الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 306/من برجنا العاجي

مجلة الرسالة/العدد 306/من برجنا العاجي

بتاريخ: 15 - 05 - 1939


من المسؤول عن فتور الحركة الأدبية الملحوظ في مصر؟ لا ينبغي أولاً أن نعلل ذلك بالحوادث الدولية، فإن الفتور كان دائماً موجوداً في جونا الأدبي قبل أن تنشأ هذه الظروف. ثم إن المشاكل السياسية وتأثيرها في النفوس والشعوب لم تحل في أوربا دون اهتمام الناس بشؤون الفكر وعناية الجمهور بالكتب والأدب، فما زالت الصحف الأدبية تتحدث هناك عن ظهور الكتب الجديدة والأدباء الجدد بعين الحماسة التي تتحدث بها في كل زمان. وما زالت المسابقات الأدبية والجوائز السنوية تهز الناس وتثير نشاط الكتاب كما تفعل في كل حين فأحداث السياسة مهما عظم خطرها لا يمكن أن تشل في أي بلد متحضر حركة الفكر والفن فيها. فالأمة الراقية شأنها شأن الإنسان الحي مهما عرضت له من الحوادث فإن رأسه دائماً هو الرأس اليقظ الذي لا يني عن التفكير.

إذن ما بال هذا الرأس في بلدنا نائماً؟ وما بال الناس لا يشعرون أن في مصر أدباً يتحرك ويتطور؛ وان فيها أدباء يعملون وينتجون؟ ما يكاد يمضي شهر حتى تخرج المطابع كتباً في الشعر والنثر، وما يكاد يمر يوم حتى يجيئني البريد بكتاب جديد أو بديوان شعر جديد. كم من الأدباء الجدد والكتاب الناشئين يخرجون عندنا في كل عام أعمالاً جديرة بالكلام؛ بل كم من الأدباء الناضجين ينشرون آراء خليقة بالمناقشة؛ ولكن كل شيء يمر في فتور كأنها نسمات في مدينة الأموات. ما العلة؟ العلة بسيطة. ما من أحد في هذا البلد يبدو علي التحمس الملتهب لشؤون الفكر والأدب. إن علة الفتور هي الأدباء أنفسهم. إنهم في ميدان الأدب أقل نشاطاً منهم في ميدان السياسة مثلاً. إنهم يكتبون في الأدب وكأنهم ناعسون. إن أقلامهم لا تثير في جو الفكر حراكا. وهنا الفرق بين أدبائنا وأدباء أوربا. إنهم هناك في يقظ أدبية ومن كان في يقظة استطاع أن يوقظ الآخرين.

توفيق الحكيم

طريق علاج المشكلة

وبعد. . . يا أيها الأغنياء؟!

للأستاذ علي الطنطاو ألم يأنِ لكم أن تخشع قلوبكم، وتلين أفئدتكم؟ أفقدت من حجر؟ إن آيات (الزيات) البينات تلين الحجر، فما لقلوبكم ما رقت ولا لانت؟ إلا تكلفون نفوسكم تحريك أجفانكم وفتح عيونكم لتروا صرعى البؤس، وضحايا الفاقة، ماثلين لكم في كل سبيل، فتأخذكم بهم رحمة الإنسان، وتعرو قلوبكم لهم رقة المؤمن؟ أني لأحاول أن أفهم كيف تزينون لأنفسكم حالكم، وتبررون أعمالكم، فلا أستطيع. . . لا أستطيع أن أتخيل كيف يهنأ صاحب القصر بطعامه وشرابه، وكيف يدلل صبيته ويضاحك عياله، وعلى عتبة قصره، وتحت شبابيكه، صبية مثلهم برءاء، ما جنوا ذنباً، أطهار ما كسبت أيديهم جريرة، يبكون من الجوع ويشتهون قطعة من الرغيف الذي يلقيه الغني لكلبه السمين، يتمنون ويتمنى آباؤهم قرشاً من الجنيه الذي يرميه الغني في الهاوية الخضراء التي يسموها (مائدة القمار) أو يذيبه في كاس السم التي يدعونها (الشمبانيا) ثم يخرج جنيهاً غيره بعد لحظة ليتبعه الأول، ويتبع به عشرات. . . يتمنون هذا القرش الواحد ليعيشوا به يوماً، ويملئوا به بطونهم خبزاً، فكيف تضنون على الإنسان المسكين بالقرش، وتنفقون الألوف على الشيطان، وعلى خراب الأبدان والأوطان والأديان؟

إننا نقرأ في الصحف من أنباء أوربا وأمريكا أن لأغنياء لقوم مآثر وعطايا، ولهم في كل مكرمة السهم الراجح والقدح المعلّى، ونسمع أن فيهم من يعطي العطية وهو مستتر مستحٍ لا يحب أن يدعى باسمه، وإنما يتسمى من التواضع والحياء بـ (فاعل الخير). . . فما لأغنيائنا الذين يقلدونهم في عيوبهم ومثالبهم، لا تشبهون بهم في مزاياهم وفعالهم؟ وما لأغنيائنا دون أهل الأرض قد اختصوا (بفضيلة. . .) الترفع عن الفقراء، والتعالي على أبناء هذه الأمة التي انحدروا منها وبفضلها عاشوا، وإنكارها إنكاراً ظنوا معه أنهم من طينة غير طينتها، وأن الله صنعهم من الأسمنت حين صنع البشر من الطين، وأنهم أنباء ماء السماء والناس بنو (ماء الأرض. . .؟).

