الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 306/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 306/الكتب

بتاريخ: 15 - 05 - 1939


حياة الرافعي

تقدير ونقد

للأستاذ أبو الفتوح رضوان

كتاب (حياة الرافعي) للأستاذ محمد سعيد العريان من أجدر الكتب الحديثة باحتفاء الأدباء، وأحقها بأن يتناولها القارئ تناول تمعن ودرس، وأن يقول الناقد فيه كلمة تضعه موضعه بين كتب العربية. (فحياة الرافعي) كتاب فريد في المكتبة لأن فن التراجم لم يستقم لأي من كتاب العربية حتى الآن.

نعم إن في العربية كتباً فيها تراجم لشعراء وأدباء طالت أو قصرت لكنها ليست من ذلك في شيء، إن هي إلا ذكر بعض أخبار الشاعر ونوادره أو بعض ما اتفق له مما يكون بين الإنسان وبين معاصريه. وقد تكون غالبية هذه الأخبار ملفقة مزورة صنعها الرواة إثباتاً لأمر يريدون إثباته أو تعالماً على غيرهم بأخبار الشعراء؛ أما ترجمة التي يقصد بها إلى تصوير المؤثرات التي خلقت أدب الأديب ووجهت شعر الشاعر ولونت فلسفة الفيلسوف، فليس وجود في العربية قبل (حياة الرافعي). ومن هنا وجب أن يختفي الأدباء بهذا الكتاب إذ كثيراً ما تموت فنون من الأدب لأنها وجدت فلم يلتفت إليها أحد. فإذا كان أدب الرافعي فصلاً منقطع النضير في الأدب العربي، فكتاب سعيد العريان عن الرافعي كذلك فصل منقطع النضير.

والكتاب حقيق بأن يختفي به أيضا لأنه عن الرافعي الذي أضاف إلى العربية ثروة ضخمة من المعاني والأساليب والبيان والفن، ثم عقه أدباء عصره فما كان أحد منهم ينظر إليه أو إلى أثر من آثاره إلا بعين مطروفة. ذلك في حياته، أما بعد وفاته فرحم الله أهل الوفاة. ولقد كتب أحدهم أخيراً مقالة عن أثر المرأة في أدباء العصر، فذكر من شاء إلا الرافعي، مع أن رسالة حزن أو سحابة حمراء أو ورقة ورد واحدة كافي لأن يضعه الإنصاف المزعوم في مقدمة من ذكر.

وثمة ميزة أخرى لهذا الكتاب، وهي أنه تاريخ حافل صحيح للأدب العربي في أحدث أطواره. يكشف بجلاء عن كثير من الحوادث التي أثرت فيه ووجهته، ويوضح حوادث أديبة هامة مرت على أعين قراء العربية دون أن يتبينوا حقيقة دواعيها، ولم يأخذوها على وجهها الصحيح. ثم هو تفسير لابد منه لأدب الرافعي عامة ولعيون كتبه خاصة لابد لفهمها من قراءة فصوله.

ولقد قرأت (حياة الرافعي) منجمة على صفحات الرسالة، ثم قرأتها مجموعة في الكتاب، فكان لي فيها بعض الرأي، أحببت أن أبديه في هذه الكلمة وفاء للرافعي، وتقديراً لعمل أحد أولئك الشبان الذين يحسنون ويجيدون ثم يضيع إحسانهم وإجادتهم وسط دوي الأسماء الضخمة في هذا البلد.

لقد بينت فيما سبق قيمة الكتاب من حيث هو كتاب. على أن فيه حسنات أخرى كثيرة لو ذهب القارئ المتمعن يحصيها لاستغرقت مقالة على حدة. ففي الكتاب تمحيص للحوادث دقيق، وفيه اتزان ونزاهة في الحكم، وفيه لطف في العرض، وفيه أسلوب مشرق لا يستغرب من أحد أصحاب الإمام الرافعي، وفيه ما يضطر القارئ الدارس إلى الالتفات والوقوف.

على أن في الكتاب بعض ما كان ينبغي أن يسلم منه، وهذا ما نحب أن تنبه إليه، فإن جودة العمل محسوبة على ميزان النقد، والجمال المفرط يظهر أبسط القبح، وأشد ما تكون الذبابة إيلاماً أن تقف على وجه حسن.

