستقر بها، وتقدم إلى ملكها السلطان محمد شيخ بني وطاس الذين خلفوا بني مرين في الملك، مستجيراً به، مستظلاً بلوائه ورعايته، معتذراً عما أصاب الإسلام في الأندلس على يده، متبرئاً مما نسب إليه، وذلك في كتاب طويل مؤثر كتبه عن لسان كاتبه ووزيره محمد بن عبد الله العربي العقيلي، وسماه (الروض العاطر الأنفاس في التوسل إلى المولى الإمام سلطان فاس). وقد افتتحها بعد الديباجة بقصيدة رائعة هذا مطلعها:
مولى الملوك ملوك العرب والعجم ... رعياً لما مثله يرعى من الذمم
بك استجرنا ونعم الجار أنت ... لمن جار الزمان عليه جور منتقم
حتى غدا ملكه بالرغم مستلب ... وافظع الخطب ما يأتي على الرغم
حكم من الله حتم لا مرد له ... وهل مرد لحكم منه منحتم
كنا ملوكاً لنا في أرضنا دول ... نمنا بها تحت أفنان من النعم
فأيقظتنا سهام للردى صبت ... يرمي بأفجع حتف من بهن رمى
فلا تنم تحت ظل الملك نومتنا ... وأي ملك بظل الملك لم ينم
وهي طويلة جدا، يمتدح فيها ملوك فاس وشيد بعلائقهم القديمة مع بني الأحمر: ويشير أبو عبد الله بعد ذلك إلى حوادث الأندلس، ويعتذر عن نكبته؛ ويعترف بخطاه. زمن قوله في ذلك: (اللهم لا بريء فأعتذر، ولا قوي فأنتصر، ولكني مستقيل، مستنيل، مستغيث، مستغفر؛ وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء) بيد أنه يدفع عن نفسه تهم الزيغ والتفريط والخيانة بشدة، ويقول: (ولقد عرض علينا صاحب قشتالة مواضع معتبرة خير فيها، وأعطى من أمانه المؤكد فيه خطه بإيمانه، ما يقنع النفوس ويكفيها؛ فلم نر ونحن من سلالة الأحمر مجاورة الصفر، ولا يسوغ لنا الإيمان الإقامة بين ظهرانيالكفر، ما وجدناه على ذلك مندوحة ولو شاسعة) ثم يرثي ملكه بعبارات مؤثرة منها: (ثم عزاء حسناً وصبراً جميلاً، عن أرض ورثها من شاء من عباده معقباً لهم ومديلاً، وسادلاً عليهم من ستور الإملاء الطويلة سدولاً، سنة الله التي قد خلت من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلا. فليطر الطائر الوسواس المرفرف مطيراً كان ذلك في الكتاب مسطوراً. لم يستطع غير مورده صدوراً. وكان أمر الله قدراً مقدوراً).
واستقر أبو عبد الله في فاس في ظل بني وطاس، وشيد بها قصوراً على طراز الأندلس رآها وتجول فيها المقري مؤرخ الأندلس بعد ذلك بنحو قرن (1037هـ - 1628م)، وقضى أعواماً طوالاً في غمر الحسرات والذكريات المفجعة، وتوفي سنة 940هـ (1534م). ودفن بفاس، وترك ولدين هما يوسف وأحمد، واستمر عقبه متصلاً معروفاً بفاس مدى أحقاب، ولكنهم انحدروا قبل بعيد إلى هاوية البؤس والفاقة، ويذكر لنا المقري أنه رآهم سنة 1037هـ فقراء معدمين يعيشون من أموال الصدقات وفي بعض الروايات الأسبانية أن أبا عبد الله توفي قتيلاً في موقعة نشبت بين السلطان أحمد الساطي وبني سعد الخوارج عليه في وادي أبى عقبة وقاتل فيها أبو عبد الله جانب أصدقائه بني وطاس وذلك سنة 943هـ (1536م) بيد أنها رواية ظاهرة الضعف لان أبا عبد الله يكون في هذا التاريخ قد جاوز السبعين ومن الصعب أن نصدق انه يخوض مثل هذه المعارك الطاحنة بعد أن هدمه الإعياء والهرم، هذا إلى أن الرواية الإسلامية في هذا الموطن ادعى إلى الترجيح والثقة.
ويعرف أبو عبد الله آخر ملوك الأندلس بالملك الصغير (وبالأسبانية تمييزاً له من عمه أبي عبد الله الزغل، ويلقب بالزغيبي، أو عاثر الحظ تنويها بما أصابه وأصاب الإسلام على يده من الخطوب والمحن.
هذه قصة مصرع الأندلس، وقصة آخر ملوكها
وصار ما كان من ملك ومن ملك ... كما حكى عن خيال الطيف وسنان
تم البحث
محمد عبد الله عنان