مجلة الرسالة/العدد 309/من مذكرات بلنت
→ صورة وصفية | مجلة الرسالة - العدد 309 من مذكرات بلنت [[مؤلف:|]] |
أسرار حياة بلاد العرب السعيدة ← |
بتاريخ: 05 - 06 - 1939 |
صفحات مجهولة من حياة الأمام محمد عبده
(مقتطفات من يوميات نشرها في إنجلترا أخيراً ورثة مستر ويلفريد بلنت، صديق مصر ومحامي زعماء الثورة العرابية، عن حوادث جرت في مصر والشرق العربي بين سنة 1888 وسنة 1914).
(وقد خص صديقه الحميم الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية بالشيء الكثير من هذه المذكرات، ودون فيها ما كان يدور بينما من الأحاديث والمناقشات حول السياسة والعلم والدين)
(وهذه المذكرات تلقي الضوء ساطعاً على جانب من أفكار الشيخ محمد عبده وحياته الخاصة وعلاقته بالخديو وصداقته للفيلسوف هربت سبنسر).
مارس سنة1891:
حضر عندي صباحاً الأستاذ المفتي محمد عبده، وجلس معي ساعتين تقريباً، تحدثنا فيهما شتى الأحاديث. وكان قد بعث إلى بالنسخة التي أهديت إليه من كتاب بتلر: (فتح العرب لمصر) فشرحت له محتويات الكتاب لأنه لا يعرف اللغة الإنجليزية. ثم تناقشنا في المسألة الخاصة بنظرية المؤلف من أن المقوقس هو (سيرس) بَطْريق الإسكندرية. فذكر الشيخ عبده أن هذه النظرية خطأ. وعنده أن (المقوقس) قبطي، وأنه حاكم منفيس، وأن جماعة القبط في ذلك الوقت رحبوا بالفاتحين العرب ليخلصوهم من ظلم الرومان. وإلا فكيف أتيح للقبط أن ينالوا من عمرو بن العاص ما نالوه من امتيازات وعهود طيبة وحكم ذاتي تمتعوا به عصوراً متتالية؟ وفي رأيه أن الحروب الصليبية، وبالأخص هجوم الصليبيين على مصر هو الذي القبط موضع الاضطهاد بسبب انهم أنهم أعلنوا هواهم في جانب الصليبين.
ودار الحديث على ما يجري الآن من الأمور السياسية في الآستانة، فذكر الشيخ عبده أن الخديو عباس حلمي على علاقات سيئة مع السلطان، وأنه قوبل في الآستانة هذا الصيف مقابلة فاترة، وأن السلطان عبد الحميد امتنع أولاً عن مقابلته إلى أن أخذوا عليه تعهداً بالا يفاتحه في مشكلة جزيرة طشيوز. والمسألة هي أن الجزيرة ملك للخديو بالميراث، ولكنها من أملاك الدولة العلية. وأن الخديو لما فرض على سكانها الضرائب بعثوا بشكايتهم إلى الحضرة السلطانية، فأرسلت الحضرة الجنود ليقيموا فيها استناداً إلى تلك الشكايات. أما الخديو فهو يريد أن تخلي الجزيرة من الحامية العسكرية، ولكن رجال المابين لم يصغوا إلى نظريته
وذكر أيضاً أن الخديو لآن تحت تأثير سيدة مجربة هي حظيته. وقد كانت معه في حادث العربة التي وقعت لهما أخيراً وهما عائدان من (الدار البيضاء) في طريق السويس إذ نشبت عجلات العربة في الرمال. وكان جزاء الخفراء الذين توانوا عن تقديم المساعدة المحاكمة والحبس مع الشغل مدة أسبوع. وقد رفع ذلك الحادث إلى دار الوكالة البريطانية، وقامت بسببه مشاحنات حادة بين العميد وبين الخديو.
ثم تكلمنا - والحديث ذو شون - عن مدحت باشا، وفترة حكم السلطان عبد العزيز. ومن رأى الشيخ عبده أن وفاة السلطان عبد العزيز لم تخرج عن كونها حادث انتحار، وهو ما أخبرني به الدكتور ديكونس في غضون عام 1884.
أما مدحت باشا فأسر إلى كيفية معاملته في (الطائف)؛ وأنهم يحرمونهم من الغذاء الكافي، ويقدمون إليه الخبز الجاف الخشن حتى كسرت أسنانه، ولا يسمح له بقضاء حاجته إلا في غرفته إلى أن مات من سوء المعاملة. ثم قطعت رأسه وأرسلت إلى الآستانة.
وينعت الشيخ عبده السلطان عبد الحميد بأنه (أكبر مجرم سفاك في هذا العصر).
وإنها لكلمة قاسية يذكرها عالم ديني كبير عن خليفته.
مارس 1891
رفعت تقريراً إلى اللورد كرومر عن الإدارة المصرية وسوء حال الدولاب الحكومي، وشفعته باقتراح يتضمن تأليف وزارة من المصريين، هذه أسماؤهم بعد استشارة الشيخ عبده والمويلحى:
حسن باشا الشريعي، بليغ بك، أمين بك فكري، سعد أفندي زغلول، أحمد أفندي محمود، إبراهيم أفندي الوكيل، محمود بك شكري، أحمد بك حشمت، يوسف بك شوقي، الشيخ محمد عبده.
