مجلة الرسالة/العدد 307/رسالة النقد
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 307 رسالة النقد [[مؤلف:|]] |
الكتب ← |
بتاريخ: 22 - 05 - 1939 |
5 - في سبيل العربية
كتاب البخلاء
للأستاذ محمود مصطفى
كان يصح أن أجعل موضوع حديثي اليوم ما أفضى إليّ طالب بالسنة التوجيهية بإحدى مدارس وزارة المعارف بالقاهرة، فقد جلس الطالب إلى جانبي في بعض مراكب (الترام) وجعل يشكو إليّ (على غير علم بأني ناقد كتاب البخلاء) من أنه قد يعرض للطلبة توقف في فهم بعض أغراض الشارحين للكتاب فيبدو لهم أن يناقشوا أستاذهم في ذلك، فيوصد باب التفاهم معهم بقوله: إذا قال الجارم بك وجب الإذعان. وهكذا يميت الأستاذ في نفوس طلابه حب البحث ومعالجة الحقيقة بكلمة لعله يرجو أن تصل إلى صاحبها فتكون شفيعاً له. ولكن ما أدناها من شفاعة إذا كان الأستاذ يعلم صواب ما يريد طلابه مناقشته فيه فيحتجنه عنهم ابتغاء مرضاة رئيسه.
ولكنا نعود إلى عملنا في نقد الكتاب راجين من حضرات المدرسين بالسنة التوجيهية، وهم الذين يدرسون الطلاب هذا الكتاب ويعدونهم للامتحان فيه بمناقشة معانيه وتوجيه مراميه راجين منهم أن يزنوا كلامنا حتى إذا آمنوا بصدقه عادوا إلى طلابهم فصححوا ما كانوا قد مروا به من سقطات الكتاب ليؤدوا بذلك أمانة العلم كاملة إلى طلاب لا لوم عليهم إذا قبلوا حقائق تقول وزارة المعارف إنها محضتها فارتضتها غذاء لعقولهم.
ص 91 يقول خالويه المكدي لابنه:
(ولست أرضاك وإن كنت فوق البنين، ولا أثق بك وإن كنت لاحقاً بالآباء، لأني لم أبالغ في محبتك)
هكذا أورد الشارحان كلمة (محبتك) وعلقا على الجملة بقولهما:
(ولست أرضاك) أي لسري وثقتي. (وإن كنت فوق البنين) أي فوق أبنائي منزلة. (ولاحقا بالآباء) أي لأنك كبير السن. (لأني لم أبالغ في محبتك) لأني لم أجاوز الحد في تقدير محبتي إياك وهذا التفسير خطأ في ذاته ينقض آخره أوله؛ إذ كيف يجعله أولاً فوق البنين ثم لا يكون مبالغاً في محبته! وهل فوق محبة البنين محبة؟!
كان يكفي هذا التناقض لعدول الشارحين عن شرحهما وبحثهما عن تصحيف أو تحريف لعله يكون قد وقع في الجملة، ولكنهما لم يفعلا وقبلا هذا التناقض في سطرين متوالين من شرحهما.
والذي أراه أن كلمة (محبتك) مصحفة عن كلمة (محنتك)، والمحنة الاختبار. فيكون الذي منع الوالد من أن يجعل ابنه موضع سره ليس نقص محبته ولكن نقص تجربته له
أما كون الأب لم يجرب ابنه فذلك معقول، جائز خصوصاً إذا كان الأب كخالويه هذا قضى حياته موكلاً بفضاء الأرض يذرعه
وفي الصفحة عينها يقول خالويه هذا متحدثاً عن ماله: (ولم أحمد نفسي على جمعه كما حمدتها على حفظه لأن بعض هذا المال لم أنله بالحزم والكيس)
والمعنى في ذلك واضح، فهو يقول أن بعض هذا المال صار إليّ من غير تعب أو محاولة في جمعه، كان صار إليه من هبة أو ميراث، فلا يكون له فضل في الحصول عليه. ولكن الشارحين يقولان في معنى الجملة الأخيرة: (لأني لم أسلك في جمع بعضه طريق الحكمة والحزم).
