مجلة الرسالة/العدد 309/في بلاط الخلفاء
→ أعلام الأدب | مجلة الرسالة - العدد 309 في بلاط الخلفاء [[مؤلف:|]] |
صورة وصفية ← |
بتاريخ: 05 - 06 - 1939 |
بين الشعبي وعبد الملك
للأستاذ علي الجندي
قضى عبد الملك بن مروان شطراً من خلافته في رتق ألفتوق وسدِّ الثُّلم والقضاء على منافسيه والخوارج عليه، فبلغ من ذلك ما أراد بعد أن خاض أهوالاً تشيب لها ناصية الطفل، واضطلع بأعباء تنوء بها الجبال، فعدّ بحق رجل الأمويين، ومر بي ملكهم ومؤثّل دولتهم. ولم يَعْد الصواب من وازن بينه وبين معاوية فقال: معاوية احلم، وعبد الملك أحزم. ولم يَغْل عبد الملك في وصف نفسه من خطبة له: أيها الناس، والله ما أنا بالخليفة المستضعف (عثمان)، ولا بالخليفة المداهن (معاوية)، ولا بالخليفة المأفون (يزيد)؛ فمن قال برأسه كذا، قلنا بسيفنا كذا!
والآن تحتويه دمشق الفيحاء، وقد اتسق له الأمر، وصافحه الإقبال، ونفض عن كاهله غبار الحروب، وتكفل له طاغية ثقف وجبّار العرب بقمع أهل الفساد والشَّغب، والضرب على يد الأسود والأحمر على السواء! فكيف يقضي أوقات الفراغ التي انفسحت أمامه؟ وبأي الوسائل يروّح نفسه، ويدخل عليها البهجة والمسرة؟
لم يكن عبد الملك مُعَنَّى بالنساء، ولا منهوماً بالشراب، ولا مستهتراً بالسماع، ولا موكلا بالصيد والقنص، حتى يلتمس المتعة في ذلك؛ ولكنه كان الخليفة جاداً زَميتاً وقوراً. وكان قبل الخلافة أزهد شباب قريش وأورعهم حتى لقّب بحمامة المسجد، كما كان يُقْرن في الفقه بسعيد بن المسيّب. أما روايته للأخبار، وحفظه للشعر، وبصره بالنقد وذرابة لسانه وسحر منطقه، وثقوب ذهنه، ووثاقة عقله، فقد أربى من ذلك على الغاية، ولعل التاريخ الأدبي لم يعن بالتحدث عن خليفة في الإسلام عنايته بعبد الملك والرشيد
فنُّ واحد من اللذات إذن يمكن أن يستهوي هذا الخليفة العالم الأديب، ويساوق طبيعته السامية. فن لا يقدره قدره إلا أصحاب المواهب المصقولة، والحسّ المرهف، والعقل المثقف، والذوق السليم، وهو محادثة الرجال ذوي العقول ومجاذبتهم طرائف الأخبار وبدائع الأسمار
وقد نوه الحكماء بهذه المتعة العقلية الرفيعة، فقالوا: محادثة الرجال تلقيح لألبابها. وأشاد به أبن الرومي في شعره حيث يقول:
ولقد سئمت مآربي ... فكأنّ أطيَبها خبيثُ
إلا الحديث فإنه ... مثل اسمه أبدا حديثُ
وفي الحق أن عبد الملك ليس أول من طلب هذه اللذة ولا آخر من رغب فيها، فقد قال قبله معاوية: أصبْت من النساء حتى ما أفرق بين امرأة وحائط، وأكلت الطعام حتى لا أجد ما أستمرئه، وشربت الأشربة حتى رجعت إلى الماء، وركبت المطايا حتى اخترت نعلي، ولبثت الثياب حتى اخترت البياض، فما بقي من اللذات ما تتوق إليه نفسي إلا محادثة أخ كريم
وقال بعده سليمان بن عبد الملك: قد ركبت الفارة، وتبطنت الحسناء، ولبست اللين حتى استخشنته، وأكلت الطيب حتى أجِمته، فما أنا اليوم إلى شيء أحوج مني إلى جليس يضع عنى مئونة التحفظ. إلى غير ذلك من الأقوال التي ملئت بها كتب التاريخ والأدب
لم يكد عبد الملك تهيج في نفسه هذه الرغبة حتى دعا بدواة وقرطاس، وكتب إلى عامله الحجاج بالعراقيين: إنه لم يبق لي من الدنيا لذة إلا مناقلة الإخوان الأحاديث، وقِبَلك عامر الشعبي فابعث به إلى يحدثني. وفي بعض الروايات أنه كتب إليه: أن ابعث لي رجلاً يصلح للدين والدنيا أتخذه سميراً وجليساً. فقال الحجاج: ماله إلى الشعبي
وسواء أكان الاختيار وقع على الشعبي من عبد الملك أم من الحجاج، فأنه لم يقع اعتباطاً ولا جاء مصادفة. فقد كان الشعبي نادرة الدنيا وفقيه العراق.