فبراير 1893 إن الشيخ عبده في جانب رياض باشا رئيس الحكومة. وفي اعتقاده أن رياض باشا برغم كونه مستبداً رجل شريف، وأنه أفضل من تجران وبطرس وأرتين، لأن هؤلاء كلهم مسيحيون لا يريدون خيراً بنشر روح التعليم الإسلامي. ومدح الشيخ عبده في أخلاق بعض الموظفين الإنجليز، ولكنه عاد فذم الطبقة الجديدة منهم، واستحسن تقربي من الخديو حتى أستطيع التأثير عليه. فيستعين برياض وبطبقة من الشبان المسلمين المتعلمين، ويقصى عنه الأرمن والمسيحيين. وذكر الشيخ عبده أخيراً: نحن لا يهمنا أن يبقى الإنجليز سنة أو اثنتين أو خمسة ما داموا سيشركوننا في الأمر؛ إلى أن يقوى حزب الفلاحين؛ ولكن إذا كانت هناك فكرة مبيتة بضم مصر، فإننا نقبل الاستبداد التركي الضعيف على ذلك الخسران المبين. فإن قمتم بالجلاء غداً فثق أننا جميعاً نفرح ونغتبط.
والواقع أن الشيخ عبده الآن أكثر المصريين ميلاً الإنجليز.
ديسمبر 1893
تغدى اليوم معنا الشيخ عبده. وذكر ضمن أن الشيخ حسونة النواوي هو الوحيد بين هيئة العلماء الذي يصلح لأن يكون شيخاً للأزهر على أساس حر شريف.
نوفمبر 1894
تغدى معنا وحدثنا عن مقابلته الأخيرة للخديو واستمالته إياه نحو الأزهر. ثم عرض خلال الحديث إلى حادث قتل70 * 12 إسماعيل باشا المفتش وخنقه في إحدى السفن النهرية أمام جسر قصر النيل. وكذلك جرَنا الحديث إلى ما وقع لعلي باشا، شريف وابتياعه بعض الجواري والعبيد. وتناولنا نوبار باشا، وكيف يستعين بمركزه في الوزارة، ونفوذه ليشتغل بالأعمال المالية ويستفيد منها.
نوفمبر 1895
قابلت كرومر اليوم وتحدثنا في شؤون مختلفة، فأخبرني الشيخ عبده أن قد يصدر الأمر بتعينه مديراً للأوقاف، فاستحسنت ذلك التعيين بكل جوارحي.
مارس 1898 زارني الشيخ عبده وأقام عندي فترة طويلة، ودعني فيها بمناسبة أوبتي إلى إنجلترا. والواقع أنني أغادر هذا البلد الطيب وأنا مريض، وقد مللت الحياة، وكنت على وشك أن أعتنق الإسلام، ولكنني أنظر إلى الإسلام بنفس العين التي أنظر بها إلى المسيحية.
5 ديسمبر 1899
ليس بين جميع الشرقيين، بل بين جميع الرجال صديق أعظم لي من الشيخ عبده. وهاهو يعود بعد أن سجن لإرادته الحرة وأفكاره الجريئة؛ وبعد أن نفي عام 1882 فيعترف لي بقضيته. والحق أنه أقدر رجال مصر وأشرفهم وأنبلهم، وهو يشتغل الآن منصب مفتى الديار المصرية. وقد أهديت إليه منذ سنوات قطعة من أرضي في عين شمس تبلغ مساحتها فداناً، فبنى عليه داراً قروية، وصار أقرب جار لنا.
يناير 1900
تحادثنا ملياً عما فعله كتشنر برأس المهدي في السودان، واتفقنا على أن الله هو وحده المنتقم الجبار من هذه الأفعال الإجرامية التي سوف تصل بالإمبراطورية إلى الانهيار الذي وصلت إليه غيرها من الأمم
28 يناير 1900
كان حديثنا الليلة يتناول الإنسانية ومعاملة القوي للضعيف، فألفيته من المتشائمين مثلي. فقال: إنه كان يتلو التوراة من أيام فرأى أن الفظائع والوحشية التي جاءت على يد المسيحية جاءتها من صلتها باليهودية. وذكر أحاديث نبوية كثيرة عن معاملة الحيوان الأعجم بالرأفة والمحبة، وأن قتل العجماوات هو ضد عقيدة المسلم وشعوره، ولكنها ليست كذلك بالنسبة للمسيحية. وهو لا يؤمل خيراً في مستقبل البشرية. وإني لأخشى أن يكون ضعيف الإيمان بأثر الإسلام برغم أنه المفتى الأكبر، مثل ما عندي من ضعف الإيمان بأثر الكنيسة الكاثوليكية.
أكتوبر 1901
أثناء حديث الصباح جاء ذكر (عرابي) بمناسبة رجوعه من النفي إلى وطنه. فأخذه عليه الشيخ عبده الحديث الذي صرح به لمكاتبي الصحف قبل أن يقف على حقائق الأمور، وبالأخص تصريحه أن كل شيء عمله الإنجليز في مصر طبيب.
24 أكتوبر 1901
كانت اليوم أول مقابلة جرت بين عرابي وعلي فهمي وبين الشيخ عبده فتعانقوا عناقاً حاراً وتناول حديثهم ذكريات العصر الماضي ومواقف رجال العصر.
(البقية في العدد القادم)
محمد أمين حسونة