وهذه عبارة ناطقة بأنه سلك في جمع هذا البعض طريقاً غير طريق الحكمة والحزم
في ص 106 يصف الجاحظ رجلاً بأنه عضب اللسان عارف بالغامض من الأمور فاهم للدقيق من المحاسن لا يسكت على عيب في الناس إلا ندّد به وشهّر، ثم يقول عنه بعد ذلك:
(وإن ثريدته لبلقاء إلا أن بياضها ناصع، ولونها الآخر أصهب. ما رأيت ذلك مرة ولا مرتين).
فيقول الشارحان بعد أن فسرا البلقة بأنها بياض وسواد أو بياض وحمرة: ويظهر أن هذا التلون في الثريدة يكون من قلة الدسم أو رداءة المرق وقلته، حتى ليكون بعض الثريدة مشبعاً به وبعضها ليس كذلك. اه
والظاهرة العجيبة في هذا الشرح أن الشارحين يذكران فيه شيئاً غير معقول لأحد، حتى لهما أنفسهما، ذلك أنهما ينسبان هذا التلون في الثريدة إلى قلة الدسم، فكيف يتصوران هذا؟ لاشك أنهما فرضا هذا الدسم صبغاً كصبغ الحيطان أو صبغ البيض في شم النسيم! حين ذاك حقيقة تكون قلة الدسم كافية لأن يظهر بعض الثريدة بلون الخبز الأصلي وهو البياض، وبعضها وهو الذي ناله الصبغ يكون من نصيبه تلك الصهبة، كذلك تعليلهما هذا التلون بقلة المرق أو رداءته. وما ندري كيف جاز هذا في رأيهما ولم يقل به طاه ولا طاهية؟
إنما الذي يصح أن يفهم من اختلاف لون الثريدة أن الرجل كان يقدمها إلى ضيفانه وقد كسي بعضها باللحم وترك جانب منها لا لحم عليه، فظهر هذا أبيض ناصعاً بلون الخبز، وذلك أصهب بلون اللحم. ويكون ذلك عيباً كبيراً ومسبة شنيعة في كرم الرجل لأنه لم يجر على عادة الناس من تغطية جميع الثريدة باللحم. فإذا كان قد زاد على ذلك أنه جعل ما يليه من الثريدة هو المغطى باللحم يكون قد ارتكب إلى جانب البخل رذيلة أخرى هي رذيلة الأثرة على من يجب نحوهم الإيثار
ويؤنسك بهذا المعنى قول الجاحظ تلو هذا الكلام: (وكنت قد هممت قبل ذلك أن أعاتبه على الشيء يستأثر به ويختص به. . . فلما رأيت البلقة هان على التحجيل والغرّة)
يريد أنه كان يرى من هذا الرجل استئثاراً بالشيء دون جلسائه، ولكن ذلك يكون خفي الوضع ليس في شناعة تمييزه لنفسه على الخوان بجعل الثريدة التي يأكل منها على حال غير التي يجعلها أمام الناس من مضار مائدته، فلما رأى منه ذلك لم يروجها لنصحه لأنه لا يقدم على هذا إلا مصرّ غير مبال بذم الناس ونقدهم
ص 109 يقول الجاحظ للحزامي وقد اتهمه بالإسراف وتضييع الحزم حين رآه يلبس من ملابس الشتاء قبل أبانه: (وأي شيء أنكرتَ منا منذ اليوم). فيعلق الشارحان على قوله (أنكرت) بقولهما: أي جحدت واستقبحت من أمرنا.