أكانت علة ذك أنهم شرقيون، وكان لسبب هذا الشرق المظلوم، المتهم بكل نقيصة؟

قد يقول ذلك المفتونون بالغرب من ضعاف الأحلام ومرضى العقول، في حين أن الكرم والإيثار بضاعة شرقية، من الشرق قد صدرت. . . ولقد بلغ بالعرب حب اكرم مبلغ الإفراط، وزاد حتى كاد ينقلب نومة يؤخذون بها، فكيف يستقيم في المنطق (مع هذا) أن يكون هؤلاء الأغنياء بخلاء لأنهم شرقيون، أو لأنهم عرب؟ وهذه عادات العرب، وهذا دينهم هو القانون الأوحد الذي يحل مشكلة الغني والفقير، والذي يرد عن العالم هذا الوحش الكاسر الذي جاء يحتويه بين فكيه اللذين هما الشيوعية والفردية، ويدعه أثراً من الآثار، فكيف تظهر مشكلة الغني والفقير في البلد الذي يدين أهله بهذا الدين؟

لا. ليست الشرقية علة هذه المشكلة، ولكن العلة كفر هؤلاء القوم بالشرقية ودينها وعاداتها كفراً لا يصلح معه تنبيه ولا بيان، وإنما يصلحه أن ينشأ أبناء هؤلاء الأغنياء الأشحة على الخير، الأسخياء على الشر، نشأة أخرى ينقلبون معها ناساً آخرين، ولا يكون ذلك إلا بالمدارس والأدب، ولقد كان عندي في إحدى مدارس دمشق فصل (صف) فيه أبناء أفقر الفقراء، وأنباء أغنى الأغنياء، وكانوا في الفصل منفصلين. . . كأنهم في معسكرين، وكان هؤلاء يأتون إلى المدرسة بالسيارات ويوصلهم إلى بابها الخدم يحملون كتبهم كيلا تتعب بها أيديهم الناعمة، ويدخلون الفصل مزهوين بثيابهم الجديدة، وأولئك ينظرون محسورين ملوعين. فما زالت (والله) بهم أبين لهم أن الفضل بالعلم والخلق والجد لا بالمال والثياب والمظاهر، وأضرب لهم الأمثلة بعمر وعلي وابن عبد العزيز ولنكولن والشيخ طاهر، وانزل بالأغنياء لأعلمهم فضيلة التواضع، وأرتفع بأولئك لألقنهم فضيلة العزة، حتى صار بنو الأغنياء يستحيون أن يأتوا بالسيارات ويتوارون حياء وخجلاً إذا جاءتهم عند منصرف التلاميذ لتحملهم إلى دورهم وقد كانوا لا يستحيون ولا يخجلون. وكانت النتيجة أن المعسكرين قد انقلبا إخواناً متصافين وظهر في كليهما تلاميذ نابغون ما كانوا لينبغوا أبداً لولا أن ألقوا من نفوسهم مذلة الفقر وكبرياء الغنى واستبدلوها بعزة الكرامة وعظمة التواضع!

