مجلة الرسالة/العدد 309/رسالة العلم
→ راعية الغنم | مجلة الرسالة - العدد 309 رسالة العلم [[مؤلف:|]] |
قصة الحرير ← |
بتاريخ: 05 - 06 - 1939 |
كيف ظهرت الحياة على الأرض؟
للأستاذ نصيف المنقبادي
أثبتنا في مقالاتنا أن الحياة ظاهرة مثل باقي ظواهر الطبيعة، وأن تقسيم ما في الطبيعة إلى كائنات حية وإلى جمادات إنما هو تقسيم اصطناعي سطحي لا يستند إلى الواقع، وتنفيه نواميس الطبيعة الأساسية المقررة في علوم الميكانيكا والطبيعية والكيمياء، إذ لا يوجد فرق جوهري بين الأحياء وبين الجمادات. فجميع ظواهر الحياة أو ما كانوا يسمونه بمميزات مثل الشكل النوعي والتركيب الكيميائي والتغذي والتنفس والنمو والتأثر والتحرك الذاتي، كل هذه موجودة بلا استثناء ولكن مبعثرة ومشتتة في الجمادات، وكل ما في الأمر أنها إذا اجتمعت في جسم واحد قيل عنه إنه كائن حي
وقد بينا بالأدلة والمشاهدات العديدة أن الأحياء خاضعة في أمورها وأحوالها وجميع ظواهرها لنواميس الطبيعة وفي مقدمتها ناموسا عدم تلاشي المادة وعدم تلاشي الطاقة، وأثبتنا بالاختبارات والأرقام أن جميع مظاهر الحياة ووظائف الأعضاء وحتى التفكير والقوى العقلية، ليس لها إلا مصدر واحد وهو الغذاء أو بالأحرى الطاقة الكيميائية الكامنة في مادة الغذاء، وما عهد القراء ببعيد بالتجارب والاختبارات الحاسمة التي قام بها أتووتر وبينيدكت وغيرهما من الفسيولوجيين بواسطة ذلك الكالوريمتر الكبير الذي شرحناه في إحدى المقالات السابقة فلا حاجة إلى التكرار، وكذلك الأجهزة الدقيقة التي تدل على ازدياد حجم المخ قليلاً مدة التفكير بورود كمية من الدم إليه، كما تدل من جهة أخرى على ارتفاع درجة حرارته مما يقطع بأن القوى العقلية تستهلك كمية من الطاقة الغذائية، وأنه ليس لها أيضاً إلا مصدر واحد وهو هذه الطاقة وليس شيء آخر سواها
وما دام الأمر كذلك فيمكننا أن نقول مقدماً إن أصلها وكيفية ظهورها على الأرض لابدّ أن يرجع إلى أسباب طبيعية، فهي ظهرت كما ظهرت أجسام أخرى كالمواد المبلورة وغيرها وكما نشأت الجبال والبحار وتكونت طبقات الأرض المختلفة وما تحتويه من مناجم الفحم والمعادن المتنوعة كل ذلك بفعل العوامل والنواميس الطبيعية
غير أن العلماء كانوا فيما مضى، قبل قيام الاكتشافات العظيمة الحالية في البيولوجي والفسيولوجيا وباقي علوم التاريخ الطبيعي، حيارى لا يدرون كيف يعللون كيفية ظهور الحياة على الأرض والتفسير العلمي الصحيح
فقال فريق منهم في أواخر القرن الثامن عشر وفي أوائل القرن التاسع عشر، منهم بوفون ومحررو دائرة المعارف إذ ذاك، ومنهم لامارك السابق لداروين في تأسيس مذهب التطور والتسلسل. قال هؤلاء إن الكائنات الحية الأولية تولدت ذاتياً من الجمادات، وهو مذهب التولد الذاتي المشهور، بل إن بعضهم بالغ في ذلك إلى الزعم بأن الأحياء السفلى الحالية مازالت تتولد الآن من الجمادات، كما يعتقد العوام خطأ بأن كثيراً من الديدان والحشرات تتولد ذاتياً من تلقاء نفسها في المواد القذرة والعفنة والمتخمرة. وقد أساءت هذه المبالغة وهذا الخطأ إلى المذهب المذكور على ما هو عليه من الوجاهة وكانت السبب في سقوطه في بادئ الأمر وقد جاءت أبحاث باستور واكتشافاته الجديدة التي قام بها في ذلك العهد تنفي - في الظاهر - ذلك المذهب وتثبت استحالة تولد الكائنات الحية الآن من الجمادات، بمعنى أن كل كائن حي مهما سفل نوعه لابد أن يتولد الآن من كائن مماثل له. وكان في الوقت نفسه قد فشلت في ذلك الحين المحاولات التي قام بها بعض الكيميائيين البيولوجيين لتركيب المواد الزلالية ولو البسيطة منها اصطناعياً. فاتخذ خصوم ذلك المذهب - مذهب التولد الذاتي - من هذا كله أسلحة لمحاربته وقتلوه في مهده.