يقول الشعبي عن نفسه: دخلت إلى الحجاج حين قدم الكوفة، فسألني عن اسمي فأخبرته. ثم قال لي: يا شعبي كيف علمك بكتاب الله؟ قلت: عني يؤخذ! قال: كيف علمك بالفرائض؟ قلت: إلي فيها المنتهى! قال: كيف علمك بأنساب الناس؟ قلت: أنا الفيصل فيها! قال: كيف علمك بالشعر؟ قلت: أنا ديوانه! قال: لله أبوك! وفرض لي أموالاً وسوّدني على قومي. فدخلت عليه وأنا صعلوك من صعاليك همدان، وخرجت وأنا سيدهم.
وقد بلغ من سعة معارفه أنه كان يقول: ما حدثت بحديث مرتين إنساناً بعينه! ومع أن الشعر أقل بضاعتي فإني أستطيع أن أنشد شهراً كاملاً لا أفرغ منه.
وكان ظريف اللسان، بديع المنطق، ساحر الحديث، بارع المفاوضة، إذا تكلم لا يكاد يسمع غيره لخلابة قوله وعذوبته!
وكان خفيف الروح، رقيق الحاشية، سلس الطبع، لطيف المزاج، فاشي الدُّعابة، سريع الجواب، حاضر البديهة. سئل مرة عن لحم الشيطان فقال: نحن نرضى منه بالكفاف! وسئل أخرى عن أسم امرأة إبليس. فقال: هذا زواج ما شهدناه! وقال له رجل: ما تقول في الذباب؟ فقال إن اشتهيته فكله!
ويريه مصعب بن الزبير زوجه عائشة بنت طلحة ملكة الجمال في عصرها، ويصله ببدرة، وتخت ثياب، وقارورة غالية، فيقول له الناس: يا شعبي، كيف الحال؟ فيقول: وكيف حال من صدر عن الأمير ببدرة وثياب وغالية، وبنظرة من وجه عائشة! إلى غير ذلك من الملح والطرائف والأجوبة الحسان التي تكشف عن ظرف الرجل وسجاحة خلقه ورقة شمائله
ولكن هذه السمات إن وجدت في الشعبي، فلن تُعدم في غيره، فما السر في اختياره بالذات؟ السر عندي أن الشعبي كان يمثل في عصره ما يصح أن نسميه (الدبلوماسية الدينية)، فقد كان هذا الإمام - على فقهه وورعه وتقاه - لّين المجسة، مرن التفكير، رحب الأفق، طَبّا بأسرار التشريع، يتحامى التعسير والتنفير، ويأوي إلى الجانب الظليل من الحنيفية السمحة البيضاء. كان يتساهل في السماع، ويتشدد فيه ابن سيرين؛ وكان يرى التقية والتورية، ولا يراها سعيد بن جبير، فنجا الشعبي من سيف الحجاج وقتل به سعيد! وكان يجنح في إفتائه إلى الأرفق الأهون على الولاة، ويأخذهم الحسن البصري بالعسْر والشدة. فهرب الحسن من وجه الحجاج، وقرّ الشعبي آمناً مطمئناً
هذه (الدبلوماسية) هي التي جعلت الشعبي أثيراً لدى الخلفاء هذا العصر وأمرائه وولاته - على اختلاف منازعهم الدينية والسياسية - من مصعب بن الزبير، إلى ابن الأشعث، إلى الحجاج، إلى عبد الملك بن مروان؛ وهي التي رشحته أخيراً لأن يكون سميراً للخليفة، وبعبارة أدق خلعت عليه وصف (الجليس الممتع).