فيا ليت أن المدرسين ينتبهون جميعاً إلى هذا الأمر فيسدون إلى الأمة يداً ويكسبون من الله أجراً، فإنه لا شيء أشد على نفس الفقير من أن يتحكم فيه أو يسمو عليه ابن الغني. وأنا (قد) أحمل ما أرى من صلف الغنى وأوهم نفسي انه قد كسب ماله بيده وجده فحق له أن يستمتع بثمرته، أما أن أرى الصلف من ابنه فلا. . . فيا أيها الأغنياء لا تحملوا أبناءكم على رقاب الناس، فأنكم لا تدرون كم عدواً تكسبون لهم، وماذا تفسدون من طبائعهم حين تأبون إلا أن تدللوهم هذا الدلال، وتترفعوا بهم إلى حيث تبلغ أيديكم وأموالكم، حين تمكنونهم من أولئك الذين ساقهم الفقر إليكم، واضطرهم فكانوا لكم خولاً أو أجراء، فيشمخون عليهم بآنافهم الصغيرة ويذيقونهم ألوان الأذى، والطفل (في الطبع) لا يعرف الرحمة، ولا يدري ما العقل فكيف وهو ابن الغني قد ورث القسوة وتطبع عليها وقلد فيها أباه؟ وإنا لنرى نحن المدرسين من ذلك العجب. . . هذا تلميذ يأخذ كل يوم من أبيه ما يقيم أود أسرة من هذه الأسر الجائعة فلا ينفقه إلا في الشر، والمال يذهب من حيث أتى. . . رأيته يضن على رفيق له فقير بقرش يقرضه إياه قرضاً ليشتري به رغيفاً يتغدى به، ويشتري بسعة عشر قرشاً فرنّية (كاثو) يطعمها على مرأى منه لكلب له صغير مدلل يسوقه معه إلى باب المدرسة ثم يعود به الخادم في السيارة. وأبوه الغني يسمع بهذا فلا ينكره ولا يأباه. كأن الله قد خلق الناس بقلوب، وخلق هؤلاء بجيوب، فأبدلهم بالعواطف المال، فهم لا يحسون ولا يشعرون ولا يدركون أن الله ما نقص من مال الفقير إلا ليتخذ له في الآخرة إن صبر ذخراً، ولا زاد في مال الغني إلا لينظر أأعطى وشكر، أم بخل واستكبر، ثم لا يكون الغني إلا خازناً لهذا المال يحاسب به يوم القيامة فيشدد عليه الحساب. أفرأيت خازناً في مصرف أو شركة يطن أن المال ماله، فيخالف فيه أمر أصحابه، ويمنعه عمن هو حق لهم؟

المال أيها الأغنياء مال الله فإن زاد لم يمكن إنفاقه إلا على الخلق (عيال الله)، فأروني كيف تأكلون الذهب، وتلبسون (البنكنوت)، وتسكنون صناديق الحديد؟ أن هي إلا معدة تمتلئ بما يقذف فيها والجوع لها خير أدام، وجسد يستقر بما يلقى عليه والنظافة له أحسن حلية، وبيت يكِن من الحر والقر، ولذائذ محللة ميسورة، وما وراء هذا إلا أكل يفسد الهضم، أو وزناً يهد الجسم، وخمر تحر الأحشاء، وبلايا معها بلايا أخرى من عذاب الضمير والغفلة وضياع الإيمان، أو مآثر تنفع الناس، وترضى الله، ويجد صاحبها مكافأتها الاطمئنان والمجد في الدينا، والثواب من الله في الآخرة، وهذه حكمة واحدة من حكم الله في الغنى والفقر لو تدبرتموها لفتحت آذانكم فسمعتم كلمة الحق، وكشفت الغشاوة عن عيونكم فقرأتم في خلق الله وفي كتابه آيات الهدى، ولكن اللذاذات قد شغلتكم يا أيها الأغنياء الأغبياء!

على أنه ليس اشد على الفقراء من منع الغنى المترف صاحب الأطيان والمتاجر وبخله وصلفه وتبذيره. . . إلا الموظف الكبير الذي ينال وهو قاعد على كرسيه لا عمل له إلا تشريف أوراق الدولة بتوقيعه الكريم فينال الثمرة التي يتعب فيها الفلاحون، يجدون ويشتغلون في وقدة الضحى تحت الشمس المسعرة، وفي زمهرير الليل تحت النجوم التي ترتجف أشعتها من البرد، ليقدموا لهذا الموظف الكبير ثمن سيارته التي يسوقها ابنه خلال الحقول تياهاً مستكبراً، وقصره الذي يلوح بين بيوت القرية كالجبار العابس الباسر، وثمن كأسه المحرّمة ولذته المنكرة، ويذهبون فيأكلون خبز الشعير وينامون على الحصير. هذا الموظف الذي لا يكفيه وحده ما يدفعه أربعون من صغار (المكلفين) تباع فرشهم من تحتهم وقدورهم وثيابهم لتؤدي من تحتها الضريبة. هذا الموظف يستعلي ويستكبر ويقبض يده عن الإحسان ويبسطها في سبل السوء، ويتشبه بأولئك الأغنياء الأغبياء وقد يسبقهم في ذلك أشواطاً، ومن كان في شك مما أقول فليذهب إلى القرى والدساكر. . .

ولسنا والله شيوعيين ولا يرانا الله ندعو إلى هذه اللعنة (الحمراء) ولا نؤلب الناس بعضهم على بعض، ولكنا ندعو إلى (الشعور) الذي لا يكون الإنسان إلا به إنساناً، والإحسان هو شعبة من شعب الدين الإسلامي. . . فمن اختار من الأغنياء وأرباب المرتبات الضخام ألا يكون إنساناً ولا مسلماً فليفعل!

على أن ما قلنا ليس إلا صدى لمقالات الأستاذ الزيات التي تتجاوب اليوم أصداؤها في البلاد العربية، وفي الذي يقول الزيات بلاغ وزيادة.

(بغداد - الأعظمية)

علي الطنطاوي