لهذا فكر بعض العلماء أن يأتوا - بمحض خيالهم - ببذور الحياة من عوالم أخرى ففرضوا أنها تنتقل في صورة ذرات صغيرة جداً في الفضاء الكوني من بعض الكواكب إلى البعض، ومتى سقطت على كوكب صالح للحياة تنمو وتتولد منها الكائنات الحية البسيطة ثم المركبة. وبالغ أحدهم وقال إن تلك الجراثيم الكونية لا تؤثر فيها الحرارة - حرارة الكواكب الملتهبة وحرارة الشهب والنيازك التي تحملها أحياناً وتسقط بها على الكواكب والسيارات مثل الأرض وغيرها - وقد سماها أي الأحياء النارية.
ولكن هذه الفروض التخمينية فضلاً عن أنها خيالية محضة لا تستند إلى دليل علمي؛ فإنها لا تحل الأشكال بل تبعد حله بأن تنقله من أرضنا إلى عوالم أخرى. إذ لنا أن نتساءل: وكيف وجدت الحياة في تلك العوالم الأخرى التي انتقلت إلينا منها الجراثيم الحية؟ ويبقى علينا أن نبحث في أسباب وظروف تكوين تلك الجراثيم في باقي الكواكب والسيارات.
وفوق هذا فإن تلك الفروض التخمينية مخالفة لروح البحث العلمي؛ لأنه إذا كان الكربون والآزوت والهيدروجين والأكسوجين وبعض المعادن الأخرى التي تتركب منها المواد الحية قد امتزجت طبيعياً وكونت تلك المواد في العوالم الأخرى فلماذا - وهي موجودة جميعها على الأرض - لا تمتزج هنا أيضاً وتولد المادة الحية كما فعلت في غير الأرض؟ أليس أساس كل علم أن نفس الأسباب تنتج نفس النتائج؟
لهذا كله وجب علينا أن نواجه الحقائق العلمية في حد ذاتها على ضوء الأبحاث والاكتشافات الحديثة وغير متأثرين بالآراء والمذاهب القديمة الموروثة، وأن نرجع إلى الحالة التي كانت عليها الأرض وقت ظهور الحياة لنستخلص من ذلك مصدرها - أي مصدر الحياة - وكيفية نشوئها وأسباب ذلك. وهذا ما أخذه العلماء على عاتقهم في الخمسين سنة الأخيرة.
قلنا إنه ما دامت الحياة ظاهرة طبيعية فلا بد أن تكون ظهرت على الأرض بفعل العوامل الطبيعية وهذا هو الواقع.
الواقع أن مواد الأجسام الحية النباتية والحيوانية تشتق رأسا الآن من الجمادات، وتتكون منها مباشرة في كل لحظة أمامنا، وعلى مرأى منا. فمن أين جاءت المواد الحية التي تبنى بها أجسامنا منذ تكوينها من بويضة صغيرة جداً لا ترى إلا بالميكرسكوب؟ لا شك في أنها تكونت من الغذاء. وقد بينا في المقالات السابقة أن المواد الغذائية تشتق من الجمادات وتتكون منها، فالحيوانات آكلة اللحوم تتغذى بالحيوانات النباتية وهذه تتغذى من النباتات، والنباتات تركب أنسجتها وتحصل على غذائها من الجمادات، فمادتها الخضراء (الكلوروفيل) تستعين بطاقة الشمس الإشعاعية وتحلل غار حمض الكربونيك المنتشر في الجو، وتنتزع منه الكربون وتمزجه بالماء فتؤلف منه السكر والنشا ثم الأحماض والقلويات العضوية والمواد الدهنية. وفي الوقت نفسه تمتص جذورها التراكيب الآزوتية من الأرض ذائبة في الماء وتمزجها بالمواد الكربونية المذكورة بفعل قوة الشمس أيضاً فتنتج المواد الزلالية الموصوفة بالحية. وهكذا تتركب الآن باستمرار جسام الكائنات الحية من الجمادات المنتشرة في الجو وعلى الأرض بفعل قوة الشمس وبواسطة الكلوروفيل.