وقد جمعا في التفسير بين معنيين متضاربين فإن الجحود ادعاء جهل الشيء مع علمه وهو لا يلتقي مع الاستقباح، إذ هو إعلان الرأي بقبح الشيء
والواقع أن الإنكار يفسر بالمعنيين، ولكن ليس يلزم من هذا أن يفسر بهما معاً في مقام واحد. فالمراد هنا هو المعنى الثاني فقط وهو الاستقباح، فأما الجحود فلا محل له كما هو واضح من مقام الكلام
وقد وقع الشارحان في هذه الغلطة نفسها في ص 129 حين أورد الجاحظ وصف الجارود لطعام عبد الله بن أبي عثمان فقال: (يُعْرَفُ ويُنْكَر). فقال الشارحان في التعليق على ذلك: ينكر من الإنكار وهو الجحود والمراد يُحَبُّ ويُكْرَه. فجمعا في التفسير اللغوي وبيان المراد بين المعنيين وهما الجحود والاستقباح لأن مقصودهما من قولهما (يُكْرَه) إنما هو أنه مستقبح. فبان من ذلك استساغة الشارحين للمعنيين معاً وجمعهما في تفسير كلمة الإنكار حيث وجدت، مع أنها إذا فسرت بأحدهما امتنع تفسيرها بالآخر في نفس المقام. وهذا ظاهر
ص 114 يحكي الجاحظ عن الحزامي:
(كان يقول: أشتهي اللحم قد تهرأ وأشتهي أيضاً الذي فيه بعض الصلابة
وقلت له مرة: ما أشبهك بالذي قال أشتهي لحم دجاجتين)
فيعلق الشارحان على قوله: (وقلت له مرة) بقولهما: أي لما قال أشتهي اللحم. . وكان مقتضى الظاهر أن يقول فقلت له. اه
يتعب الشارحان أنفسهما في محاولة ربط الكلام بعضه ببعض ولكنهما في سبيل ذلك يعدلان عن صواب إلى خطأ ويحملان اللفظ ما لا يحتمله من المعاني، ويتقولان على القائل ما لم يقل، أو يستظهران ما لا داعي إلى استضهاره. ومن ذلك قولهما هنا: كان مقتضى الظاهر أن يقول فقلت له (أي بدل وقلت)
ونرى أنه لا داعي لهذا فإن عبارة الحزامي (أشتهي اللحم الذي قد تهرأ) كانت هجيّراً، ومن لوازمه المأثورة عنه فقال له الجاحظ في مرة من المرات التي كان يرددها فيها: ما أشبهك الخ.
والدليل على ذلك قول الجاحظ: (وكان يقول) ولو كان قد قالها مرة واحدة كما ظن الشارحان لقال: (وقال مرة) فتكون ملاحظتهما جائزة
فبان أن الخروج عن مقتضى الظاهر لم يكن من الجاحظ وإنما كان من الشارحين
ص 115 يروي الجاحظ قصته فيقول:
(وكنا عند داود بن أبي داود بواسط أيام ولايته كَسْكر فأتته من البصرة هدايا فيها زقاق دبس فقسمها بيننا، فكل ما أخذ منها الحزامي أعطي غيره). فيضبط الشارحان كلمته كل بالضم ويعلقان على الجملة بقولهما: (أي فجميع الذي أخذه الحزامي من هذه الزقاق فرقه على أصدقائه. فمفعول أعطى الثاني محذوف)
وهذا الضبط خطأ ويتبعه خطأ الإعراب أيضاً، والواجب ضبط الكلمة بالفتح فتكون مفعولاً ثانياً مقدما لأعطى. والقاعدة أن الفعل إذا كان يطلب مفعولاً فما دام في حيزه ولا مانع من وصوله إليه لم يجز منعه عن العمل فيه. وعلى هذا يكون تقدير الجملة أعطى الحزامي غيره كل ما أخذ من الزقاق
(ملاحظة): سنراعي جانب الإيجاز البالغ فيما بقى من المآخذ على الكتاب. وربما انتهينا من ذلك في مقال أو اثنين لأننا نعتقد أن على الرسالة حقاً لقرائها في تنويع القول وتلك هي سنتها معهم.
محمود مصطفى