ولم يقصر أهل الظرف في تعريف هذا الجليس فقالوا: أمتع الإخوان مجلساً، وأكرمهم عشرة، وأشدهم حذقاً، وأنبههم نفساً، من لم يكن بالشاطر المتفتك، ولا الزاهد المتنسك، ولا الماجن المتظرف، ولا العابد المتقشف، ولكن كما قال الشاعر: يا هند هل لك في شيخ فتى أبدا ... وهل يكون شباب غير فتيان
وهأنت ترى أن هذا التعريف ينطبق على الشعبي كل الانطباق
دعا الحجاج بالشعبي وأفضى إليه برغبة أمير المؤمنين، فوقع منه ذلك بموقع، فبالغ في شكر الأمير وأطال الدعاء للخليفة
وقد جهزه الحجاج بجهاز حسن، وأنفذ معه كتاباً إلى عبد الملك يثني عليه فيه. وسار الشعبي حتى بلغ دمشق، ووقف بسدةِ الأذن، وقال للحاجب: استأذن لي في الدخول على أمير المؤمنين. وكان الحاجب اقتحمته عينه لنحوله وقماءته، فقال: ومن تكون أنت؟ فقال: عامر الشعبي. فقال الحاجب: حياك الله يا فقيه العراق! ووثب عن كرسيه وأجلسه عليه، ودخل مسرعاً إلى الخليفة، ولم يلبث أن خرج ودعاه إلى الدخول في رفق وأدب
ودخل الشعبي حتى إذا واجه عبد الملك سلم عليه بالخلافة فرد عليه السلام وهش له وبش به! وأومأ إليه بقضيب في يده أن اجلس. فجلس على يساره
وعبرت فترة أطرق فيها عبد الملك عابساً متجهماً! ومن الآداب السلطانية المأثورة أن الملك إذا حضره سُمًّاره ومحدثوه لا يحرك أحد منهم شفتيه مبتدئاً. ولم يكن الشعبي يجهل ذلك، بل لا يجهل أن عبد الملك أول خليفة منع الناس من الكلام، وتقدم فيه وتوعد عليه. ولكن اعتداد الشعبي بنفسه، وإدلاله بمنزلته من الخليفة، وتعجله إدخال السرور عليه دعاه أن يسأل غير محتشم: ما بال أمير المؤمنين؟ فرفع عبد الملك رأسه إليه - متجاوزاً عن هفوته - وقال ذكرت يا شعبي قول زهير:
كأني وقد جاوزت سبعين حجة ... خلعت بها عني عذار لجامي
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى ... فكيف بمن يُرْمي وليس برامي
ولو أنني أُرْمي بنبل رميتها ... ولكنني أُرمي بغير سهام
على الراحتين مرة وعلى العصا ... أنوء ثلاثاً بعدهن قيامي
وبهذا الكلام وجد الشعبي مجاله الذي يصول فيه ويجول، فهز رأسه قائلاً: ليس الشأن كما قال زهير يا أمير المؤمنين، ولكن كما قال لبيد:
كأني وقد جاوزت سبعين حجة ... خلعت بها عن منكبيّ ردائيا
ولما بلغ سبعاً وسبعين قال: باتت تَشكّي أليَّ النفس مُوهنة ... وقد حملتك سبعاً بعد سبعينا
فإن تُزادي ثلاثاً تبلغي أملاً ... وفي الثلاث وفاء للثمانينا
ولما بلغ تسعين سنة قال:
ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذا الناس كيف لبيد؟
ولما بلغ عشراً ومائة سنة قال:
أليس ورائي إن تراخت منيّتي ... لزوم العصا تُحْنى عليها الأضالع
أخبّر أخبار القرون التي مضت ... أنوء كأني كلّما قمت واقع
ولما بلغ ثلاثين ومائة سنة وحضرته الوفاة قال:
تَمنَّى ابنتاي أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إلا من ربيعه أو مضرْ
فقوما فقولا بالذي تعلمانه ... ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا شعَر
وقولا هو المرء الذي لا صديقه ... أضاع، ولا خان الخليل ولا غدر
إلى سَنةٍ ثم السلام عليكما ... ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
فشاع السرور في وجه عبد الملك رجاء أن يبلغ من العمر ما بلغ لبيد.
(البقية في العدد القادم)
علي الجندي