وقد توصل الكيمائيون إلى تركيب الكثير من المواد العضوية النباتية والحيوانية من الجماد رأساً كما تفعل الطبيعة، فنجحوا مثلاً في الحصول اصطناعيِاً على المواد السكرية والنشوية المختلفة وعلى معظم المواد الدهنية وعلى الكثير من المواد العضوية الأخرى كالقلويات التي تستعمل في الطب، والعطور المختلفة. والأهم من هذا أنهم ركبوا كيميائيًّا من مواد معدنية محضة حامض النمليك الذي يدخل فيه الآزوت وهو النواة الكيميائية للمواد الزلالية، ثم ركبوا بعضاً من هذه المواد مثل زلال اللبن (مادة الجبن) ومثل البروتيين الناتجة من هضم المواد الزلالية في الحيوانات والنباتات، ومثل الكبراتين التي تدخل في تركيب أظافر الإنسان والحيوانات الفقرية الأخرى. وهذا النجاح يبشر بقرب الوصول إلى تركيب المواد الزلالية العليا الموصوفة بالحية كما بينا كل هذا في المقالات السابقة. . .
ومن الغريب الذي يدعو إلى الإعجاب أن بعض الكيميائيين مثل دانيال برتولو وجوديشون سلكوا في تركيب السكر والحمض النمليك الآزوتي المتقدم ذكره نفس الطريق الذي تتبعه الطبيعة بأن سلطوا الأشعة فوق البنفسجية المنبعة من بخار الزئبق على خليط من الماء والحامض الكربونيك وبعض تراكيب الآزوت المعدنية البسيطة
فما تصنعه الطبيعة الآن تحت نظرنا وأمام أعيننا من إنشاء المادة الحية رأساً بفعل طاقة الشمس ولكن بالواسطة - أي بواسطة المادة النباتية الخضراء (الكلوروفيل) - بل ما يصنعه الإنسان في معامله إلى حد ما، ألم تستطعه الطبيعة رأساً بلا واسطة في الزمن البعيد حيث كانت ظروف الشمس والأرض أكثر ملاءمة من الآن؟
فقد كانت الشمس في ذلك الماضي البعيد جدّاً الذي لا يقل عن خمسمائة مليون سنة من الكواكب الزرقاء أو البيضاء من الدرجة الأولى، تزيد حرارتها عما هي عليه الآن بمراحل، وكانت - على الأخص - تشتمل على الكثير من الأشعة فوق البنفسجية، وهي كما لا يخفى توجد وتنشط التفاعلات الكيميائية على اختلاف صورها. . .
وكانت الأرض من جهتها مرتفعة الحرارة لقرب عهد انفصالها من الشمس. وفوق هذا فإنها - أي الأرض - كانت في ذلك الحين مسرحاً لكثير من إشعاع الراديوم والأجسام المماثلة له التي كانت توجد كميات وافرة على سطحها. وكانت تنبعث من هذه الأجسام الإشعاعية الكثير من غازات الهيدروجين والهليوم الجديدة، ومن المقرر في علم الكيمياء أن الغازات المستجدة تكون أكثر قابلية للامتزاج بغيرها من المواد الأخرى.