ففي الكتاب بعض هنات في الترتيب والتبويب، أتت من أن المؤلف النابه كتب مادة كتابه مقالات في أول الأمر، ثم لما عن له أن يجمع تاريخه مسلسلاً في كتاب تقيد بترتيبها في المقالات فكان في بعض فصول الكتاب ما هو قلق في موضعه يحتاج إلى تقديم أو تأخير. فما موضع فصل (بين أهله) بين فصلي (شعراء عصره) و (من الشعر إلى الكتابة)؟ أليس موضعه الطبيعي بعد (في الوظيفة) حتى تتساوق فصول الرافعي الأديب؟ والحديث عن الرافعي الشاعر موزع بين فصول عديدة متفرقة ولو جمعت كلها بعضها إلى بعض لكان أجدى على وحدة الكتاب. وفصل (شعراء عصره) وهو أشبه بفصل (في النقد) وقد نبه المؤلف إلى ذلك، فأشار إليه عندما بدأ يتحدث عن الرافعي الناقد، وفصل (في النقد) مجزأ غير متتابع لأنه نشر في الكتاب كما كان في المقالات ولم يدمج بعضه في بعض، وفي أوائل الفصول كثير من وصل ما انقطع كان ضرورياً في المقالات المتباعدة وهو في الكتاب المتلاحق تعطيل للقارئ ومضايقة له، وأشد ما يظهر ذلك في فصل (في النقد)، وفي الكتاب بعض تعبيرات لا تتفق مع أسلوب كتاب كأن يقال: (وهذا له موضع غير هذا المقال) مع أن الكتاب لا يكون فيه مقالات وإنما يكون فيه فصول، ولو لم يتقيد المؤلف بمقالاته في الرسالة ذلك التقييد الشديد لقال: (وهذا له موضع في غير هذا المقام) أو في (غير هذا الفصل).

وفي الكتاب بعض الآراء والحقائق تستوقف نظر القارئ المتمعن، تشير إليها على حساب ترتيب ورودها في الكتاب

ففي ص 13 إشارة إلى حارة سيدي سالم قال عنها المؤلف إنها (حارة ضيقة أوى إليها السيد البدوي أول ما هبط من طنطا منذ ألف سنة). وقد كان قدوم السيد إلى طنطا في سنة 634 للهجرة أي منذ 724 سنة فقط. وليس هذا من صلب الكتاب ولكنه ما يحسن تصحيحه.

وفي ص 19 يقول المؤلف إن الرافعي (كان بلغته ولهجته كأنه لم يقدم من سوريا إلا منذ قريب) وهو قول لا أظن الأستاذ يعني به ما يفهمه القارئ منه، فان لهجة الرافعي - كما سمعناه يتحدث - لم يكن فيها أي أثر للهجة السورية. وكل ما يستغرب منها هي تلك النغمة الحادة التي تشبه الصراخ، والتي أشار المؤلف إلى أنها من آثار ذلك المرض التي أصابه في شبابه، فيها حبذا لو أعاد الأستاذ تحقيق هذه النقطة بالرجوع إلى تصوره وهو أعلم بها على كل حال.

وأستند المؤلف النابه فكرة الحب عند الرافعي إلى ما قرأ من أشعار العذريين من شباب العرب. فهل لم يقرأ الرافعي غير أشعار العذريين مع كثرة ما تناول من دواوين الشعراء. ولماذا لم يتأثر بشعراء (الأغاني) وقد قرر الأستاذ أنه كان دائم النظر في هذا الكتاب وفيه من الشعر والأخبار ما فيه. أليس الأجدر أن يستند ذلك إلى نشأته الدينية التي أشار إليها المؤلف (ص22) وإلى تقاليد أسرته وإلى أنه نشأ تبعاً لكل ذلك (عفيف النظر والشفة واللسان).

ثم ألا يرى المؤلف معي أن عدم شهرة الرافعي بين عامة القراء ليست راجعة إلى أناته وشدة تأنقه فيما يكتب وما ترتب على ذلك من عدم إكثاره من النشر في الصحف، بقدر ما ترجع إلى بعده عن تملق الجمهور واحتفاظه بأرستقراطية أدبه، وأنه فضل لقرائه ولنفسه أن يرتفعوا هم إليه على أن ينزل هو إليهم، كما أظن أني قرأت له في بعض أحاديثه منذ زمن بعيد.

(البقية في العدد القادم)

أبو الفتوح الرضوان

1