فنتج من كل هذه العوامل مجتمعة أن نشطت التفاعلات الكيميائية على الأرض وفي الماء وامتزجت المواد المختلفة بعضها بالبعض، وعلى الأخص الكربون والآزوت والهيدروجين والأكسجين وبعض المواد المعدنية الأخرى على صور شتى عديدة فتولدت على هذا النحو ما يسمونه بالمواد العضوية البسيطة، أي بعض تراكيب الكربون، ثم المواد العضوية الأكثر تركيباً ومنها الأحماض الآزوتية مثل حامض النمليك وغيره. وهذه امتزج بعضها ببعض وبالأحماض الفسفورية فأدت إلى المواد الزلالية البسيطة ثم العليا الموصوفة بالحية. وكان هذا أول مظهر للحياة وأبسط صورة من صورها
وتطورت هذه المواد الزلالية بفعل العوامل الطبيعية وتحول بعضها إلى الحيوانات الأولية ذات الخلية الواحدة، وبعضها إلى النباتات الأولية، وثالثة إلى النباتات الفطرية وهي الحلقة المتوسطة بين الحيوانات والنباتات كما بينا ذلك في مقالنا الأول
وتسلسلت من هذه الأحياء الأولية البسيطة الحيوانات والنباتات السفلى ثم العليا في مختلف العصور الجيولوجية التي دام كل منها عشرات الملايين من السنين مما سنشرحه في مقالات قادمة ونبين أسبابه ونأتي على الأدلة والمشاهدات والاختبارات المؤيدة له
غير أن حرارة الشمس أخذت تنقص بالتدريج في مئات الملايين من السنين، كما نقصت أشعتها فوق البنفسجية فأصبحت عاجزة عن تركيب المواد الحية من المواد الجامدة أو المعدنية من تلقاء نفسها كما كانت تفعل في بادئ الأمر، فاستعانت على ذلك بالكلوروفيل كالرجل المتقدم في السن يستعين على رؤية الأشياء بالنظارات. ذلك لأن النباتات كانت قد ظهرت على الأرض على الوجه المتقدم بيانه منذ ذلك الحين
فضعف الشمس الآن هو السبب في استحالة التولد الذاتي في الظروف الطبيعية الحالية، وهذا ما يفسر مدلول أبحاث باستور وتجاربه المشار إليها فيما تقدم. فإن هذه الأبحاث والتجارب لا تدل إلا على استحالة التولد الذاتي في عصرنا الحاضر ولكنها لا تنفي إمكان ذلك في بدء ظروف الطبيعة على الأرض
كان الناس في بدء نشوء النوع الإنساني قبل اكتشاف الكبريت والفسفور، وقبل أن يستنبطوا أحداث الشرر من احتكاك بعض الأحجار الخاصة بالبعض - يعتقدون أن النار سر من وراء الطبيعة لا يستطيع البشر أن يخلقوها، وأن كل نار لا بد أن تولد من نار أخرى سابقة لها، كما يعتقد جمهور الناس الآن في الحياة والكائنات الحية
فكانوا في ذلك الماضي البعيد إذا شاهدوا حريقاً نشأ مثلاً بفعل العوامل الطبيعية كانقضاض صاعقة على شجيرة يابسة أو على كمية من الحطب أو الحشائش الجافة، يوقدون منه ناراً دائمة في مغاورهم ومساكنهم يتخذونها كخميرة يولدون منها النار كلما أرادوا إحداثها لحاجاتهم الشخصية، وهذا هو منشأ عقيدة عبادة النار التي تسلسلت منها عادة المحافظة على مصابيح أو شموع صغيرة تضاء في المعابد والمساكن لأغراض دينية
ومع أن الإنسان اكتشف بعد ذلك الوسائل الاصطناعية لإحداث النار كلما شاء إلا أن تلك العادة ما زالت باقية إلى الآن، شأن كل فعل أو صفة مكتسبة يجري العمل عليها الزمن الطويل فإنها تتأصل وتصبح آليةً، وعلى هذا النحو نشأت الغرائز في الحيوانات والإنسان كما شرحنا ذلك في مقالنا الأخير عند الكلام على نشوء الغريزة الاجتماعية والأخلاقية في الإنسان والحيوانات الاجتماعية الأخرى كالقرود العليا والنمل
وهكذا الحال بالنسبة للحياة؛ فأنه نظراً لعجزنا الحالي المؤقت عن تكوين المادة الحية اصطناعية، نظن أنها سر من وراء الطبيعة، وأنها تختلف عن باقي ظواهر الكون وأنها لم تظهر على الأرض بفعل العوامل الطبيعية، بل هي من عالم آخر كما يتوهمون. فنحن الآن بالنسبة للحياة على ما كان عليه أجدادنا البعيدون بالنسبة للنار قبل اكتشاف وسائل إحداثها اصطناعياً.
على أن هذا كل الوهم سوف ينقشع ويتلاشى في المستقبل حين يتوصل العلماء نهائياً إلى تركيب المادة الحية في معاملهم. وقد بينا فيما تقدم وفي المقالات السابقة أنهم أوشكوا أن يصلوا إلى هذه النتيجة الهامة حيث خطوا خطوات تذكر في هذا السبيل فقد صنعوا كيميائياً بعض المواد الزلالية سالفة الذكر وهم في طريق صنع المواد الزلالية العليا المسماة (بالمواد الحية). ومتى وصل العلم إلى ذلك الحد تصبح الحياة ظاهرة طبيعية في نظر جمهور الناس ينظرون إليها كما ننظر إلى النار الآن بعد اكتشاف الوسائل التي تجعلنا نحدثها كلما شئنا.
نصيف المنقبادي المحامي
دبلوم في الفسيولوجيا العليا الحيوانية والنباتية من كلية العلوم بجامعة باريس (السوربون)